د. صبري محمد خليل خيري - نحو خطاب اسلامى مستنير يؤصل للحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة

تعريف مصطلح الخطاب:
لغة :
الخطاب لغه الكلام ، ورد في القاموس المحيط (الخَطْبُ: الشأنُ، والأَمْرُ صَغُرَ أو عظُمَ، ج: خُطُوبٌ. وخَطَبَ الخاطِبُ على المِنْبَرِ خَطَابَةً، بالفتحِ، وخُطْبَةً، بالضمِ، وذلك الكلامُ: خُطْبَةٌ أيضاً، أو هي الكلامُ المَنْثُورُ المُسَجَّعُ ونحوهُ. ورجلٌ خطيبٌ: حَسَنُ الخُطْبَة) ( الفيروز أبادي/القاموس المحيط/ مادة خطب)
اصطلاحا: أما اصطلاحا فقد تعددت تعريفات الخطاب ومنها:
ا/ سلسلة من الملفوظات،التي يمكن تحليلها باعتبارها وحدات أعلى من الجملة، تكون خاضعة لنظام يضبط العلاقات السياقية والنصية بين الجمل
ب/مرادف لمفهوم الكلام، حيث يحيـــل إلى كيفية يشغل بها المتكلم اللسان داخل سياق تواصلي ما ) (سوسير).
ج/غير أننا نستخدم مصطلح خطاب للدلالة على مذهب معين ، يتضمن جمله من الحلول، للمشاكل التي يطرحها واقع معين زمانا ومكانا.
مصطلحى الاستنارة و التنوير:
لغه:
ا/ فى السياق الغربى:
أما مصطلحي الاستنارة والتنوير فإننا نجد- في السياق الغربي- إن المفهوم الفرنسي لمصطلح تنوير هو الأسبق في اللغات الاوربيه ، ويعنى الذكاء و المعرفة وضوح الفكر، ثم أصبح علامة على عصر اوروبى معين ( القرنين السابع عشر والثامن عشر) ،اعتقد فيه الفلاسفة الغربيون أن أنوار العقل الطبيعي وحدها قادرة على السير بالبشر نحو تقدم العلم والحكمة والحضارة.
ب/فى السياق الاسلامى: أما في السياق الاسلامى فان كلمات استنارة / تنوير في اللغة العربية مشتقه من الاصل الثلاثي( نور، نار ، أنار) ، وقد استخدم القران اللفظ بدلالته المجازية لوصف الله تعالى ( الله نور السماوات والأرض)، والقران الكريم (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) ، والرسول(صلى الله عليه وسلم)( وداعيا إلي الله باذنه وسراجا منيرا).
اصطلاحا: أما من ناحية الاصطلاح فان لمصطلح التنويردلالتين:
اولا: دلاله عامه- مشتركه: تتمثل في التنوير كمفهوم مجرد تشترك في فهمه كل الفلسفات والمناهج ، ومضمونها أن تحرير عقل الإنسان من القيود التي تعوق فعاليته كوسيلة للمعرفة ( كأنماط التفكير الخرافي والاسطورى) ،هو احد شروط نقل اى مجتمع من التخلف الحضاري إلي التقدم الحضاري.
ثانيا: دلاله خاصة - منفردة : تتمثل في تطبيق مفهوم التنوير في واقع اجتماعي معين زمانا ومكانا ، وطبقا للمعنى الذى تنفرد بفهمه فلسفه ومنهج معرفه معينين .
تعريف الخطاب الاسلامى المستنير: بناءا على ما سبق فإننا نعرف (الخطاب الاسلامى المستنير) بأنه مذهب اسلامى ، يهدف على المستوى الذاتي إلى تحرير عقل الإنسان المسلم ، من القيود التي تعوق فعاليته كوسيلة للمعرفة " كأنماط التفكير الخرافي والاسطورى والبدعى" ، باعتبار أن ذلك هو شرط ذاتي لنقل المجتمعات المسلمة من تخلف النمو الحضاري إلي التقدم الحضاري . كما يهدف على المستوى الموضوعي إلى حل للمشاكل التي يطرحها واقع المجتمعات المسلمة المعين زمانا ومكانا.
وجوب التمييز بين الاسلام كدين والمذاهب الاسلاميه: هذا التعريف يميز بين الإسلام كدين ممثلا في أصوله النصية الثابتة ، والمذاهب الاسلاميه باعتبارها اجتهادا يحتمل الصواب والخطأ.
رفض مصطلح "الاسلام الحضارى": لذا نرفض هنا مصطلح "الإسلام المستنير" لانه لا يميز بينهما ، بما يوحى ان ثمه اسلام مستنير واخر غير مستنير، وهذا البس اشكار اليه الدكتور عصمت سيف الدولة فى كتابه "عن العروبة والإسلام" حيث يقول ( ومن أشكال مناهضة الإسلام بالعروبة ، نفاقا ، تفضيل بعضهم ”الإسلام المستنير ” والإشادة به والدعوة إليه . كأن ثمة إسلاميين أحدهما مستنير يشهرونه والآخر مظلم لا يشيرون إليه. أما مصدر الضوء الذي وقع في ظنهم أن قد وقع على ” إسلام ” فاستنار واحتجب عن ” إسلام ” فأظلم، فهو أفكارهم وما يشتهون . فخلاصة موقفهم من الإسلام أن تحل أفكارهم محله في حياة الأمة العربية. ولو أنصفوا أنفسهم لتحدثوا عن الاستنارة والإظلام في المذاهب والآراء واجتنبوا الإسناد إلى الإسلام. وأن يكونوا مسلمين على مذهب يرونه مستنيراً فعليهم أن يقدموه مذهبا على مسؤوليتهم في الصواب والخطأ ، ولا يقدموه على أنه الإسلام المستنير بما يترك مجالا للظن بأن ثمة إسلاما غير مستنير )(عن العروبة والإسلام، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986).
مفاهيم الخطاب الاسلامى المستنير: وينطلق الخطاب الاسلامى المستنير- طبقا للتعريف السابق- من جمله من المفاهيم ومنها:
المفهوم الاسلامى للعقل: اتساقا مع التعريف السابق فان الخطاب الاسلامى المستنير ينبغي أن ينطلق من المفهوم الاسلامى للعقل ، الذى ينظر إليه باعتباره نشاط أو فاعليه معرفيه ( لذا لم يرد في القران لفظ عقل بصيغه الاسم. بل ورد بصيغه الفعل " نعقل، تعقلون، يعقلون..." ، كما فى قوله تعالى﴿" وكذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون" ﴾. وهذه الفاعلية المعرفية محدودة:
أولا:تكليفيا: بالوحي في إدراكه لعالم الغيب المطلق عن قيود الزمان والمكان، يقول الشاطبى (فهذا أصل اقتضى للعاقل أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع).
ثانيا: تكوينا: بالحواس في إدراكه لعالم الشهادة المحدود زمانا و مكانا ، قال تعالى﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والافئده لعلكم تشكرون﴾.
الاقتداء بالسلف لا يتعارض مع التجديد ولايلزم منه التقليد: كما ينبغي أن يقوم الخطاب الاسلامى المستنير على الاقتداء بالسلف الصالح ، لان هناك نصوص يقينية الورود قطعيه الدلاله أوجبت ذلك على جميع المسلمين قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه) (التوبة:الآية100).وقال (صلى الله عليه وسلم)(خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)( رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم).
اختلاف طبيعه الاقتداء بالسلف بختلاف موضوع اقوالهم: غير أن طبيعة الاقتداء بالسلف الصالح تختلف باختلاف موضوع أقوالهم.
فى اصول الدين:فإذا كانت أقوالهم تتصل بأصول الدين ممثله في النصوص يقينية الورود والقطعية الدلالة ،فان الاقتداء هنا يأخذ شكل الالتزام بفهم السلف الصالح لهذه النصوص ، وما تتضمنه من عقائد وعبادات وأصول معاملات، كما يأخذ شكل إلغاء الإضافات التي طرأت علي فهم السلف لهذه الأصول ،اى البدع إذ البدعة هي بالاضافه إلى أصول الدين.
فى فروع الدين: أما إذا كانت أقوالهم تتصل بفروع الدين،ممثله في النصوص ظنيه الورود والدلالة ،فان مضمون الاقتداء بالسلف الصالح هنا هو الاقتداء بهم في اجتهادهم في وضع قواعد فرعيه، لتنظيم مجتمعاتهم استجابة للمشاكل التي عاشوها، وذلك بالاجتهاد في وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتنا استجابة للمشاكل التي نعيشها ، غير أن هذا لا يعنى إلغاء القواعد الفرعية التي وضعها السلف الصالح ،بل اعتبارها تجسيدا لماضي الامه وخبرتها، وبالتالي اتخاذها نقطه بداية لاجتهادنا لا نقطه نهاية له، وذلك بالالتزام بالقواعد الفرعية التي وضعوها كما هى ، او بعد الترجيح بينها ، أو وضع قواعد جديدة استجابة لمشاكل جديدة.
وطبقا لما سبق فان الاقتداء بالسلف لا يتعارض مع التجديد ولا يلزم منه التقليد
أهداف الخطاب الاسلامى المستنير: كما يهدف الخطاب الاسلامى المستنير- طبقا للتعريف السابق- إلى تحقيق جمله من الأهداف والغايات، باعتبارها حلولا لمشاكل مشتركه، يطرحها واقع المجتمعات المسلمة المعاصر، واهم هذه الأهداف والغايات هي:
أولا: الحرية:
أكد الإسلام على قيمه الحرية بأبعادها المتعددة ،قال تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ، وقال تعالى ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )(الكهف:29)،وقال تعالى ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )(يونس:99) ،وقال عمر بن الخطاب ( رضوان الله عليه )( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً) فتوح مصر ( ص 290 ) ، والحرية في المفهوم الإسلامي هى المقدرة على الترقي المادي والروحي للإنسان، أي المقدرة على إشباع حاجاته المادية والروحية ، هذا الترقي له ضوابط تكليفيه (الوحي)،وتكوينيه (السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود) تحده ولا تلغيه فتكمله وتغنيه.
الديموقراطيه: اتساقا مع المفهوم الاسلامى للحرية فان الخطاب الاسلامى المستنير ينبغي لن يتجاوز موقفي الرفض المطلق أو القبول المطلق لمفهوم الديموقراطيه، إلى موقف نقدي يقوم على التمييز بين الدلالات المتعددة للمفهوم ، فالإسلام لا يتناقض مع الدلالة العامة - المشتركة لمفهوم الديمقراطية، اى الديموقراطيه كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام.أما الدلالة الخاصة - المنفردة للمفهوم ومثالها الديموقراطيه الليبرالية ، فيقوم الموقف الصحيح منها على اخذ وقبول ما لا يناقض أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة، ورد ورفض ما يناقضهما ،هذا الموقف يقوم إذا على قبول مفهوم الديموقراطيه، بعد تقييده بالمفاهيم الكلية للفلسفة السياسية الاسلاميه،والتي هي بمثابة ضوابط موضوعيه مطلقه للتنظير والممارسة السياسية و أهمها:
التمييز بين الأصول والفروع: يجب التمييز بين اصول الدين ، التي مصدرها النصوص يقينية الورود القطعية الدلالة،والتى تسمى تشريعا، والتي لا يجوز مخالفها او الاتفاق على مخالفتها. والفروع التي مصدرها النصوص ظنيه الورود والدلالة، والتى تسمى اجتهادا، وفيها اختلف ويختلف المسلين بدون إثم، وهنا يجب الاحتكام إلى رأى الشعب او اغلبيته في مجال السياسة
(السلطة) باعتبار ما ذهب إليه أهل السنة من ان الامامه(السلطة) من فروع الدين وليست من أصوله ، يقول الإيجي عن الامامه: « وهي عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا » (المواقف: ص 395).
التمييز بين السلطة والسيادة: بناءا على التمييز السابق بين الأصول والفروع ، يجب التمييز بين السيادة (السلطة المطلقة )(ألحاكميه بالمصطلح الاسلامى)، والسلطة (ممارسه السيادة في مكان وزمان معينين )(الأمر بالمصطلح الاسلامى)، فالأولى ينفرد بها الله تعالى - استنادا إلى مفهوم التوحيد -. أما الثانية فستند إلى الجماعة- المستخلفة عن الله تعالى أصلا في إظهار حاكميته - اى استنادا إلى مفهوم الاستخلاف - أما الحاكم فنائب ووكيل عنها، لها حق تعيينه ومراقبته وعزله، يقول أبو يعلي أن الخليفة ( وكيل للمسلمين).
ثانيا: العدالة الاجتماعية:
اعتبر المنظور الاجتماعي الاسلامى ، أن العدل هو قاعدة من قواعد النظام العام الاسلامى ‏(‏وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 58‏) .كما اعتبر أن العدل الاجتماعي غاية للنشاط الاقتصادي ، وذلك من خلال تقريره لشرطي العدل الاجتماعي: تكافؤ الفرص وعدالة توزيع الثروة التي تتضمن عدالة الأجور، ففيما يتعلق بالشرط الأول (تكافؤ الفرص) يقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ( والله ما احد أحق بهذا المال من احد ،وما من احد إلا وله نصيب في هذا المال نصيب أعطيته أو منعته ،فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وعناؤه وحاجته ،والله لئن بقيت لهم ليصلن الرجل حقه من المال وهو في مكانه يرعى). أما فيما يتعلق بالشرط الثاني (عدالة توزيع الثروة وعدالة الأجور )، روي أن ابوعبيدة تحدث يوماً مع عمر(رضي الله
عنه) في استخدام الصحابة في العمل فقال ( أما إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة )، قال أبو يوسف في تفسيره ( إذا استعملتم علي شيء فابذل لهم العطاء والرزق لا يحتاجون).
المساواة: كما قرر المنظور الاجتماعي الاسلامى، قيمه المساواه ذات الصلة الوثيقة بالعدل الاجتماعي: قال تعالى ﴿ أن أكرمكم عند الله اتقاكم﴾. وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) (الناس سواسية كأسنان المشط )، والمساواة (في المجال الاقتصادي) في الإسلام تعني أن تحكم العلاقات بين الناس في المجتمع ، قواعد عامة مجرده سابقه علي نشأة تلك العلاقات ،هي الضوابط التي وضعها مالك المال تعالي ، لتنظيم انتفاع المستخلف فيه ( الجماعة)، علي الوجه الذي يحقق مصالحها ككل وليس مصلحه فرد أو فئة، دون إنكار ما يكون بين الناس من تفاوت في المواهب والمقدرات الذاتية ، قال تعالى ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ ( الزخرف 32.)
التوازن بين الفرد والجماعة:كما أن المنظور الاجتماعي الاسلامى، يرفض النزعة الفردية التي تؤكد على الفرد لتلغى الجماعة لقوله )(صلى الله عليه وسلم)( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، كما يرفض النزعة الجماعية التي تؤكد على الجماعة لتلغى الفرد لقوله (صلى الله عليه وسلم)(لا يكن أحدكم امعه، يقول أنا مع الناس ان أحسنوا أحسنت، وان اساؤا أساءت، بل وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أحسنتم ، وان اساؤا ان تجتنبوا إساءتهم)، ويقوم على التوازن بين الفرد والجماعة من خلال التأكيد على ان الجماعة بالنسبة للفرد كالكل بالنسبة للجزء تحده فتكمله وتغنيه ولكن لا تلغيه(مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)، وهو التوازن اللازم لتحقيق العدل الاجتماعي...
الملكية الفردية ذات الوظيفة الاجتماعية:و العدل الاجتماعي مرتبط بوظيفة الملكية ، فهو ينتفي عندما يكون من حق المالك اتخاذ القرار الاقتصادي دون المجتمع (الملكية الخاصة)،ويتحقق عندما يكون القرار الاقتصادي أصلا من حق المجتمع، وبالتالي يجب أن لا يتناقض القرار الاقتصادي للمالك مع مصلحته (الملكية الاجتماعية) ، بصرف النظر عن الشكل القانوني للملكية (فرديه،تعاونيه ، مشتركه ، عامه...). وبالرجوع إلى المنظور الاقتصادي الاسلامى ، نجد انه يرفض الملكية الخاصة، والتي تسمى (ملكية الرقبة)،والتي تخول للفرد التصرف المطلق في المال ،إذ أن مضمونها يقابل مصطلح الملكية القرانى ، والملكية طبقا له هي صفة من صفات ربوبية الله تعالى ﴿ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ (المائدة: 17)، وإسنادها إلى سواه هو شرك في الربوبية ﴿ وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ﴾ (إلاسراء:111 ). أما الملكية الفردية كشكل قانوني للملكية، فقد اقرها الإسلام ، لكن على وجه يتسق مع تصور خاص للملكية الاجتماعية قائم على إسناد ملكيه المال لله تعالى (واتوهم من مال الله الذى أتاكم) ، واستخلاف الجماعة في الانتفاع به من خلال : أولا: أن للجماعة حق الانتفاع بمصادر الثروة الرئيسية دون الفرد، قال (صلى الله عليه وسلم)( الناس شركاء في ثلاثة الماء و الكلأ والنار (روه احمد وأبو داود)، ثانيا: تولى الدولة إدارة إنتاج هذه المصادر باعتبارها وكيل للجماعة ونائب عنها، قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)( لو أن عناقا ( عنزا ) ذهب بشاطئ العراق لأخذ بها عمر يوم القيامة)، ثالثاً : أما ما دون مصادر الثروة الرئيسية فان للجماعة أن تتركه حقا ينتفع به الفرد (القطاع الخاص) بشرط أن لا يتعارض ذلك مع مصلحتها.
ثالثا: الوحدة: دعا الإسلام المسلمين إلى الوحدة ، قال تعالى﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾.
وجوب التمييزبين الوحدة ألتكليفيه والتكوينية:غير انه يجب التمييز(وليس الفصل) بين الوحدة التكليفيه، والوحدة التكوينية.
امه التكليف وامه التكوين: ومصدر هذا التمييز هو التمييز بين أمه التكليف التي تقوم عليها الأولى ،وأمه التكوين التي تقوم عليها الثانية، فأمه التكليف هى التي تتميز عن غيرها بالمضمون العقدي كما في قوله تعالى﴿ أن هذه أمتكم أمه واحده وأنا ربكم فاعبدون﴾(الأنبياء:92). أما أمه التكوين فهي التي تتميز عن غيرها بالمضمون الاجتماعي كما في قوله تعالى ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾(الأعراف:160)، وللاخيره دلالة عامه قد تشمل الاسره أو العشيرة أو القبيلة او الشعب ،كما أن لها دلالة خاصة مقصورة على الشعب معين ، يتميز عن غيره بالأرض والتاريخ والحضارة.
كيفيه تحقق الوحده التكليفيه:بناء على ما سبق فان الوحدة التكليفيه تتحقق بالاتفاق على أصول الدين اليقينية الورود القطعية الدلالة ، مع اباحه الاختلاف في فروعه الظنية الورود والدلالة قال تعالى﴿أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ (الشورى:13).
كبفبه تحقق الوحده التكوينيه : أما الوحدة التكوينية فتتحقق بالوحدة السياسية لامه معينه اكتمل تكوينها الاجتماعي.
الممكن: والانتقال مما هو كائن ( التقسيم والتجزئة والتفتيت)، إلى ما ينبغي أن يكون(الوحدة) لا يتم إلا من خلال الممكن ، و هو اتخاذ كل الخطوات الممكنة تجاه الوحدة ومن هذه الخطوات:
- أن تحقيق الوحدة التكليفيه( الدينية)، بالتقاء المسلمين على أصول الدين، مع اباحه اختلافهم في فروعه ،هو شرط للوحدة التكوينية( السياسية)
لما كانت الوحدة التكوينيه هي وحده بين أمم مسلمه، فان الخطوة الأولى لها هي توحيد كل أمه منها في بشكل تدريجي سلمى مؤسساتي، فوحده كل أمه مسلمه "كالامه العربيه" هي خطوه تجاه الوحدة الاسلاميه، وبنفس المستوى فان تحقيق الوحدة الوطنية في كل جزء من أجزاء الامه هو شرط لتحقيق الوحدة القومية للامه ككل.
ان الوحده الممكنه فى عصرنا هى إنشاء هيئات مشتركه بين الأمم المسلمة، تنوب عنها في ممارسه بعض السلطات الداخلية والخارجية ، وهذا الشكل يسمح أن يصل الاتفاق إلى حد أن يكون للهيئات حق التمثيل الدبلوماسي و إعلان الحرب وإبرام الصلح ، وهو ما عبر عنه في الفكر السياسي الحديث بالدولة التعاهديه ( الكونفدراليه).
رابعا: الاصاله والمعاصرة (التجديد):
ترتبط مشكلة الاصاله والمعاصرة بالمشكلة (الحضارية) ،اى مشكلة كيفية تحقيق التقدم الحضاري في المجتمعات المسلمة؟ و هناك ثلاثة مواقف من هذه المشكلة.
الموقف الأول: (التقليد): يقوم على ان تحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة يكون بالعودة إلى الماضي ، والعزلة عن المجتمعات المعاصرة، وبمنظور علم أصول الفقه هو موقف يقوم على الوقوف عند أصول الدين وفروعه. و التَّقْلِيدِ بالاصطلاح الشرعي قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ بِلَا حُجَّةٍ يَذْكُرُهَا ( شرح المحلي على الورقات)، وقد ذم القران التقليد (وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه إباءنا) (لقمان:21). كما نهى عنه الائمه :يقول الإمام أبو حنيفة(حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتى بكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا)( ابن عبد البر، فى فضائل ألائمه والفقهاء، ص145 )، ويقول الإمام احمد بن حنبل( لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وخذوا من حيث اخذوا) (ابن القيم أعلام الموقعين،ج2، ص302).
الموقف الثاني: (التغريب): يقوم على أن تحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة لا يمكن أن يتم إلا باجتثاث الجذور ، وتبني قيم المجتمعات الغربية. وفي منظور علم أصول الفقه يقوم على تبني قيم حضارة أخرى تناقض أصول الدين وفروعه - وقد لا يعي أصحاب هذا الموقف بهذا التناقض- . فهو موقف يقوم على الرفض المطلق من هذه الجهة. ومن جهة أخرى يقوم على القبول المطلق لإسهامات المجتمعات الغربية.
الموقف الثالث: الاصاله والمعاصرة (التجديد): أما الموقف الذى يعبر عن الخطاب الاسلامى المستنير فهو الموقف الذى يجمع بين الاصاله والمعاصرة من خلال تقرير أن تحقيق التقدم الحضاري لمجتمعات المسلمة ، يتم باستيعاب ما لا يناقض أصول الإسلام كدين (التي تمثل الهيكل الحضاري للمجتمعات المسلمة) ، سواء كانت من اجتهادات المسلمين ، أو إسهامات المجتمعات المعاصرة الأخرى.
الاستفادة من الإسهامات الحضارية للأمم الأخرى: فهذا الموقف إذا يقوم على تجاوز موقفي الرفض والقبول المطلقين للإسهامات الحضارية للأمم الأخرى، إلى موقف نقدي قائم على اخذ وقبول ما يتسق مع أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة، ورد ورفض ما يتناقض معهما ، وهو الموقف الذى يتسق مع جوهر موقف الإسلام من المجمعات الأخرى وإسهاماتها ، فقد استفاد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة الأحزاب من الفرس فى صنع الخندق ، ورد فى عون المعبود (سميت الغزوة بالخندق لأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره - عليه الصلاة والسلام - لما أشار به سلمان الفارسي فإنه من مكائد الفرس دون العرب)، و استفاد عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) من الفرس في تدوين الدواوين ، يقول ابن الأثير(الديوان هو الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وأول من دون الدواوين عمر، وهو فارسي معرب)،
التجديد طبقا لضوابطه الشرعيه : كما انه موقف يسند إلى التجديد طبقا لضوابطه الشرعيه ، والتجديد لغة أعاده الشيء الى سيرته الأولى (لسان العرب 3/111، الصحاح للجوهرى 2/454)،أما في الاصطلاح الشرعي فهو الاجتهاد في فروع الدين المتغيرة، والمقيد (المحدود) بأصوله الثابتة ، قال (صلى الله عليه وسلم) (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (سنن أبى داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر فى قرن المائة ح رقم 3740 والحاكم فى المستدرك 4/522).



د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفة القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى