خالد جهاد - الحقيقة في حضور أنصاف الحكايا

نيسان/ أبريل ٢٠٠٠

تتسرب منا بعض المشاعر عكس ارادتنا، رغم تلك المحاولات الحثيثة لإخفائها خلف الكثير من الأقنعة التي تتهاوى في لحظاتٍ قد لا نتوقعها، فنفشل في ارتدائها بسرعةٍ من جديد بينما نرى مشهداً دافئاً لصبيةٍ يلعبون في شارعهم قبيل الغروب.. مذكراً بتلك السنوات التي مضت والتي لم تغادر رائحتها الأنف ولم تبارح ذكراها القلب.. وما أشبه اليوم بالأمس.. حيث مذاق ساعات العصر يكبل الروح، في ذلك الوقت الغريب (بالنسبة لي) بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ذلك الوقت الذي لم أكن أعرف فيه نفسي ولكنني كنت ألاحق شعوري محاولاً ترجمته إلى لغةٍ يمكنني فهمها بينما أقف عاجزاً في منتصف هذا الكون الواسع، أعرف القليل وأجهل الكثير في غربةٍ مركبة بمواصفاتٍ خاصة ومعايير معقدة وتفاصيل مربكة، لا أملك سوى شيئين ظلا معي حتى يومنا هذا رغم العلاقة المتشابكة بيننا هما (الإحساس والقلم)..

فوصف شيءٍ لا يوصف عادةً ليس بالأمر الهين خاصةً عندما لا تعرف كيف مر عليك.. كيف انتهى.. وهل انتهى؟ إلى جانب أسئلةٍ كثيرة كانت أكبر مني ومن الجميع، كل واحدٍ منها متصلٌ بأسئلةٍ أكثر وأشد صعوبة، هربت منها أو اختبأت قليلاً في مساحتي السرية التي كانت تكبر بالتوازي مع اطلاعي على ديني ومحاولة الإطلاع على بقية الأديان والأفكار التي سمعت عنها الكثير لكنني لم (أقرأها) أبداً في ذلك الوقت، وبدأت محاولتي الجادة الأولى بعد سلسلة من الكتابات بدأت في سن الخامسة، اعتبرتها كنزي وحلمي المؤجل وصوتي في حناجر شخصياتٍ أخرى، أوجدت لها مساحتها وحياتها وسمحت لها بأن تقول ما كنت أخاف (آنذاك) من قوله، كنت أكتب قليلاً وأمحو كثيراً حتى بدأت الشخصيات تعيش تحولاتها، وكوني في بيئةٍ معزولة في ذلك الوقت لم أكن أعرف بما يصدر حولي من أعمال في العالم العربي سوى القليل، ناهيك عن تلك التي تصدر في الغرب مع بعض الإستثناءات، فكانت غربةً قررت تتويجها بغربةٍ أكبر ضمن أحداث (مشروعي الروائي) الذي كان مسرح أحداثه العاصمة الفرنسية باريس، فقد كانت بالنسبة لي حينها تجسد ما أحلم به ويحلم به أبطال روايتي التي لم أكن قد اخترت لها اسماً تاركاً هذا الأمر حتى انتهائي من الكتابة.. كانت تجسد (الحرية).. حرية التعبير والرأي والإبداع والتفكير والتي لم أؤمن أنها تصطدم مع معتقداتي الدينية أو أفكاري كوني أعرف ما أريده ولا أخفيه وكوني اعتدت الحديث بصراحة ٍ مطلقة مع الله وحده عكس البشر الذين اعتدت التحفظ معهم، ولم يكن في بالي أن أفعل شيئاً سوى أن أختار ما أحبه وأن أحب ما أختاره وأن أقرأ الكثير مما لم أقرأه وهو ما لم يجعلني أعتقد للحظة بأنني أمشي في الإتجاه الخاطىء، مثل شخصياتي التي كانت تبحث عن حقوقها فقط وهربت اعتقاداً منها بأنها ستجدها هناك.. في باريس مدينة الجن والملائكة وكعبة العشاق كما يقولون..

وبعد عامٍ ونصف، تقريباً في خريف عام ٢٠٠١، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول بفترةٍ قصيرة وبعد أن قطعت شوطاً كبيراً في (مشروعي) الذي أكمله سراً بعد إنهاء دراستي كل يوم.. صدمني خبر قرأته في إحدى الصحف ضمن إحدى الصفحات الثقافية عن (عمل جديد) وهو الشروع في تحويل إحدى الروايات التي لم أكن على علمٍ بصدورها عام ١٩٩٩ للروائية السورية هدى الزين (والتي تقيم في باريس) بعنوان (غابة من الشوك) إلى فيلم مصري بإسم (الباحثات عن الحرية) والذي يتشابه مع الفكرة التي كنت أحلم بتقديمها ومناقشتها آنذاك، مع فارق أن الرواية والفيلم ناقشا الفكرة وقاما بمعالجتها في إطارٍ نسوي يجعل حريتها مرهونة بالرجل والجسد بينما كنت (أحاول) وقتها طرح الفكرة من عدة زوايا تشبه الناس أكثر، كون الحرية في نظري غير مرتبطة بالجنس إنما بالتفكير والإرادة خاصةً في ظل واقع يجعلها بعيدة المنال سواءاً كان ذلك للرجال أو النساء، وهو ما كنت ولا زلت أؤمن به لأن للرجل قيوداً أيضاً من نوع مختلف إلى جانب تلك التي يتشاركها مع المرأة، أما المكتسبات التي يمنحها المجتمع له فليست سوى محض أكاذيب أشبه بحبل ٍ يلفه حول رقبته ولا علاقة للحرية كقيمة بها ..

كانت اختياراتي في الحياة محدودة ولذلك كنت أدرسها وأدرس قناعاتي وخطواتي جيداً سواءاً كانت شخصيةً أم مهنية لإدراكي أنني وحدي من سيتحمل عواقبها، ولم أرغب حينها في طرح فكرةٍ طرحت سابقاً من أسماءٍ معروفة كون النتيجة على الأغلب لن تكون لصالحي، فدفعني ذلك إلى التخلص من كل ما كتبته بحثاً عن بدايةٍ جديدة أخذت وقتاً لتنضج، لتسأل، لتفكر، لترفض، لتقرر وتتجرأ على الإفصاح عن قناعاتها وإن لم تكن تنتمي إلى وسطٍ بعينه (كما يريد الناس) وإن أعلنوا عكس ذلك، فخسرت كثيراً وربحت نفسي ووجدت أن أغلبنا يعيش في عالم (أنصاف الحكايا) لنحاول النجاة أو جذب الإنتباه أو كسب التعاطف مع قضايانا، تماماً كما كنا نكذب في طفولتنا أو نخفي بعض التفاصيل (لنكسب المعركة) ونتلاشى الخسارة أو العقاب...

فهناك دوماً طرفان (وربما أكثر) لكل حكاية، وأمام كل حكاية هناك حكاية أخرى قد تؤكدها أو تنفيها أو تغير مجراها بالكامل في السياسة أو الفن أو الثقافة أو الحياة عموماً، وقد تكلفنا محاولة معرفة النصف الآخر الكثير خاصةً عندما يغلب تعصب كل فريقٍ لحكايته على المشهد ككل مع أن كليهما قد يكون ضحيةً وجلاداً في الوقت ذاته، لكننا هكذا اعتدنا إدانة الآخر وتشويهه حتى وإن لم يكن يستحق ذلك لمجرد أنه (آخر) وهي الخطيئة التي يشترك فيها الجميع دون استثناء، ولذلك كان إيماني وقتها منصباً على كلمة (الحرية) والرغبة في الإنتفاض على كل شيء، لكنني عندما أقارن كل شيء قبل ٢٢ عاماً باليوم أجد أن أبناء بلادنا لن يتغيروا وإن ذهبوا إلى كواكب أخرى فالكل يفهم حريته بإقصاء غيره وتهميشه، فلا فرق اليوم بين متشدقٍ بالعلمانية ومتشدقٍ بالدين لأن كليهما (غالباً) سيضرب بقناعاته وشعاراته عرض الحائط عند الوصول إلى السلطة وكليهما سيقدم (تحالفاته) على وطنه، وكليهما سيستخدم الغرائز (على طريقته) لهزيمة الطرف الآخر (بطرق لا أخلاقية)، وكليهما سيرفض حرية الرأي للطرف الآخر مرةً بإسم التطرف ومرة بإسم إفساد المجتمع لكنهما سيتفقان في نقطة جوهرية ألا وهي الصمت حيال القضايا والأزمات الكبرى لمحاولة تمرير الوقت وموجات الغضب دون خسارة مصالحهم، فيما لم يمنع الدين أحداً من التفكير أو الحرية لكن وكما يبدو أن الأغلبية لا تقرأ أو لا تريد أن تقرأ (سوى ما تريد أن تقرأه) وهو (نصف الحكاية) دون بحث أو تثبت، لتثبت وجهة نظر مصدرها مشاكل شخصية مع البعض أو ظروف مرت بها في الماضي ويستخدم الجميع فيها الدين اعتقاداً منه أنه (الحلقة الأضعف) التي سيثبت من خلالها (عبقريته)..

أما الحرية فلا وطن لها سوى أرواح بعض البشر حيث تخضع كل البلاد لمصالحها وأولها الدول العظمى، وماعدا ذلك مجرد شعارات يسوقها الغرب للشرق الذي تدغدغه هذه المصطلحات، وبين نهاياتٍ مشرقة رسمتها رواية (غابة من الشوك) أو فيلم (الباحثات عن الحرية) أو حتى مشروعي الذي لم أمنحه اسماً وبين الواقع الذي بحثنا فيه عن بداية ٍ مختلفة، اكتشفت أن النهاية ستظل مفتوحة على كل الإحتمالات وأننا خلال هذه السنوات لم نجد ما بحثنا عنه، كما فقدنا جزءًا كبيرًا من إنسانيتنا ونزاهتنا ووطنيتنا ومصداقيتنا وشعورنا ببعضنا عندما تشبثنا بنصف الحكاية وأعدمنا لأجلها الحقيقة التي قد تتسع لنا جميعاً..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى