" متفرقات "
من أطرف المناقشات التي دارت بين علماء لغتنا العربية في مستهل هذا القرن، تلك التي كانت حول معنى كل من الفقير والمسكين: أيهما الذي لا مال له، وأيهما أسوأ حالا من الآخر.
ووجه الطرافة أنهم اختلفوا في ذلك الحين على ثلاثة أقوال:
القول الأول يرى أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، لأن الفقير هو الذي له قدر ضئيل من العيش، أما المسكين فهو الذي لا شيء له.
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بالآية الكريمة: " أو مسكينا ذا متربة " أي المطروح على التراب من شدة الاحتياج.
وقالوا في تفسير قوله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الفقير هو الذي لا يسأل الناس، والمسكين أجهد منه أي أسوأ منه حالا، والبائس أجهدهم أي أشقهم وأتعسهم حالا.
وفي رأيهم أن هناك ثلاث مراتب تبدأ بالفقير فالمسكين فالبائس.
ويرى أصحاب القول الثاني أن الفقير هو الذي لا شيء له، وأن المسكين هو من له قدر ضئيل من العيش لا يكفيه، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بقوله تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " .
وبأن الله تعالى بدأ بالفقير في آية الزكاة: " إنما الصدقات للفقراء.. " مما يدل على الاهتمام بشأن الفقير في الحاجة.
كما استدلوا باستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، مع قوله: " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مع المساكين ".
وبأن الفقير مشتق من فقار الظهر، فكأن الحاجة قد كسرت فقار ظهره.
أما القول الثالث فيرى أن المسكين والفقير من صنف واحد، وإنما ذكرت الصفتان في الآية الكريمة: [" إنما الصدقات للفقراء والمساكين " تأكيدا للأمر.
وقالوا: إن الفقير هو الذي لا شيء له، وإن المسكين مثله، ويرى بعض علماء اللغة المعاصرين أن المسكين أفضل معنى من الفقير في الماديات والأدبيات والدينيات.
***
كما شغل فريق من علماء لغتنا العربية المعاصرين بمناقشة طريفة دارت حول أي الأسلوبين أدل على التواضع وعدم الاعتداد بالنفس: أن تقول وأنت تتحدث عن نفسك: أنا أرى كذا، وأنا أحب كذا، مستعملا ضمير المفرد "أنا" أو أن تقول: نحن نرى كذا، ونحن نحب كذا، مستعملا ضمير الجمع "نحن". وقد كان الظن الشائع أن استعمال المتكلم لضمير الجمع في التعبير عن نفسه فيه تعظيم للنفس، كأن يقول: نحن نرى كذا، ونحن نفعل كذا.
لكن الطريف أن بعض علمائنا يرون أن استعمال المتكلم المفرد لضمير الجماعة إنما يشعر بالتواضع خلافا للمعهود من أن يكون لتعظيم النفس، وأن إفراد الضمير فيه تأكيد للذات وتعظيم للنفس، عندما يقول القائل: أنا أرى كذا، وأنا أفعل كذا.
ويرون أن هذا هو ما جرت عليه أساليبنا العصرية، فعندما نقول مثلا: تجيء عندنا ونزورك، تكون مقبولة أكثر من قولك: تجيء عندي وأزورك. كأنهم يستشعرون أن المتكلم لما استعان بغيره أصبح بريئا من الأثرة والأنانية، وأن استعمال المتكلم لضمير الجمع بدلا من ضمير المفرد يدل على إظهار التعاطف مع المخاطب تخفيفا لقسوة التكلم عن النفس، فعندما يتكلم المتكلم في مجال الخطابة أو الحديث إلى الجماهير ويقول: نحن نرى كذا.. فإنه لا يتواضع فقط، بل هو يشرك معه سامعيه في الرأي بدلا من فرضه عليهم.
هذا الأسلوب البلاغي العصري من أساليب لغتنا العربية مبني على قاعدة نفسية معروفة، هي أن المتكلم يبذل كل جهده لجذب المستمع إلى جانبه، بإشراكه معه في الحكم بدلا من فرضه عليه، فأنت تشرك المستمع معك في الموضوع عندما تقول له: نحن نرى كذا ونحب كذا ونوافق على كذا، وتجانب التواضع عندما تقول: أنا أرى كذا وأحب كذا وأوافق على كذا.
***
وفي إطار تأمل ما طرأ على لغتنا العربية - عبر تاريخها الطويل - من تطور، نلاحظ أن كثير من الكلمات قد حدث لها ما يسمى بالتحول المعنوي، وهو أن تكتسب الكلمة معنى جديدا غير معناها الأصلي القديم، ويشيع هذا المعنى الجديد بكثرة الاستعمال حتى لينسى المعنى الأول ولا يكاد يذكره أحد.
* من بين هذه الكلمات كلمة "الكفر" فالمعنى الأصلي للكلمة في اللغة العربية هو التغطية، ثم اكتسبت الكلمة في ظل الدعوة الإسلامية معنى جديدا هو الإلحاد والإنكار
* وكلمة "التوقيع": معناها الأصلي في اللغة هو "التأثير"، ثم أصبحت تطلق على وضع اسم الكاتب على ما يكتبه للدلالة على أنه منسوب إليه.
* وكلمة "المقامة": معناها الأصلي المكان أو المجلس، ثم تحول معنى الكلمة إلى الدلالة على نوع من القصص المسجوع شاع في تاريخنا الأدبي حقبة من الزمان، ومن مشاهير كتابه: الحريري والهمذاني.
* وكلمة "الدولة": معناها الأصلي تقلب الزمان وتغير الحال، ونستعملها نحن الآن للدلالة على الملك أو الحكومة أو السلطة الحاكمة.
* وكلمة "القطار": معناها الأصلي صف مقطور من الجمال، لكنها أصبحت تدل على مركبات السكة الحديدية.
* وكلمة "السجادة": معناها الأصلي ما يسجد عليه وقت الصلاة، ثم اتسع معناها فأصبحت تدل على البساط، دون نظر إلى معنى الصلاة في ذاته.
* وكلمة "النظم": معناها الأصلي جمع اللؤللؤ في سلك، لكنها أصبحت شائعة في معنى "نظم الشعر" أي كتابته.
* وكلمة "النحو": معناها الأصلي القصد أو الجهة، ثم استعيرت الكلمة للدلالة على علم العربية المعروف: علم النحو.
* وكلمة "المضيفة": معناها الأصلي "من" تستقبل الضيوف في المنزل، فأصبحت تطلق على "من" تعتني بركاب الطائرات.
* وكلمة "الحضارة": معناها الأصلي ضد البداوة، ثم أصبح يفهم منها معنى المدنية أو العمران أو التقدم الاجتماعي والعلمي والصناعي.. إلخ.
وغيرها كثير من الكلمات التي تحول معناها الأصلي وتغير، مكتسبا دلالات جديدة، خاصة في المجالات العلمية والدينية والاجتماعية، وهي دلالات مكتسبة نتيجة لتطور الحياة وامتداد رحلة الإنسان العربي في الزمان والمكان.
من أطرف المناقشات التي دارت بين علماء لغتنا العربية في مستهل هذا القرن، تلك التي كانت حول معنى كل من الفقير والمسكين: أيهما الذي لا مال له، وأيهما أسوأ حالا من الآخر.
ووجه الطرافة أنهم اختلفوا في ذلك الحين على ثلاثة أقوال:
القول الأول يرى أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، لأن الفقير هو الذي له قدر ضئيل من العيش، أما المسكين فهو الذي لا شيء له.
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بالآية الكريمة: " أو مسكينا ذا متربة " أي المطروح على التراب من شدة الاحتياج.
وقالوا في تفسير قوله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الفقير هو الذي لا يسأل الناس، والمسكين أجهد منه أي أسوأ منه حالا، والبائس أجهدهم أي أشقهم وأتعسهم حالا.
وفي رأيهم أن هناك ثلاث مراتب تبدأ بالفقير فالمسكين فالبائس.
ويرى أصحاب القول الثاني أن الفقير هو الذي لا شيء له، وأن المسكين هو من له قدر ضئيل من العيش لا يكفيه، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بقوله تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " .
وبأن الله تعالى بدأ بالفقير في آية الزكاة: " إنما الصدقات للفقراء.. " مما يدل على الاهتمام بشأن الفقير في الحاجة.
كما استدلوا باستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، مع قوله: " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني مع المساكين ".
وبأن الفقير مشتق من فقار الظهر، فكأن الحاجة قد كسرت فقار ظهره.
أما القول الثالث فيرى أن المسكين والفقير من صنف واحد، وإنما ذكرت الصفتان في الآية الكريمة: [" إنما الصدقات للفقراء والمساكين " تأكيدا للأمر.
وقالوا: إن الفقير هو الذي لا شيء له، وإن المسكين مثله، ويرى بعض علماء اللغة المعاصرين أن المسكين أفضل معنى من الفقير في الماديات والأدبيات والدينيات.
***
كما شغل فريق من علماء لغتنا العربية المعاصرين بمناقشة طريفة دارت حول أي الأسلوبين أدل على التواضع وعدم الاعتداد بالنفس: أن تقول وأنت تتحدث عن نفسك: أنا أرى كذا، وأنا أحب كذا، مستعملا ضمير المفرد "أنا" أو أن تقول: نحن نرى كذا، ونحن نحب كذا، مستعملا ضمير الجمع "نحن". وقد كان الظن الشائع أن استعمال المتكلم لضمير الجمع في التعبير عن نفسه فيه تعظيم للنفس، كأن يقول: نحن نرى كذا، ونحن نفعل كذا.
لكن الطريف أن بعض علمائنا يرون أن استعمال المتكلم المفرد لضمير الجماعة إنما يشعر بالتواضع خلافا للمعهود من أن يكون لتعظيم النفس، وأن إفراد الضمير فيه تأكيد للذات وتعظيم للنفس، عندما يقول القائل: أنا أرى كذا، وأنا أفعل كذا.
ويرون أن هذا هو ما جرت عليه أساليبنا العصرية، فعندما نقول مثلا: تجيء عندنا ونزورك، تكون مقبولة أكثر من قولك: تجيء عندي وأزورك. كأنهم يستشعرون أن المتكلم لما استعان بغيره أصبح بريئا من الأثرة والأنانية، وأن استعمال المتكلم لضمير الجمع بدلا من ضمير المفرد يدل على إظهار التعاطف مع المخاطب تخفيفا لقسوة التكلم عن النفس، فعندما يتكلم المتكلم في مجال الخطابة أو الحديث إلى الجماهير ويقول: نحن نرى كذا.. فإنه لا يتواضع فقط، بل هو يشرك معه سامعيه في الرأي بدلا من فرضه عليهم.
هذا الأسلوب البلاغي العصري من أساليب لغتنا العربية مبني على قاعدة نفسية معروفة، هي أن المتكلم يبذل كل جهده لجذب المستمع إلى جانبه، بإشراكه معه في الحكم بدلا من فرضه عليه، فأنت تشرك المستمع معك في الموضوع عندما تقول له: نحن نرى كذا ونحب كذا ونوافق على كذا، وتجانب التواضع عندما تقول: أنا أرى كذا وأحب كذا وأوافق على كذا.
***
وفي إطار تأمل ما طرأ على لغتنا العربية - عبر تاريخها الطويل - من تطور، نلاحظ أن كثير من الكلمات قد حدث لها ما يسمى بالتحول المعنوي، وهو أن تكتسب الكلمة معنى جديدا غير معناها الأصلي القديم، ويشيع هذا المعنى الجديد بكثرة الاستعمال حتى لينسى المعنى الأول ولا يكاد يذكره أحد.
* من بين هذه الكلمات كلمة "الكفر" فالمعنى الأصلي للكلمة في اللغة العربية هو التغطية، ثم اكتسبت الكلمة في ظل الدعوة الإسلامية معنى جديدا هو الإلحاد والإنكار
* وكلمة "التوقيع": معناها الأصلي في اللغة هو "التأثير"، ثم أصبحت تطلق على وضع اسم الكاتب على ما يكتبه للدلالة على أنه منسوب إليه.
* وكلمة "المقامة": معناها الأصلي المكان أو المجلس، ثم تحول معنى الكلمة إلى الدلالة على نوع من القصص المسجوع شاع في تاريخنا الأدبي حقبة من الزمان، ومن مشاهير كتابه: الحريري والهمذاني.
* وكلمة "الدولة": معناها الأصلي تقلب الزمان وتغير الحال، ونستعملها نحن الآن للدلالة على الملك أو الحكومة أو السلطة الحاكمة.
* وكلمة "القطار": معناها الأصلي صف مقطور من الجمال، لكنها أصبحت تدل على مركبات السكة الحديدية.
* وكلمة "السجادة": معناها الأصلي ما يسجد عليه وقت الصلاة، ثم اتسع معناها فأصبحت تدل على البساط، دون نظر إلى معنى الصلاة في ذاته.
* وكلمة "النظم": معناها الأصلي جمع اللؤللؤ في سلك، لكنها أصبحت شائعة في معنى "نظم الشعر" أي كتابته.
* وكلمة "النحو": معناها الأصلي القصد أو الجهة، ثم استعيرت الكلمة للدلالة على علم العربية المعروف: علم النحو.
* وكلمة "المضيفة": معناها الأصلي "من" تستقبل الضيوف في المنزل، فأصبحت تطلق على "من" تعتني بركاب الطائرات.
* وكلمة "الحضارة": معناها الأصلي ضد البداوة، ثم أصبح يفهم منها معنى المدنية أو العمران أو التقدم الاجتماعي والعلمي والصناعي.. إلخ.
وغيرها كثير من الكلمات التي تحول معناها الأصلي وتغير، مكتسبا دلالات جديدة، خاصة في المجالات العلمية والدينية والاجتماعية، وهي دلالات مكتسبة نتيجة لتطور الحياة وامتداد رحلة الإنسان العربي في الزمان والمكان.