أ. د. عادل الأسطة - في وداع سالم جبران

لا أعرف سالم جبران كما أنبغي أن أعرفه. قرأت أشعاره في فترة مبكرة، في 70 ق20. قرأتها، ابتداء، في ديوان الوطن المحتل (1968) الذي أعده الشاعر يوسف الخطيب، ثم قرأتها في مجموعاته التي لم أعثر عليها في رفوف مكتبتي. هل هي الآن على رفوف مكتبة جامعة (بامبرغ) في ألمانيا؟ أظن ذلك.
ولم أكتب عن سالم جبران شاعراً أية دراسة. وربما وجب أن أتساءل عن السبب، فهو واحد من أسماء عديدة برزت في 60 و70 ق20. ولم تخل من أشعاره مختارات شعر المقاومة. لم يخل ديوان الوطن المحتل من أشعاره، ولم يخل كتاب غسان كنفاني "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966" (1966) منها، ولم تخل "موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر" لسلمى الخضراء الجيوسي منها أيضاً. إنه شاعر أساس من شعراء المقاومة، أو هذا ما يفترض، فلماذا لم أكتب عنه، ولماذا لم يلتفت إليه كما التفت إلى محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم؟ ربما يعرف الدارسون السبب!
كتب سالم جبران الشعر ثم انقطع عن كتابته، ولم يرسخ اسمه في عالم الشعر، ويبدو أنه تفرغ للعمل السياسي وكتابة المقالة، ولم يولِ الشعر جلّ اهتمامه، كما فعل درويش والقاسم، بل وكما فعل زياد الذي عاد، بعد سنوات من الانقطاع عن كتابة الشعر، عاد وأصدر ديوانه "أنا من هذي المدينة" (1990). وكان سالم جبران على نقيض إميل حبيبي. التفت الأخير في 50 و60 ق20 إلى المقالة السياسية، ولم يول الأدب جل اهتمامه، هو الذي دخل عالم السياسة من باب الأدب. ثم أخذ يوازن بين عالمي الأدب والسياسة، إلى أن انحاز في آخر سنواته إلى عالم الأدب، وأقر بذلك. أما جبران الذي جمع بين الشعر والسياسة، فقد انحاز للأخيرة وأهمل الأول أو كاد، ولم نعد نعرف عنه شاعراً إلا من خلال دواوينه المبكرة، فلم يصدر في السنوات الأربعين الأخيرة، تقريباً، أية مجموعة شعرية، هل أخطأ في ذلك؟ وما هي المكانة الشعرية التي حققها؟
لمحمود درويش رأي ثاقب في الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة العام 1948، يتمثل في أن الشعراء كلهم كانوا صوتاً واحداً تقريباً. كأنهم جميعاً حتى 1966 أو 1970 كتبوا قصيدة واحدة هي قصيدة المقاومة. ولو أنك قرأت قصيدة واحدة لأي منهم، فإنك لا تجد فارقاً كبيراً بينها وبين قصيدة زميله. المباشرة والوضوح والتحدي وبساطة اللغة وبروز النزعة التفاؤلية، و.. وقصيدة التفعيلة. كانوا شعراء متفائلين وواثقين من المستقبل، على الرغم من هزيمة حزيران 1967، وكانوا شعراء يكتبون القصيدة التي نعتها درويش بالقصيدة التي لا طعم لها ولا لون لها إذا لم يفهم البسطاء معانيها، فهي إن لم تكن كذلك، فأولى بالشعراء أن "نذريها ونخلد نحن للصمت"، وهكذا كانت أشعاره وأشعار سميح وزياد وسالم جبران أيضاً.
تغنى سالم، مثل درويش، بالأرض، وحث على الصمود وعدم الهجرة، وتحدى السجان الإسرائيلي، والإسرائيلي الذي يصادر الأرض، وكتب سالم عن نكبة العام 1948 وعمّا ألمّ بشعبه من تقتيل وتشريد، تغنّى بهذا كله بكلمات واضحة بسيطة لا رمز فيها ولا غموض، مثله مثل أشعار درويش الأولى، ومثل أشعار زياد الأولى والأخيرة أيضاً.
في كتاب غسان كنفاني المذكور نماذج من قصائد سالم جبران. هناك مقاطع من قصيدة عنوانها (1948)، مقاطع تأتي على ليل النكبة الأسود، الليل الذي لا إشعاع فيه غير إشعاع القنابل التي تنصب على رأس قرى ليست تقاتل. والشاعر يتساءل: ولماذا يا بلادي؟؟ مقاطع تأتي على الهجرة إلى لبنان: هل لبنان حلو كبلادي؟ أترى فيه حواكير جميلة، بينها ترتاح أحلام الطفولة؟
"إن هذا البيت
يا أماه
ما كان جميلاً أي يوم
فلماذا يا ترى صار عزيزاً وجميلاً؟"
حقاً لماذا أخذت فلسطين تبدو جميلة وعزيزة، فلسطين التي كانت تتكون من قرى فقيرة وبائسة؟ الآن الحياة في المنفى قاسية وصعبة ولا كرامة للفلسطيني فيها؟ ربما وجب أن نقرأ قصة "فلسطيني" لسميرة عزام، وقصتها "لأنه يحبهم"، حتى نفهم لماذا صار البيت الذي لم يكن أي يوم جميلاً، لماذا صار جميلاً وعزيزاً؟ وربما وجب أن نقرأ "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، و"أم سعد" أيضاً، لنعرف أي جهنم عاش فيها اللاجئون. وهل كان علينا أن نحيا مجازر 1970 و1976، وصبرا وشاتيلا 1982، و.. و.. حتى نعرف الإجابة.
الأسبوع الماضي غادر سالم جبران عن سبعين عاماً. لم ألتق به إلا مرات قليلة، ولكنه كان دائماً يرسل لي تحياته ويسأل عني ويتحدث عن جرأتي الزائدة في نص "ليل الضفة الطويل". سالم جبران وداعاً.

هل يغدو الكاتب كاتباً من خلال عمل أو عملين؟
في كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي" (1986) – وكان الأخير حتى حينه أصدر أربعة أعمال أدبية – في كتابه المذكور يثير فاروق وادي – ويبدو أنه أنجزه قبل أن ينشر إميل عمله الرابع "اخطية" (1985) – يثير فاروق وادي، وهو يدرس إميل حبيبي السؤال التالي: هل يعد الكاتب روائياً من خلال عمل روائي واحد؟ ويجيب عن هذا السؤال قائلاً: إن القاعدة تنفي ذلك، ولكن هناك استثناءات، ولعل إميل هو الاستثناء الذي أكد القاعدة. (كان إميل كتب رواية واحدة، ومجموعة قصصية هي "سداسية الأيام الستة" ونصاً مسروائياً هو "لكع بن لكع" (1980).
ويمكن أن نعدل في سؤال وادي ليغدو على النحو التالي: هل تجعل ثلاث مجموعات شعرية قليلة الصفحات وأنجزت في فترة متقاربة هل تجعل من صاحبها شاعراً؟ وهل يعد سالم جبران شاعراً؟ هل يعد شاعراً ترك بصماته في الحركة الشعرية؟
ربما نعود ثانية إلى رأي محمود درويش الثاقب: لقد كتبنا يومها قصيدة واحدة. وهكذا كان سالم جبران شاعراً ضمن مجموعة شعراء، وربما لأنه شعر بأنه ليس متميزاً ومتفرداً، ربما لهذا غادر عالم الشعر إلى السياسة، وربما يكون لاحظ أن شعره لن يرقى إلى شعر زملائه الذين طوروا أنفسهم. وحالة جبران هذه حالة عامة في أدبنا الفلسطيني، فهناك عشرات، بل مئات الأدباء الفلسطينيين، شعراء وقصاصين وروائيين ونقاداً، أصدروا كتاباً أو كتابين أو ثلاثة، ثم توقفوا، توقفوا لأسباب عديدة، وهي ظاهرة تستحق الدراسة حقاً.
أنا أعرف شعراء وقصاصين وروائيين لا يختلف حالهم عن حال سالم جبران، وما عاد النقاد يلتفتون إلى أدبهم، ولهذا ولغيره انصرفوا إلى عوالم أخرى غير عالم الأدب، ولهذا ركز النقاد على الأدباء الذين غدت الكتابة حياتهم كلها: محمود درويش وسميح القاسم وجبرا إبراهيم جبرا، ومن قبلهم غسان كنفاني، ومن بعدهم إميل حبيبي ومحمود شقير وأكرم هنية وحنا إبراهيم ومحمد علي طه وسلمان ناطور و.. و.. أما مَن أصدر كتاباً، فقد يلتفت إلى أدبه يوم يتوفى أو يوم يستشهد، ومع ذلك فإننا بوفاة سالم جبران خسرنا مناضلاً أكثر مما خسرنا شاعراً!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى