عبد الحفيظ بن جلولي - في مجموعة «أغيب ويحضر ظلي»… قصيدة ضد الغياب

تقرأ القصيدة باستشعار فضاء الشعر، تتشظى في مستوى ثباتها، فتعيد بناء شكلها المتحول، إلى أن تقف القراءة على المعنى غير المحدد في شكل نص لا يُعتبر حاشية على المتن إلا بالقدر الذي يساهم في فتح أفق قراءة مؤجلة، وقد يكون ذلك ظلا من نصوص «أغيب.. ويحضر ظلي» لعبد الحميد شكيل، حيث يكشف عن حيرته في الوقوف عند علامات نص يرج المستقر: «كيف أقرأ أوجاع نص.. وغبن قصيدة.. ظلت ترن في أصقاع قلب».
في التجربة / القصيدة سُلمٌ من معنى
تمد القصيدة عند شكيل سلما من معنى، كي تستطيع الارتقاء في اللغة التي لا تكف عن التوالد كموسيقى تحيل إلى فضاء يتراقص خيالا وواقعا، تلك قصيدة تتحصن بمراكز صد قوية، متمنعة حتى يدرك القارئ العنيد نقطة اختراق المركز فيلج طبقات القصيدة منتشيا باكتشاف «اللغة» لا «غلبة النص» فاللغة تُنسج على غير منوال سياقاتها وأساليبها المعتادة، إذ تتشكل غير نمطية، مهيأة للتحول والانتظام تبعا للفوضى التي تنتج النظام، وليس النظام الذي يقود إلى الدلالة مباشرة.
«أغيب ويحضر ظلي» مرور الشاعر على هشاشة الوقت وأسئلة دائمة، معلنا قصيدة بيان ضد غياب، معلقا مراياه على حضور في العالم إذ يغيب في القصيدة: «المرايا/المرايا/لا تقول صورتها» محاولا تهجير المعنى/المحسوس في العالم إلى دواخله للوقوف على جوهر الوقت والمعنى، في قصيدة تمنح فرصة لتوالد الكلمات وتطورها بصورة لانهائية، تُنبت الرمز والدلالة وتفتح أفقا للتأويل: «أغفو..على سرير وقتٍ../عالٍ أطفو، في منخفضٍ للطفولة». ينفتح الوقت على مرح الطفولة إذ تتداخل الأشياء ويختلف المنطق، فيبزغ الشعر بين «العلو والمنخفض» اللذين يتناوبان نزق الطفولة المعلقة على سؤال الكينونة، حيث تنمو اللغة منفلتة من الشكل لائذة بالجوهر: «أيها القابع في نزف لغة واصفة/انهض.. معتمرا بالراجمات/تأمل ذاتك المليئة بالعصف». اللغة خروج اللامسمى من شرنقة اللاوجود، عثور الشعر على هوية تستأنس باللاإنتماء، تعرج في خلوة الأشياء مستفردة بالنظر إلى انكشافها، تلك لحظة شروق النص «العصف» الذي يحمل هوية الشاعر «معتمرا بالراجمات» متمسكا بعرش ثورة السكون في الأشياء، ورؤية الشاعر حيث تنعدم كل رؤية.
القصيدة الشرفة/من العمود إلى صندوق الحداثة
تأتي القصيدة محملة ببلاغة «الإصاتة» الداخلية، في شعرية مكثفة يحتمل العالم معها غموضا ما، ربما الجلي في نظر الشاعر: «أنتِ القصيدة/ لا أفق لأضيء سماء الخفق» لكن الشاعر أيضا لا يتعرف على كلماته إلا باعتبارها بياضات النص الحاضر، «أنت القصيدة» ثبوتٌ لهوية المعنى المفارق للواقع، الشكل التاريخي للغناء، والدارج في وعي العابرين إلى الضوء المحايث لدربة المشي في أغوار العتمة. الضوء الجوهري هو «أفق للإضاءة» كي يتأثث الطريق بمنارة القصيدة وخيال الشاعر المتحول في المعنى وفي ذهول العالم: «البريد/ضج بالرسائل والوعيد/ لا نشيد» يتأرجح المعنى في حركته من غموض الشاعر إلى وضوح العالم، كما المسار بين «القصيدة» و»البريد» والنص جامع بينهما، غامض كما وضوح «البريد» وواضح عميق كما غموض «القصيدة» إذ يتحلل الشاعر إلى معطياته الأولى باعتباره خازن شيفرات «رسائل» تتوعد العالم بكشف ما لا يعلنه خلف المنظور والمسطور، وانفصال القصيدة عن شيفرات الداخل الشعري ينذر بعجز مستقبلات الذات الشاعرة، «لا نشيد..» المهيأة على الدوام للإرسال من مناطق «الغموض» الذي ليس نقيضا للوضوح، بتعبير أدونيس.
تعلن اللغة عن وجودها، تفجر المعنى جوهر العالم، لهذا كشفت القصيدة/البدء عن ميلادها التاريخي على جدار «القداسة» مصاحبة هوية الأمكنة المتعالية: «أو متفرغا.. على شرفات لغة/ لها نهم كشفٍ في نوايا التراث» إذ تنبني اللغة «متفرغة» لتعريف العالم على انفلاتها من الترابط إلى التفكيك، حيث تسمي الأشياء وتختفي عند مجاز ما يؤثث العالم بقلقٍ متململ في صندوق «الحداثة» هو الشاعر «متفرغا» ولغة لا تقول ذاتها بل تكتفي بالإحالة على مطلق العالم حين يتخلى عن الانغلاق ويبوح للقصيدة بصورته في مرايا التاريخ وكمون الدهشة والخروج على متن الحواشي إلى ذروة الحداثة والتمرد على نظام اللغة المشمولة بالعمود، أو ما سمته القصيدة بـ«نوايا التراث».
القصيدة الرؤيا/ القصيدة المقام
ما شكل الحائط حين لا يشبه صورته في العالم؟ أيمكن أن يكون كينونة مائية تقف أمام الأشياء، تصد حركتها: «وهو يقفز على حائطٍ من مطر/ يقول المرايا والتكايا» يمكن أن نخترق ليونة الماء وشفافيته، لكن يبقى جوهره خطر وموج وغرق أكيد.. يؤكد الجوهر سلطة وجوده، وتحاول اللغة أن تقول الجوهر ذاته، هل باستطاعتها ذلك؟ الجوهر مقام الأشياء حين تختفي متلألئة في «المرايا» مسرورة في «التكايا» إذ ذاك يتحقق قفز الشاعر على ما لا يمكن أن نراه، لكنه واقع في الخيال، «وهو يقفز على حائطٍ من مطر» متصديا للظاهر وهو يكشف (الشاعر) عن أسراره في «خرقة» اللغة التي قالت نوايا «الحلاج» مستسلمة لسؤال القصيدة: «هل للطواسين صوت يئز..» يحرك في الأشياء رنين «قصيدة تتململ داخل قيدها الفراهيدي وتحاول أن تخلق شكلا تعبيريا جديدا..» حسب محيي الدين اللاذقاني.
يَتَمَعْنَى الشعر متساوقا مع اللغة، فتقفز «الكلمة» جرسا يرن، حيث القصيدة تنبني ناقصة في وعي التلقي، إلا من هاتفٍ يستمر في وعي اللامنظور الشعري، الذي يتمه المعنى بلا تحديد: «العطرشاء الـ في سفوح الرؤيا/تقول أشعارها الشجوية». لا تنتهي لذة المعنى عند النبتة، بل تمتد في سياقات التأسيس في «العطر» حيث تتوثب في غموض النص حكاية شعرية يرتسم الخطاب فيها عنوانا لـ«الرؤيا» ويتلاشى كل رسم للكلمة، وتنهض الشعرية في «شجوية» المقول، وربما لهذا لا نقرأ الشعر إنما نغنيه.
رؤيا القصيدة / الطريق إلى الوطن
تبحث الشعرية حين تتبنى اللغة عن توهجات الحلم والفجيعة والخيال الذي يبعثر نسق المباشر، يفتش الشاعر في لاوعيه عن سكرة بلذة الغياب، إذ يغيب تتحرر وردة الشعر عابرة إلى مزهرية الدهشة الخفية: «إنتصف الطريق!!/استطالت دورة الرشح في عين الصواب». يتعدد «الطريق» نحو القصيدة/القضية/الوطن، أمداء بعيدة تتلقفها اللغة بقلق اللاتحديد، حيث تبحث القصيدة لا الشاعر عن علامة تسترشد بها، لتتحول إلى دهاليز في خيال الشاعر المغامر من أجل الوصول إلى الوطن/القضية/القصيدة.
لما تصير الأشياء إلى الوطن، إلى «البلاد الجميلة»: «لماذا البلاد الجميلة/كلما احتويتها في نبراتي الظليلة/فارَ في لغتي ماء عكر». يقترب الوطن من الذات، من الشعر إذ تغذيه مرافئ المكان لما يحمل هوية «الوطن» ويتمكن الشاعر من تكريس هجرة الوطن إلى أصقاعه «الظليلة» لكن هل هناك ما هو ظليل في القصيدة/الشاعر حيث تتكلم الأشياء بهدوء؟ اللغة حينذاك تعكس الصور مفعمة بالثبات، والشعر دفق الدلالة المكثفة بالقلق والمواجهة العنيفة مع «القبح» أو «الماء العكر» إنه الخوف الدائم على الوطن.
تلتمع المدينة في زقاق الشاعر الذي يعمره كلما عاد إلى ذاته الشعرية التي تتلقى «الكلام» من صورة المكان البدء. «بونة../ أيقونة الزمن السار!». «بونة» مدينة يلتحم فيها جسد الشاعر وبراعة القصيدة، الشعر أحيانا يضل الاتجاه نحو الأشياء باحثا عن ذاتٍ شاعرة، حينها تتولى القصيدة حكاية الذات وهي تتلمس طريقها الطويل منذ أول الطفولة إلى آخر القصيدة. تنفصل أحيانا الذات عن مقولها وتنظر بعيدا «رؤيا» في الأفق، حيث يتشكل المكان/المدينة في متسع «الزمن».
يكتمل مدار الزمن حين يلتقي وامتداد المكان، فيتحول «العد الزمني» «مساحة ممتدة» أي يكتسب الزمن شكل المكان، دون أن يحتوي كلاهما الآخر، يتشابهان حد الشعرية، تتداخل صورتاهما لتستطيع القصيدة أن تقول ذلك المغاير لتشكلات اللغة/النمط. يعيد الشعر تشكيل المفاهيم لتأخذ وجه القصيدة الملقاة على عاتق الشارع والمقهى والسوق، ويصير الوطن/المدينة عصيا على الزمن، الذي يحمل إمكانية الانقطاع حين ننفصل عن شكلنا الذي ألفه الإنسان على مقربة من الطفولة، لكن المكان يقف عند حافة الزمن منتظرا حلول القصيدة في بؤرة الاحتواء والقصور: «كيف أصفف وطنا في كُم وقتٍ..؟»


.https://www.alquds.co.uk/%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%ac%d9%85.../

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى