كأنك تعطيه الذي أنت سائله:
العيد الكبير على الأبواب· الساعة تحبو نحو السابعة مساء· أزور شكري في (إلدورادو): يجلس وحيدا إلا من كأسه· يرتدي معطفا ويلف عنقه بشال صوفي بني· منهمك في قراءة صحيفة إسبانية (أظن أنها "إلباييس")· نتبادل كلما التحية· يدعوني إلى الجلوس· يتفطن إلى مزاجي المتعكر·
ــ ما بك؟ هل تعاني خصاصا ماديا؟ قل ولا تتحرج·
ــ لا· ليس الأمر ما تظن· إنها خلافات عائلية·
ــ آلسي ما تحشمشي· احنا مغاربة وكنعرفوا اللي كاين· راك في المغرب ما شي في فرنسا!
يواصل بعد صمت قصير:
ــ يمكنني أن أقرضك·
ــ ربي يخلّيك· تأكَّد أنني إذا احتجت سألجأ إليك·
ــ أنت تعرف·
هذا رجل لا شبيه له· إنه استثناء يذكرك بقول زهير بن أبي سلمى:
" تراه إذا ما جئته متهللا،
كأنك تعطيه الذي أنت سائله"·
"طويار الريتز":
في الظهيرة أحيانا، وفي المساء غالبا، يستعد شكري لمغادرة (الريتز): يطلب من النادل عبد الحفيظ أن يأتيه بالفاتورة· يأخذها· يرتدي نظارته· يدقق في الأرقام، يعقد حاجبيه مندهشا:
ــ هاي·· هاي·· أنا شربت كل هذه الكؤوس؟!
ــ طبعا السي محمد ـ يقول النادل·
ينزع شكري نظارته· ينظر إليه بعينين تجلَّى فيهما الاستفسار:
ــ سي عبد الحفيظ، اتبت معايا ـ ياك ما أنا سكران·
ــ لا، انتينا ماشي سكران·
ــ إذن الفاتورة حقيقية· وأنت لست كذابا!
يوقع شكري على الفاتورة· ويرسم طائرا (يسميه: "طويار الريتز") بأرجل قصيرة، إذا كان التسديد عاجلا· وبأرجل طويلة، إذا كان الدفع آجلا·
ثم يحمل محفظته، يلتقط ما على المائدة من أوراق، سجائر، أقلام، وأدوية· ينهض: "الأستاذ حسن، علينا أن نغادر"·
في الطريق إلى بيته، تستوقفه امرأة· تطلب منه أن يعطيها شيئا لله· يمدُّ لها خمسة دراهم· نستأنف السير· يقول: "لا أحد هنا يتشبث بحياة الزلط"· يصمت ، ثم يضيف:
" تفو على الفقر!" ·
تواضع الكبار:
ما يزال شكري يشبه ذاته القديمة· ما يزال ينتمي إلى منطلقاته· لم تغير الشهرة فيه شيئا·
أتصفَّح دفتر يومياتي معه· وأقرأ ما كتبت ذات إعجاب، لم أعد أذكر توقيته: "لا تقترب الأنانية من ساحة محمد شكري· ولا يتطاول الخيلاء بداخله· إنه كبير لكنه لا (يتطاوس)·"·
مرة، أذكر بإعجاب، كنا شكري وأنا، جالسين في سطيحة بيته· فجأة التقط أوراقا من فوق المائدة، ومدها لي قائلا بصدق حقيقي: "إقرأها وقل لي رأيك"·
كانت الأوراق تتضمن نصا عن الرسام الراحل محمد الحمري· كتبه شكري لبرنامجه الإذاعي "شكري يتحدث"· قرأته· قلت :
ــ إنه نص مكثف ورائع·
أخذ مني الأوراق، قال:
ــ يبدو لي أنه ما يزال في حاجة إلى تنقيح·
الله، الله، لمبدع متواضع خير من متكبر، متطاوس، ولو أعجبكم!
العبارة الكاشفة، واللون المتحرك:
صباح يوم شتوي· العام 2000 (مقهى كران بوسط):
أذرفت السماء ماءها بعد طول انحباس، انقلب ُ إلى عداء وأنا أنهب المسافة الفاصلة بين (السواني) وشارع (محمد الخامس)· أريد أن ألتحق بمحمد شكري في (كران بوسط)· عليَّ أن أكون عنده في الموعد المحدد بيننا (السابعة بالضبط)، تفاديا لإثارة غضبه (من لديه القدرة على تحمل "الغضب الشكري"؟!)·
لم يكن شكري وحيدا "كحرف الألف" ـ كما يحب أن يقول عندما يكون على (كانته) ـ كان يشاركه المنضدة، الكأس، سجائر مارلبورو، والحنين إلى سحر طنجة المنطفئ حدَّ الرماد، منجم الألوان، والرجل الذي تحبه الفرشاة: محمد الدريسي·
ــ الرسام محمد الدريسي، هل تعرفه؟ ــ قال شكري وهو يقدمه لي بدبلوماسيته المعهودة·
ــ نعم، أعرفه· لكني لم أتشرف، قبل اليوم، بلقائه·
نهض الدريسي واقفا· مد يده يصافحني، تسبقه ابتسامة واسعة، متألقة:
ــ تعال، إذن، لتتشرف بلقائي· اجلس أمامي· لكن إذا ندمت على معرفتي، فلا تلومنّ إلا نفسك! هاها·· هاها··
ندم ؟ نعم· لكوني لم أعرفه من قبل· لمت نفسي؟ أيضا نعم· لأني اعتذرت عن مرافقته وشكري إلى مطعم (إلدواردو) لاستكمال السهرة· كنت مرتبطا بمواعيد· ولم يكن ممكنا الإخلال بها، أو حتى تأجيلها·
أعترف أنني أهدرت فرصة السمر صحبة فارسين: أحدهما يمتطي العبارة الكاشفة· والثاني يستظل اللون المتحرك·
طفولة الشيخوخة:
سهرنا معا حتى ساعة متأخرة من الليل· كان شكري يبدو طوال السهرة، منشرحا، منتشيا، يفيض ألقا وحيوية·
قلت له:
ــ تبدو وكأنك في العشرين من عمرك·
نظر إلي بعينين شبه مغمضتين:
ــ أوه! كلاَّ· لقد شِخت· لم أبلغ من العمر عتيا· لكني شخت·
ــ أدونيس يقول: "الشيخوخة هي نوع من طفولة ثانية"·
عيناه تتأملاني· يأتيني صوته بالعبارة المنتظرة:
ــ أدونيس لم يبارحه حنينه إلى طفولته· كذلك أنا· وربما أنت أيضا·
بعد قليل صمت · واصل:
ــ عندما نشيخ نتذكر طفولتنا· وعبثا نحاول استرجاعها بغير الكتابة الإبداعية·
كانت الكلمات تتعثر على لسانه· وصوته يرشح بالشوق إلى الأيام الخوالي· كان شكري يقف على التخوم بين الاستسلام إلى شيخوخة فرضت إكراهاتها· والانتماء إلى "طفولة مؤبدة" ـ بتعبير محمد برادة·
كمن تذكر شيئا فجأة، سألني شكري:
ــ هل تحفظ شيئا من شعر أبي فراس الحمداني؟
ــ نعم·
ــ أسمعني بعض الأبيات ·
قرأت :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعـم أنا مشتاق وعـندي لوعـة
ولكـنّ مثلـي لا يـذاع له سـرُّ
اعترض شكري محتجا:
ــ لا· لا· أنت تقرأ الشعر بطريقة رديئة! سأريك كيف يُقرأ الشعر·
وشرع يقرأ، وهو يحرك يديه· يهرب بنظراته إلى بعيد· يشدِّد على مخارج بعض الحروف· وينفث الحياة في (القصيدة الحمدانية)·
فيما بعد· تعكِّر مزاجي:
العاشرة والنصف صباحا· فبراير العام 2002· لم يكن هناك سوانا في (كران بوسط)·
جالسان: هو إلى كأسه الصباحية الأولى· وأنا إلى قهوتي الأثيرة اللعينة· أمامنا على المنضدة: جهاز تسجيل صغير· قلم باركر· وحزمة أوراق بيضاء· كنا بصدد الشروع في تسجيل حديث خاص عن رحلته الأولى إلى باريس، اتفقنا على إضافته في الطبعة الثانية من كتاب "هكذا تكلم محمد شكري"·
جاءت فتحية (السيدة التي تشتغل في شقته)·
مدَّ لها شكري أوراقا مالية· طلب منها أن تشتري أرنبا وتطبخه للغذاء·
دخل إلى المقهى شخص في حدود الأربعين من عمره· اقترب حيث نجلس· تغيرت ملامح شكري· نهض واقفا: "إجمع أوراقك· لنغادر هذا المكان فورا"·
في الطريق، قال شكري غاضبا: "أفسَد علينا جلستنا ذلك الشخص التافه· إنني لا أحبه· يضايقني حضوره· إنه يطرح علي أسئلة شديدة السخافة"·
أمام مقهى (روكسي)· مدَّ يده لتوديعي· قلت :
ــ لم نسجل بعد الحديث·
ــ فيما بعد· غدا أو بعد غد· لقد تعكَّر مزاجي!
ذاكرة يتقن تقنينها:
29 يناير العام 2001·
استضافني محمد شكري في شقته الأنيقة· أخذ من رفوف مكتبته الباذخة نسخة جديدة من "الخبز الحافي" (الطبعة السادسة)· وأهدانيها· تأملت لوحة الغلاف لثوان· وجد نفسي أقول بصوت واثق: "محمد الدريسي فنان يرسم بقلبه· رجل تحبه الفرشاة"·
علَّق شكري: "بالفعل الدريسي فنان لا يتكرر· إنه يذكرني بمحمد الحمري· كلاهما عاش شجاعا في فنه وفي حياته· قدم الدريسي للساحة الفنية أعمالا صادمة بمواضيعها المقلقة، الملتبسة· لم يمارس أية رقابة على نفسه· وضع الإنسان في هذا الوجود هو ما يهمه"·
أسأله:
ــ متى تعرفت عليه؟
يلوذ بمخزون الذاكرة· يتدفَّق:
ــ سنة 1966· كنا نلتقي كثيرا· فنفجِّر بعض أفراحنا وابتهاجاتنا على هوانا· وبطريقة طفولية، حميمية· في طنجة يجد دائما أهواءه الليلية والنهارية·
يصمت لثوان· يواصل:
ــ مذ عرفته حتى الآن، غيَّر الدريسي كثيرا من عاداته وطباعه· لكنه لم يتخلَّ عن سخائه، الذي يبلغ حد الإسراف أحيانا· و تكريس حياته للفن دون انشغالات أخرى·
أهبط درج العمارة· في الدخيلاء تراودني عبارة· سرعان ما أصرِّح بها: "يا للذاكرة التي يتقن هذا النحيل تقنينها"!
8/11/2005
العيد الكبير على الأبواب· الساعة تحبو نحو السابعة مساء· أزور شكري في (إلدورادو): يجلس وحيدا إلا من كأسه· يرتدي معطفا ويلف عنقه بشال صوفي بني· منهمك في قراءة صحيفة إسبانية (أظن أنها "إلباييس")· نتبادل كلما التحية· يدعوني إلى الجلوس· يتفطن إلى مزاجي المتعكر·
ــ ما بك؟ هل تعاني خصاصا ماديا؟ قل ولا تتحرج·
ــ لا· ليس الأمر ما تظن· إنها خلافات عائلية·
ــ آلسي ما تحشمشي· احنا مغاربة وكنعرفوا اللي كاين· راك في المغرب ما شي في فرنسا!
يواصل بعد صمت قصير:
ــ يمكنني أن أقرضك·
ــ ربي يخلّيك· تأكَّد أنني إذا احتجت سألجأ إليك·
ــ أنت تعرف·
هذا رجل لا شبيه له· إنه استثناء يذكرك بقول زهير بن أبي سلمى:
" تراه إذا ما جئته متهللا،
كأنك تعطيه الذي أنت سائله"·
"طويار الريتز":
في الظهيرة أحيانا، وفي المساء غالبا، يستعد شكري لمغادرة (الريتز): يطلب من النادل عبد الحفيظ أن يأتيه بالفاتورة· يأخذها· يرتدي نظارته· يدقق في الأرقام، يعقد حاجبيه مندهشا:
ــ هاي·· هاي·· أنا شربت كل هذه الكؤوس؟!
ــ طبعا السي محمد ـ يقول النادل·
ينزع شكري نظارته· ينظر إليه بعينين تجلَّى فيهما الاستفسار:
ــ سي عبد الحفيظ، اتبت معايا ـ ياك ما أنا سكران·
ــ لا، انتينا ماشي سكران·
ــ إذن الفاتورة حقيقية· وأنت لست كذابا!
يوقع شكري على الفاتورة· ويرسم طائرا (يسميه: "طويار الريتز") بأرجل قصيرة، إذا كان التسديد عاجلا· وبأرجل طويلة، إذا كان الدفع آجلا·
ثم يحمل محفظته، يلتقط ما على المائدة من أوراق، سجائر، أقلام، وأدوية· ينهض: "الأستاذ حسن، علينا أن نغادر"·
في الطريق إلى بيته، تستوقفه امرأة· تطلب منه أن يعطيها شيئا لله· يمدُّ لها خمسة دراهم· نستأنف السير· يقول: "لا أحد هنا يتشبث بحياة الزلط"· يصمت ، ثم يضيف:
" تفو على الفقر!" ·
تواضع الكبار:
ما يزال شكري يشبه ذاته القديمة· ما يزال ينتمي إلى منطلقاته· لم تغير الشهرة فيه شيئا·
أتصفَّح دفتر يومياتي معه· وأقرأ ما كتبت ذات إعجاب، لم أعد أذكر توقيته: "لا تقترب الأنانية من ساحة محمد شكري· ولا يتطاول الخيلاء بداخله· إنه كبير لكنه لا (يتطاوس)·"·
مرة، أذكر بإعجاب، كنا شكري وأنا، جالسين في سطيحة بيته· فجأة التقط أوراقا من فوق المائدة، ومدها لي قائلا بصدق حقيقي: "إقرأها وقل لي رأيك"·
كانت الأوراق تتضمن نصا عن الرسام الراحل محمد الحمري· كتبه شكري لبرنامجه الإذاعي "شكري يتحدث"· قرأته· قلت :
ــ إنه نص مكثف ورائع·
أخذ مني الأوراق، قال:
ــ يبدو لي أنه ما يزال في حاجة إلى تنقيح·
الله، الله، لمبدع متواضع خير من متكبر، متطاوس، ولو أعجبكم!
العبارة الكاشفة، واللون المتحرك:
صباح يوم شتوي· العام 2000 (مقهى كران بوسط):
أذرفت السماء ماءها بعد طول انحباس، انقلب ُ إلى عداء وأنا أنهب المسافة الفاصلة بين (السواني) وشارع (محمد الخامس)· أريد أن ألتحق بمحمد شكري في (كران بوسط)· عليَّ أن أكون عنده في الموعد المحدد بيننا (السابعة بالضبط)، تفاديا لإثارة غضبه (من لديه القدرة على تحمل "الغضب الشكري"؟!)·
لم يكن شكري وحيدا "كحرف الألف" ـ كما يحب أن يقول عندما يكون على (كانته) ـ كان يشاركه المنضدة، الكأس، سجائر مارلبورو، والحنين إلى سحر طنجة المنطفئ حدَّ الرماد، منجم الألوان، والرجل الذي تحبه الفرشاة: محمد الدريسي·
ــ الرسام محمد الدريسي، هل تعرفه؟ ــ قال شكري وهو يقدمه لي بدبلوماسيته المعهودة·
ــ نعم، أعرفه· لكني لم أتشرف، قبل اليوم، بلقائه·
نهض الدريسي واقفا· مد يده يصافحني، تسبقه ابتسامة واسعة، متألقة:
ــ تعال، إذن، لتتشرف بلقائي· اجلس أمامي· لكن إذا ندمت على معرفتي، فلا تلومنّ إلا نفسك! هاها·· هاها··
ندم ؟ نعم· لكوني لم أعرفه من قبل· لمت نفسي؟ أيضا نعم· لأني اعتذرت عن مرافقته وشكري إلى مطعم (إلدواردو) لاستكمال السهرة· كنت مرتبطا بمواعيد· ولم يكن ممكنا الإخلال بها، أو حتى تأجيلها·
أعترف أنني أهدرت فرصة السمر صحبة فارسين: أحدهما يمتطي العبارة الكاشفة· والثاني يستظل اللون المتحرك·
طفولة الشيخوخة:
سهرنا معا حتى ساعة متأخرة من الليل· كان شكري يبدو طوال السهرة، منشرحا، منتشيا، يفيض ألقا وحيوية·
قلت له:
ــ تبدو وكأنك في العشرين من عمرك·
نظر إلي بعينين شبه مغمضتين:
ــ أوه! كلاَّ· لقد شِخت· لم أبلغ من العمر عتيا· لكني شخت·
ــ أدونيس يقول: "الشيخوخة هي نوع من طفولة ثانية"·
عيناه تتأملاني· يأتيني صوته بالعبارة المنتظرة:
ــ أدونيس لم يبارحه حنينه إلى طفولته· كذلك أنا· وربما أنت أيضا·
بعد قليل صمت · واصل:
ــ عندما نشيخ نتذكر طفولتنا· وعبثا نحاول استرجاعها بغير الكتابة الإبداعية·
كانت الكلمات تتعثر على لسانه· وصوته يرشح بالشوق إلى الأيام الخوالي· كان شكري يقف على التخوم بين الاستسلام إلى شيخوخة فرضت إكراهاتها· والانتماء إلى "طفولة مؤبدة" ـ بتعبير محمد برادة·
كمن تذكر شيئا فجأة، سألني شكري:
ــ هل تحفظ شيئا من شعر أبي فراس الحمداني؟
ــ نعم·
ــ أسمعني بعض الأبيات ·
قرأت :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعـم أنا مشتاق وعـندي لوعـة
ولكـنّ مثلـي لا يـذاع له سـرُّ
اعترض شكري محتجا:
ــ لا· لا· أنت تقرأ الشعر بطريقة رديئة! سأريك كيف يُقرأ الشعر·
وشرع يقرأ، وهو يحرك يديه· يهرب بنظراته إلى بعيد· يشدِّد على مخارج بعض الحروف· وينفث الحياة في (القصيدة الحمدانية)·
فيما بعد· تعكِّر مزاجي:
العاشرة والنصف صباحا· فبراير العام 2002· لم يكن هناك سوانا في (كران بوسط)·
جالسان: هو إلى كأسه الصباحية الأولى· وأنا إلى قهوتي الأثيرة اللعينة· أمامنا على المنضدة: جهاز تسجيل صغير· قلم باركر· وحزمة أوراق بيضاء· كنا بصدد الشروع في تسجيل حديث خاص عن رحلته الأولى إلى باريس، اتفقنا على إضافته في الطبعة الثانية من كتاب "هكذا تكلم محمد شكري"·
جاءت فتحية (السيدة التي تشتغل في شقته)·
مدَّ لها شكري أوراقا مالية· طلب منها أن تشتري أرنبا وتطبخه للغذاء·
دخل إلى المقهى شخص في حدود الأربعين من عمره· اقترب حيث نجلس· تغيرت ملامح شكري· نهض واقفا: "إجمع أوراقك· لنغادر هذا المكان فورا"·
في الطريق، قال شكري غاضبا: "أفسَد علينا جلستنا ذلك الشخص التافه· إنني لا أحبه· يضايقني حضوره· إنه يطرح علي أسئلة شديدة السخافة"·
أمام مقهى (روكسي)· مدَّ يده لتوديعي· قلت :
ــ لم نسجل بعد الحديث·
ــ فيما بعد· غدا أو بعد غد· لقد تعكَّر مزاجي!
ذاكرة يتقن تقنينها:
29 يناير العام 2001·
استضافني محمد شكري في شقته الأنيقة· أخذ من رفوف مكتبته الباذخة نسخة جديدة من "الخبز الحافي" (الطبعة السادسة)· وأهدانيها· تأملت لوحة الغلاف لثوان· وجد نفسي أقول بصوت واثق: "محمد الدريسي فنان يرسم بقلبه· رجل تحبه الفرشاة"·
علَّق شكري: "بالفعل الدريسي فنان لا يتكرر· إنه يذكرني بمحمد الحمري· كلاهما عاش شجاعا في فنه وفي حياته· قدم الدريسي للساحة الفنية أعمالا صادمة بمواضيعها المقلقة، الملتبسة· لم يمارس أية رقابة على نفسه· وضع الإنسان في هذا الوجود هو ما يهمه"·
أسأله:
ــ متى تعرفت عليه؟
يلوذ بمخزون الذاكرة· يتدفَّق:
ــ سنة 1966· كنا نلتقي كثيرا· فنفجِّر بعض أفراحنا وابتهاجاتنا على هوانا· وبطريقة طفولية، حميمية· في طنجة يجد دائما أهواءه الليلية والنهارية·
يصمت لثوان· يواصل:
ــ مذ عرفته حتى الآن، غيَّر الدريسي كثيرا من عاداته وطباعه· لكنه لم يتخلَّ عن سخائه، الذي يبلغ حد الإسراف أحيانا· و تكريس حياته للفن دون انشغالات أخرى·
أهبط درج العمارة· في الدخيلاء تراودني عبارة· سرعان ما أصرِّح بها: "يا للذاكرة التي يتقن هذا النحيل تقنينها"!
8/11/2005