شهادات خاصة سعيد الكفراوي - بورتريه لخيري

قبل رحيله بأيام أربعة، كنا في مهمة أنا وهو ومحمود الورداني وبعض الرفاق الطيبين. كنا نعاين شيئا ونفحصه.. لاحظته هذه المرة ساكنا وهادئا، فلقد كان يبدو خلال أيامه الأخيرة منكسر الخاطر، وحزينا.
وكنت أستغرب من تغير الأحوال بالرغم من اقترابي من معرفة الأسباب!!
كان يكتفي بالكلام القليل، ثم ينتهي منه بفترة من الصمت يلقي علينا أثناءها نظرة متأملة طويلة بعض الشيء، مراقبا الجالسين الموجودين بطريقة تبدو غريبة عليه، وشخصي الذي يعرفه صاخبا، حكاء، جامعا لأحوال الدنيا في لحظة المقام ومكوثه وسط الأصدقاء.
كنت لم أره من مدة، واستغربت الحالة التي عليها، وتنبهت لصمته ومن ثم لشروده.
تكلمنا كثيرا حول الأمور التي يجب أن تتم بها الأشياء، وان المعيار في كل الأحوال هو الاستحقاق، وأكدنا علي أننا مادمنا هنا لابد أن يجري كل شيء وفق معايير عادلة، وأن علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد والانصاف، وأن نعتبر، وقد اختارونا، ومنحونا ثقتهم أن النتائج يجب أن تكون تعبيرا عن ضمائرنا.
ولما لاحظ خيري كثرة الملاحظات من جانبي، واصراري علي أن أوضح أمورا واضحة، حرجني بنظرة غاضبة بعض الشيء، وأشار ناحيتي بأصبعه، وقال لي:
- بقول لك إيه؟!.. أنا زهقان ومش ناقص.. روحي في مناخيري وطالع ديك أهلي من المخروبة دي.. خللينا نخلص وننتهي.
علي رصيف العمارة التي كنا بداخلها وقفنا.
لم يكن هناك حارس أو بواب، وكنا قد غادرنا الحجرة الضيقة، وتهيأنا لمغادرة الحي قديم الطراز بقصوره الأوربية، وشوارعه النظيفة، وذلك الصمت الذي يغلف كل شيء.
كان الليل قد حل ونحن نقف علي الرصيف تحت الظلال، وكان ممعنا في صمته.
ناوشته بالكلام مثل زمان، فلم يستجب.. ومضي الورداني وحده ناحية الكورنيش، وخيري أخذه الرفيق الآخر نحو سيارته، وشخصي يقف علي الرصيف وحيدا أرقبه وهو يغيب وسط الظلال والعتمة مستغربا ومندوهشا، لا أجد تفسيرا لما أراه، ولا أعرف ما تنطوي عليه روحه من ألم، هو الذي كنت أعرفه رابط الجأش، وصاحب أمنيات وأحلام مما يجعله متميزا، متجاوزا لأحزانه، وقادرا علي فهم الدنيا!!
من بين الظلال، بعد أن تجاوز الميدان سمعت صوته يأتي، ولم أكن أراه.
- ابقي اتكلم ياله.
وغاب، وأنا قد غلبتني طبيعتي فخفت!!
2
لخيري شلبي قصة لا تنسي..
دائما تخايلني، ولا تغيب عن بالي أبدا، ومن فرط عشقي لها أعاود قراءتها كل حين.
هي قصة »منخل من الحرير«.
اعتبرتها دائما بذرة بداخلها شجرة تظلل علي المجهدين، الجالسين علي نواصي السكك، وعند طلمبات المياه، وعلي شطآن الأنوار، وعلي مدارات السواقي، وبقراءتها أعتبرها كل مرة من نصوص القصص النادرة.
هي قصة عن سيدة تنخل بمنخل حرير لتصل بالدقيق للدقيق العلامة.. حرير الدقيق، الناعم المفتخر، الذي منه نعمل عجايب الخبيز.
طفلها ينام علي فخذها وهي تنخل وتنخل وصوت النخيل رتيبا يأتي بالأحلام، ويضرب ثدي الأم رأس الطفل فيمعن في أحلامه، ويسري نسغ من الحنية في الروح، ويحضر مع الهزهزة وزغدة الثدي الحلم بالخضار، ومعرفة الناس الطيبين وأغنيات تجيء من مرتقي علوي، وتنشد أمنا الأرض في الحلم أمنيات الطفل.
كنا في حضرة المعلم »يحيي حقي« فأخبرته عنها، وكان قد قرأها، يومها قال لي:
- علي فكرة يا كفراوي قصة خيري شلبي منخل من الحرير من فرائد القصة العربية.
3
زمااااان..
يمكن سنة 69 - هو الذي فكرني بتلك الحكاية - كنا نأتي من قرانا باحثين عن الأدب، وشماسي عبر بلد مثل بلدنا.. تنظر من هناك فتري الذي هنا.. غرب البلد ومعدية تروح من شط لشط وحكاء نسمعه كل ليلة يرتل السير ويقص الحكايات، ونفس واحد يشد الأعنة ويمارس الحياة.
أصعد سلالم الاذاعة في اتجاه البرنامج الثاني.. يستوقفني شخص يحمل حقيبة مكبوسة بالكتب.. بعد ذلك أمضيت عمري أراه يشبكها في كتفه حتي وهن سنه البدن فتركها ومضي خفيفا!!
سألني:
- انت الكفراوي؟
فوجئت، وكنت نشرت قصة في مجلة القصة، قال:
- أنا قرأت قصتك.. قصة حلوة.. وشفتك مرة علي قهوة ريش.
قال انه خيري شلبي وكنت أعرفه وأقرأ له.. سلمت عليه بحرارة، ومضينا نصعد الدرج..حدثني يومها علي ما أذكر عن الأدب والكتابة وكلمني عن معاناة الانسان في ذلك الوقت، وعن الحقوق، وان العدل غايب في بلدنا بنت سنسفيل اللعنة.
اقترب مني وسألني:
- إلا قول لي يا كفراوي مين أحسن واحد بيكتب عن الريف الآن؟
انجريت من لساني وانجعصت لورا وبوقاحة قلت:
- عبدالحكيم قاسم وأنا.
زغر لي خيري بعدوانية ثم شخط في:
- كده.. طب امشي يا له.
بالليل رآني علي المقهي وكان معه في ورقة جورنال ساندوتشات فول وطعمية، أعطاني نصفين وقال وهو يضحك:
- كل تلاقيك من صباحة ربنا علي لحم بطنك ومدقتش زاد. من يومها وخيري عليه رحمة الله صاحبي.
4
بين منشية ناصر وصلاح سالم مقابر المماليك.. دنيا تجمع الحي والميت في مكان أشبه بالأسطورة، وأعجب من الخيال.. ومن خروجك من نفق الأزهر، تخوض في شارع من غير اسم وتسأل عن مقهي ابراهيم الغول الذي أمام مسجد سلطان السلاطين قايتباي.. هناك ترب وناس مقيمة في الترب.. يعني الصاحي علي رأس الميت.. وهناك مقاهي ومكتب بريد وشركة كهربة وحواري ورائحة حرام تزكم الأنوف.. وهناك غرز وعاهرات وتجار صنف ومقابر بشوات بزخرفة باللون والعرائس والنجمات وآيات الذكر الحكيم وناس مغوية بغواية الفرار من الدنيا سائرة لميعاد وربك ستار من الفضائح.
عمنا خيري شلبي ضرب يده في مادة هذا العالم وخرج برزقه ونفس هذا العالم هو من شكل عند خيري شلبي روح الكتابة.
لخيري شلبي ركن في قهوة الغول.
ترابيزة وكرسي وشيشة مدقوق ليها في فم خيري لا يغادره. أمامه يجلس صعيدي وسيم، نظيف الثياب، وعلي رأسه عمامة بلدي في غاية الشياكة لا يكف عن الكلام، صاحب ذاكرة لا تعرف النسيان.
عم أحمد في الظاهر بياع سمك، وفي الباطن كتاب مفتوح علي السرد والحكايات.. صعيد جواني وبراني.. أحلام من جنس الرؤي التي تشبه المعجزات.. والناس عنده طبقات لكل طبقة ملامحها وأوصافها وعلاقتها.. والثأر في معرفته حضور للرجولة وعلامة علي فروسية الانسان.
عم أحمد صاحب كتاب المقامات وهو عن أحلامه التي سطع بها خيري عندما حولها لفن ولكتابة ولشيء مثل الجوهرة.
وعم أحمد ساكن تربة من الترب.. يزوره خيري بين الحين والحين، ومع صهللة الليل، واتقاد النار، وصعود الدخان ببهجة الروح ينتقل بالحكاية الي غير زمانها و مكانها.
ولما كان عم أحمد يسكن حوش قديم أخذت الجلالة خيري وطلب منه راجيا:
- والنبي يا عم أحمد حين رحيلي تدفني معك هنا ولا تنسي كل ليلة أن تدلق علي رأسي مية الجوزة حتي أحس كل ليلة انني معاكم.
5
في المجال ما بين مقهي ريش ومطعم فلفلة تقع دكانة قديمة باقية معلقة من زمن القاهرة الاسماعلية، في فضاء غير فضاء زمنها، وصاحبتها أجريجية ورثتها عن مهاجرين بادوا. لها في القلب والروح ذكريات موصولة فلقد أخذت من عمري أربعين سنة وأنا أدور حولها من هناك لهناك، ومن هناك لهنا، وفيها تعرفت وعشت وسط من أحببتهم، ورحلوا.
يجلس علي كراسيها بشر تعرف بعضهم ولا تعرف الآخرين، يحدقون في عتمة المكان ويصخبون.
خيري وعفيفي مطر ومحمد صالح وابراهيم داوود ومحمد سليمان وفتحي عبدالله والورداني الكبير والورداني الصغير وابراهيم عبدالمجيد يتحلقون حول مائدة واحدة ويتناقشون.
ولأن خيري ابن حكي، ومهنته حسن الكلام يبدأ من الأول، عن أبيه ودارهم وسنوات الستر في القديم والعوز في الجديد، وعن اسطوانات الغناء وترابيزة الخشب ثم ينتقل لفؤاد حداد وصلاح جاهين وبعدها لحكايات كرامات الأولياء وسيدك النبهاني.
يسطع الشعر في الخمارة، ويتواصل الكلام والراوي حسن الحديث مثل شاعر بربابة يدق بالنغم ويعزف بالمقام.
أنكشه أنا وعفيفي، ونغوص حيث المنطقة الغامضة من أرواح أهالينا، أماكنهم الأشد سرية حيث العادة والطباع وروح الشغل وطقوس الميلاد والمواريث.. أمازحه:
- يعني ايه أنافه يا خيري؟
يتوه وينظر لوجهي وقد ازرد نابشا دماغه باحثا عن المعني. ويعالجه مطر:
- والناف يا خيري؟
يجيب خيري: تقصدوا النير علي عنق الحيوان.
- وطلوع الصواني؟
- أنا كتبتها في فرعان من الصبار.
- والأرض الباء يا خيري؟
يزوغ منا الي مولد سيدك ابراهيم الدسوقي، وأفعال الدراويش، وأنا أكلمه عن حصان لي مرض فأعدموه في أرض خلاء بالليل، وكنت واقفا أري وأنتحب.
تنعقد الحكايات حتي سقف المقهي، وتعلو أصوات أهل القري، وأنا تأخذني جلالة الكلام وأستعيد ماضي الأيام وقد أضناني الشجن وقد أنساني الشراب حالي، وخيري يحدقني مشيرا لعفيفي هامسا له وأنا سامعة:
- تعرف يا عفيفي لو صاحبك ده بيكتب زي ما بييتكلم كان بقي مالوش حل. ثم يهز رأسه ويحدق في عيني ويقول في نفسه:
- ألف خسارة!!
6
حتي منتصف الثمانينات كان خيري شلبي يقف في المنتصف.
نصف صحفي ونصف أديب.. يري البعض في مطولاته انها لا تخضع لروح التجديد وانها نصوص آخر الأمر محشوة بالكلام، وانه خارج زمن الحداثة.
كان خيري لم يكتشف كنزه بعد، ولم يختبر عالمه الكبير حينئذ.
وبحكم اختيارات خيري في مكوثه هناك علي الهامش فالنظرة اليه كانت هكذا: نصف صحفي ونصف أديب.
كان قد أنجز السنيورة ورحلات الطرشجي الحلوجي وكتب للاذاعة بعض الأعمال والبرامج، وكتب البورتريه واختفي ببوكس في مجلة الاذاعة يقدم من خلاله كاتبا جديدا، أو ينقد ظاهرة من الظواهر.
في العام 86 أو 87 أهداه كبير المقام أستاذنا نجيب محفوظ روايته الحرافيش وكتب له اهداء يحمل معني: الكاتب الكبير خيري شلبي الذي أنتظر علي يديه الكثير.
الغريب أن هذا الاهداء كان مثل الوحي. أو مثل نفخة في روح الكائن فيحيا!!
نفخ نجيب محفوظ من روحه في روح خيري شلبي، و تسلل الاهداء من صفحة الكتاب الي مقاهي المثقفين الي الندوات العامة الي جلسات النميمة الي دور النشر الي منتجي السينما الي حواديت الناس، وتغيرت صورة نصف الصحفي ونصف الأديب الي بشارة ومعني وكتابة.
صار خيري في متن الكتابة بعد أن نفخت فيه الروح فأحسن وفادتها وتلقي عطية كبير المقام فكتب موال البيات والنوم وثلاثية الأمالي ووكالة عطية وصالح هيصة ولحس العتب وبغلة العرش وأسباب للكي بالنار الخ.. الخ.. الخ ومن يومها وخيري صاحب مجلس وكبير مقام.
7
يهبع »نصر« مثل جمل صفرت بأذنه الريح، جامعا الحجارة والزجاجات المكسرة ملقيا بها علي الناس والمقهي والسائرين.
- يا أولاد التلب.
ترتفع الأصوات:
- خلاص يا نصر.
لا مجيب، ولا منصت للرجاء، والشارع عن آخره، من باب الجامع حتي باب المقهي في رجوات تناشد الأهبل أن يكف.
ونصر هذا عيل في الثلاثين، يعكس وجهه طيبة من النوع النادر، ورأسه الحليق يزيد من بلاهته، تركته أمه صغيرا وغابت ومن يومها وهو علي سفر، يطوي هدومه ويلفها في بقجة من قماش قديم ويدور في المكان حاملا عددا من الأرغفة معتبرا روحه علي سفر.
تربط نصر بخيري علاقة تثير الدهشة.
- اقعد يا نصر.
يقعد.
- اهمد يا نصر.
يهمد
كان يفهم لغاته ويلبي طلباته، ومنها عطيته، كرسي دخان معمر يلقفه نصر ويا دوب في نفس واحد.
ينفذ الدخان الي رأس نصر فيهبع الجمل ويضرب بالقلة ويدور في المكان وقد قضي عليه.. وحّد.. وحّد..
وفي اللحظة التي يقبض فيها نصر علي الحجر يرتفع صوت خيري.
- خلا ص يا نصر.. اهمد.
وترتخي اليد بالحجر، وينكسر الرأس علي الصدر محرقا بعين بلهاء لبهلول في الأشياء والناس، ويركن الحجر جانبا، وعلي أرض بجانب رجل خيري يجلس نصر مثل طفل وديع، طاويا جناحيه، صامتا مثل خبرع!!
8
من حق الراحل الكريم خيري شلبي علي الدنيا وعلي الناس، ومن حقه علي المقاهي قليلة الأهمية، وأصحاب الذوق الرفيع، والترب المفتوحة علي كتاب الموت، وعم أحمد السماك، وبشر الأمالي، وسارد وكالة عطية، وحارس الوكالة الالهي، والقرد والمرأة عشيقته، وكل شرفاء البورتريه الذين تناولهم رسما وتلوينا، والترزية، وأصحاب المهن، وفروع الصبار، وسكان التخوم، وأطراف الضواحي من مصر المحروسة، وأزقة بطن البقرة، والبيوت التي كانت مأوي للجسد المتعب الباحث عن منامة.. من حق أصحابه الشعراء والممثلين والموسيقيين والكتاب من حق محمود حميدة وأحمد عبدالعزيز والورداني وابراهيم داوود،و فاطمة تعلبة، وخبز البغايا، واسطاسيا والكومبارس، من حق الحصاة التي ظل يرقها في شارع خالي باحثا عن أنيس.
من حق كل هؤلاء أن يقفوا في صف داخل سرادق عزاء عم خيري ليأخذوا العزاء فيه.
9
أول النهار رن الهاتف، وسمعت صوت آل أصلان الكريم.
- قوم الأستاذ خيري تعيش انت.
لفيت علي نفسي، أنا الموعود بتلك الصباحات.
وسار العجوزان علي الجبل في النهار الرچيم، في الصباح المعتم، مجتازين الهضبة العليا الي الهضبة الوسطي، أحدهما يعتصر عينه صامتا، والآخر يحصي السنين والحساب، ويعد من ودعوهم بمثل هذا الصباح، والسيارة تدرج الي 31 شارع النصر بالمعادي.. وحين وصلا كان أمضه التعب والثاني يلقف النفس، قال:
- استريح يا عم شوية.. أجابه ولم ينظر اليه:
- لا.. شوف لنا البيت الأول.
شفت البيت وصعدنا، وقوبلنا ببكاء الأبناء، والأم حائرة تخرج من حجرة لحجرة وتستعيد مشهد الساعات الماضية، دخلت حجرة ناحية الغرب حيث يرقد بها خيري، وحين كشفت وجهه جاءني صوت الضرير:
آثرت أن ترحل كاملا
جسدا وروحا رائعة
شئت الدخول في الظل
دون لوعة العليل الحزينة.
كشفت وجهه وقبلته وهمست في أذنه: مع السلامة يا عم خيري.. مع السلامة يا راجل يا طيب، يا راجل يا جميل.



* عن جريدة اخبارالادب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى