خالد جهاد - الحب في أجواء ضبابية

تغص ذاكرتنا وذكرياتنا وتاريخنا الأدبي والفني في بلادنا جميعاً وبكل الثقافات التي تحتضنها سواءاً كانت عربية، أرمينية، كردية، أمازيغية أو غيرها من الثقافات بالحديث عن الحب، ذلك الموضوع الذي يسكننا ويغير الكثير بداخلنا في صمت، ولكننا لكثرة ما استمعنا إلى كلماته في الأغنيات و قرأنا مفرداته في الأشعار اعتبرناه أمراً عادياً من المسلمات أو شعوراً مستهلكاً، مع أنه الشعور الإنساني الوحيد الذي يمتلك القدرة على التجدد والتشكل والتلون والتحول إلى أنماطٍ يصعب احصاؤها أو إدراكها أو فهم اتصالها الوثيق به أو تفرعها منه أو نسبها إليه، ربما لأننا اعتدنا على حصره في شكلٍ نمطيٍ واحد قوض فكرتنا عنه وآن الأوان لتغييرها..

فالحب الذي اختلف على الشكل الأمثل والصورة الأجمل له، وبرغم أنه أجمل المشاعر وأكثرها نقاءاً بات بالنسبة للكثيرين مصدراً للتعاسة والشقاء، ومرادفاً للوهم الذي لا وجود له كالشخصيات الخرافية التي سمعنا عنها في حكايات الطفولة، أو أصبح بمثابة لغزٍ أو حلمٍ بعيد المنال يداعب المخيلة ولكنه لا يعدو كونه مجرد حلم..

خاصةً في غياب الحب الصادق الذي لا يعبأ بإغراء المادة وبريق المظاهر والمصالح والعلاقات، ولا تهزه رياح المقارنات، أو تهدمه الخيانة والنزوات، أو تعريه الشدائد والأزمات، والذي لا ينطبق فقط على علاقة الرجل والمرأة أو علاقة أي زوجين، بل يشمل في مفهومه الأوسع الإخوة والأصدقاء والأقارب وعلاقة الطلاب بأساتذتهم وكل علاقةٍ إنسانية تحمل في ثناياها عاطفةً نبيلة مقصدها هو المحبوب بذاته أو لذاته والتي يمكن أن تشمل حتى ما هو أبعد من البشر لتتخذ شكلاً أكثر شفافية ً وروحانية..

لكن مع الحيرة بين ما نشعره وبين ما نعيشه أو نسمع عنه حولنا بشكلٍ مستمر.. هل ينبغي علينا كبت مشاعرنا وتجاهلها أم التعاطي مع فكرة الحب أو المحبة (لتكون الصورة أشمل) من منظور ٍ واقعي؟
فاليوم دون تجميلٍ للحقائق نستطيع الإدراك بسهولة كأشخاص ٍ ناضجين لدى كلٍ منا تجربته مهما كانت بسيطة أن الحياة في الوقت الحالي باتت تتأثر بشكل ٍ كبير بمفردات المال والجنس، وهو ما دمر الكثير من العلاقات التي عشناها وجعلنا نرى بصماتها حتى في الكثير من قصص الآخرين والتي بلا شك وجدنا فيها انعكاساً لوجعنا الخاص، وظلت دون أن ننكر ذلك أمام أنفسنا غصةً نتناساها لكننا لا ننساها كلياً مما جعلنا نهاب أي شعورٍ صادق تجاه أي إنسان..

فتجارب الصداقة التي تنتهي بالخذلان وخيبات الأمل لا تقل مرارةً عن عذابات الحب إن لم تكن تفوقها، فنحن لا نختار أهلنا كما نختار رفاقنا لأنهم ببساطة من نرى فيهم جزءاً آخر منا فنشكو لهم من جفوة الحبيب وحال الدنيا ونشاركهم أحلامنا وأسرارنا ولحظاتنا الخاصة، لذا يضيق العالم حتى يتحول إلى قبر عندما نعي أن الكتف الذي استندنا أو اعتقدنا أننا يمكننا الإستناد إليه هو مجرد سراب، فتخلف هذه التجربة وغيرها من التجارب الوجدانية المتشابكة ندبةً غير مرئية لكن أثرها عميقٌ لا يمحى..

ولربما كان الحل الأمثل والذي يبدو صعباً خاصةً في الوقت الذي نعيشه وأصبحت العاطفة فيه عملةً نادرة تزايد الإحتياج إليها أكثر من أي وقت ٍ مضى هو التجرؤ على المضي قدماً، والتجرؤ على التحرر من التجارب المؤذية التي كسرتنا وهزت مفهوم العاطفة الإنسانية والحياة ككل في أعيننا، واعطاء القلب فرصته في تجديد أحاسيسه وتنقيتها مما علق بها من شوائب لا يجب أن تبقى سوى كدرسٍ في الذاكرة، ليساعدنا على فهم ذاتنا ورغباتنا واحتياجاتنا ولنعرف ماذا نريد في المرحلة التي نعيشها بعد الخبرات التي اكتسبناها، ولنتفهم آلامنا ومخاوفنا كي نستطيع اجتيازها والتعامل معها بحكمةٍ وعقلانية باتت هي أكثر ما نحتاجه لنتعلم التخلي عن كل مايؤذينا لأننا لن نقدر على البدء من جديد طالما لا زلنا عالقين في تجارب الماضي ولازلنا ننظر للمحبة من زاوية ٍ واحدة، فالعلاقات تبنى على الإهتمام والشفافية والعطاء من كل الأطراف، ولعل هذا الألم الذي أنضجنا هو ما سيمكننا من حسن التقدير واختيار ما يناسبنا ومن يناسبنا ويليق بنا لأنه يجب أن يعطينا بقدر ما يأخذ منا حتى يسمى بالحب وحتى يكون له معنىً وقيمة وسط الرؤية الضبابية التي تحيط به..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى