خالد جهاد - حلم صعب النوال

المقال رقم (١٨) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

لطالما شهدنا على مر الزمان ظهور موجاتٍ وانحسار أخرى وصعود أسماء بالتزامن مع أفول أسماءٍ كانت ملأ السمع والبصر، ورغم ذلك ظل هناك شخصيات ٌ بعينها مرتبطةً بحالة وزمن وفكرة (اتفقنا معها أم اختلفنا) خاصةً عند التوثيق لحقبة من تاريخ الشعوب وارتباطها معها ووجود بصمتها وحضور اسمها حتى بعد رحيلها، وهو ما لا ندركه جيداً حيث يخلط الكثير من الأشخاص بين التوثيق والترويج وبين الآراء الشخصية والتساؤلات التي يسألها الناس عموماً ولكن أغلبها لا يثار أو يطرح ممن يفترض بهم إيصال هذه الأسئلة، والإعتراف بإيجابيات من نختلف معهم وبسلبيات من نؤيدهم هو ترجمة لقيمة المسؤولية والأمانة الفكرية خاصةً عند توخي الإحترام في عرض الإختلافات، لذا لا نستطيع أن لا نتحدث عن شخصيات وأحداث تركت أثراً وبصمة في مجتمعاتنا حتى وإن لم نتوافق مع الكثير من أفكارها دون أن نذكر إسم الكاتبة المصرية الراحلة نوال السعداوي، والتي وجدت أن وجودها ضرورة ملحة ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال) وفي التوقيت الحالي..

فإذا تابع أحدنا أي لقاء تلفزيوني يختاره للكاتبة الراحلة عبر موقع اليوتيوب سيلفته أن أغلبها يبدأ بالحديث عن تجربة جدتها الفلاحة البسيطة وعن المشادة التي تمت بينها وبين العمدة ووصفه لها (بالجاهلة) كونها لا تستطيع القراءة ولأنها لم تقرأ القرآن الكريم لتكون إجابتها.. أنا أعرف ربنا أكتر منك، ربنا العدل وعرفوه بالعقل.. في إشارة منها لعدة قيم وهي أن الضمير هو المحرك الأساسي لأي إنسان بغض النظر عن تحصيله العلمي الذي يعنيه وحده ولا علاقة للتفوق فيه بالأخلاق والمبادىء والقيم التي يعتنقها، وقد تغلب فيه الفطرة السليمة أكبر المراتب العلمية وأعلاها، وسنجد هذه الحادثة بمثابة أساس تبنى أو ينسج على أساسها معظم حواراتها التي تناقش كتبها وأفكارها وتستعرض آرائها في مختلف المواضيع التي أثارتها وطرحتها.. وهنا ستكون أهمية الإضاءة على تجربة نوال السعداوي لأسباب عديدة..

فنوال السعداوي تختلف عن النموذج التقليدي في الأذهان لكل من انخرط في الكتابة النسوية والتي (وهذا مجرد رأي شخصي) كانت هي أشمل منه كونها فكرت للإنسان عموماً حتى وإن لم نتفق مع العديد من آرائها، حيث كان نسبة كبيرة منهم محدودة وأحياناً محدودة جداً وضيقة الأفق في رؤيتها واهتماماتها وموضوعاتها عكس السعداوي التي تأتي تجربتها ثريةً ومواكبةً لتغيراتٍ شتى في نظام الحكم في مصر وانتقاله من الملكية إلى الجمهورية حيث عاصرت جميع الرؤساء المصريين، وكانت شاهداً على التحولات التي شهدها المجتمع المصري والعربي والأحداث والحروب والأزمات السياسية والإقتصادية التي عاشها وعاش تأثيراتها وانعكاساتها عليه وعلى طريقة حياته وتفكيره، كما ساهمت بشكلٍ مباشر في التوعية بأهمية تعليم الفتيات وحاربت ختان الإناث وقدمت أكثر من ٤٠ كتاباً إلى جانب المقالات التي كانت تكتبها بشكلٍ مستمر في الصحف المصرية وخارج مصر أيضاً.. إلى هنا قد يبدو الموضوع عادياً فما الإختلاف الذي حملته تجربتها وجعلتها تتمايز عن بقية الأسماء ؟

فمما لا شك فيه أن شخصية نوال السعداوي شخصية فكرت (فعلياً) فأصابت في أمور واختلف معها في أخرى شأنها شأن أي إنسان، ولكنها كانت ابنة واقعها وبيئتها فلم تكن من الباحثين أو الباحثات عن الشهرة أو (التريند) كما نرى في زمننا الحالي، فبدأت تفكيرها باكراً جداً حتى قبل سن الخامسة ووثقت ذلك في كتاب بعنوان (حكاية بنت اسمها سعاد) وهو اسم مستعار لها اختارته في طفولتها ورصدت فيه أفكارها وانطباعاتها عن محيطها واعجابها بمعلمتها وتمنيها أن تكون مثلها، لتمر بعدها بتجارب كثيرة على مدار سنوات حياتها على الصعيد الشخصي والمهني فدافعت عن معتقداتها واعتقلت لأجلها وواجهت حملاتٍ كبيرة عبر وسائل الإعلام التي كان الكثير منها يهدف إلى الإثارة وزيادة نسبة المشاهدة وليس التوعية بأي شكل، وتأتي هنا النقطة الهامة التي اختصرت نتاجها وأفكارها ومواقفها واختزلتها في بضعة نقاط وبشكل متعمد ليتم الإبتعاد عن نقاط مهمة سلطت الضوء عليها..

فنوال السعداوي قدمت الكثير من الأفكار ولكنها تختزل (إعلامياً) إلى الصدام مع الأديان والجنس وختان الإناث، ومن يسترجع تعاطي الإعلام معها بكافة أشكاله من المرئي والمسموع والمكتوب سيلحظ حالة (العوار) التي شابته في التعاطي معها، والتي شملت الكثير من (الكتاب والمثقفين) وحتى من بعض الأشخاص العاديين الذين يحبون أن يقدموا أنفسهم في محيطهم كنخب، والذين استخدموا اسمها وأقحموه في (معاركهم) أو مشكلاتهم لمحاولة الصعود على أكتافها أو الإيحاء بأنهم يشابهونها وهو محض كذب وافتراء لأسباب كثيرة..

فالبعض وبشكل صريح لديه مشكلة مع الدين عموماً ومع الإسلام خصوصاً وسعى دائماً لتوظيف بعض آراء نوال السعداوي لخدمة توجهه مع أنها كانت بكل أمانة على مسافة واحدة من كل الأديان وانتقدتها جميعاً دون استثناء ودون عبارات تحمل الإبتذال والتجريح والسب والقذف والإهانة والإستهزاء كما يحدث اليوم من العديد من (المستثقفين) والمدعين، وناقشت قضايا عديدة في الإسلام كالحجاب والحج والصيام والميراث وغيره لكنها لم تتعمد كمثيري الفتن تحقير معتقداتهم كما انتقدت أموراً أخرى في الديانتين المسيحية واليهودية وقامت بمقارنة الكتب السماوية الثلاث فيما بينها وقارنتها بأحد الكتب أو العقائد في الهند وسافرت خصيصاً لعمل هذه المقارنة، وكانت تقول أن الكثيرين هاجموها دون أن يقرأوا لها سطراً أو يستمعوا إليها تماماً كما أيدها البعض دون أن يقرأ لها (اعتقاداً منه) أنها ستخدمه في (أحقاده) ضد الأديان أو الإسلام وهي الكلمة المناسبة حيث بتنا نرى عدم وجود أي نقاش منطقي أو موضوعي بل مجرد كلام مرسل ومحاولات لتشويه الآخر وقد صرحت نوال السعداوي مراراً بأنها تلتقي في الشارع وتستقبل في منزلها الكثير من المحجبات اللواتي كن يلجأن إليها ويطلبن رأيها لأنها لا تصادر حرية غيرها عكس ما نرى اليوم، فكيف نساوي بين من بذل مجهوداً في التفكير والمقارنة حتى وإن اختلفنا معه وبين شخص لا يملك سوى ترديد ما يسمعه دون أن يمتلك فكراً، وهنا ليس بالضرورة أن يكون كل شخص مفكراً لكن المشكلة فيمن يقدم نفسه على أنه كذلك وهو بعيد عن ذلك تمام البعد..

وبإمكان أي شخص مطالعة أيٍ من الصور الفوتوغرافية للكاتبة والتي سيجدها دوماً بهندام بسيط نظيف متواضع لأنها لا تحتاج أكثر من ذلك، كما أنها إنسانة عرفت معنى (التعرق) وهو معنى هام في ثقافتنا الشعبية وهي مرادف للكد والتعب والإجتهاد للوصول إلى ما تريده ولم تعش على الفرقعات، كما أنها أثارت قضايا إنسانية شائكة يتجنب (مثقفوا اليوم) الحديث عنها، فقد تحدثت كثيراً عن العولمة وتغلغل الثقافة الأمريكية في مختلف المجالات والإستثمارات ورفضها لإستيراد قيم غربية لا تشبهها حتى (يوم المرأة العالمي)، فيما يطل علينا الكثير من (مفكري اليوم) بكلمات وأفكار وهيئة مستوردة بالكامل ليحدثونا عن (هموم المواطن)..

كما وأن نوال السعداوي لم تكن منفصلة عن الواقع والإنسان وتضامنت مراراً مع القضية الفلسطينية والتي نستطيع القول بأنها (أسهل جهاز لكشف الكذب) وفرز مبادىء أصحاب الفكر والرأي وتظاهرت لأجلها مراراً وكان معها زوجها الراحل د. شريف حتاتة، وقد وثقت أحد المواقف التي حصلت معها صيف عام ١٩٨٥ ضمن المؤتمر العالمي الثالث حول وضع المرأة في العاصمة الكينية نيروبي في مقالة نشرتها عبر دورية (لون العنف – The Color Of Violence) التي تصدر عن منظمة (Incite) النسوية الأمريكية، حيث حدث أن حاولت (بيتي فريدان) وهي واحدة من أهم الناشطات والكاتبات النسويات عبر تاريخ الحركة النسوية الأمريكية أن تمنعها من الحديث عن القضية الفلسطينية خلال المؤتمر، إذ قالت لها أثناء تقدمها تجاه المنصة لإلقاء كلمتها، (رجاءً لا تتحدثي عن فلسطين خلال كلمتك. هذا مؤتمر للمرأة وليس مؤتمرًا سياسيًا) وقالت السعداوي وقتها لم أكترث لما قالته (بيتي فريدان) لأنني أؤمن بأن قضايا المرأة لا يمكن معالجتها بمعزل عن السياسة، كيف نتحدث عن تحرير المرأة الفلسطينية من دون الحديث عن حقها في أرض تعيش عليها؟ كيف نتحدث عن حقوق المرأة العربية في فلسطين وإسرائيل دون معارضة التمييز العنصري الذي يمارسه النظام الإسرائيلي ضدهن؟” كما تؤكد السعداوي هنا على إزدواجية المعايير لدى النسويات الليبراليات في الشمال العالمي (ومنهن بيتي فريدان)، موضحةً أنهن يمنحن أنفسهن امتيازات بيد، ويقيدن أصوات نسويات الجنوب بيد أخرى، وتُرجِع السعداوي ذلك إلى رغبة نسويات الشمال في منع نظيراتهن في الجنوب من التعاطي والتفاعل مع مختلف القضايا السياسية والإجتماعية والإقتصادية من وجهة نظر نسوية، وتحجيم مقاومتهن لتتركز في الإحتجاج على الأبوية في مجتمعاتهن فحسـب.. واستدلت السعداوي على ذلك بإشارتها إلى أن بيتي فريدان وغيرها من النسويات الغربيات المشاركات في المؤتمر، تعرّضن في كلماتهن إلى عدد من القضايا السياسية، وفي صدارتها (نظام الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا، الذي صار نافذًا في العام ١٩٤٨ ومن خلاله سيطرت الأقلية البيضاء المستوطنة على البلاد وهمّشت المواطنين الأصليين، وظل معمولًا به حتى العام ١٩٩٤ حينما تم إلغاؤه تحت ضغوط داخلية وخارجية، حيث لم تقتصر قواعد (نظام الفصل العنصري) على التفرقة بين المواطنين حسب العرق، وتوزيع الحقوق بناءً على هذا الأساس، بل شملت القتل خارج إطار القانون، والإعتقال التعسفي، والتعذيب، وهذه الجرائم ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيات والفلسطينيين يوميًا، ولذلك تلاحقها تهمة تطبيق (نظام الفصل العنصري) مثلما كانت تفعل جنوب أفريقيا..
ولا يمكن تجاهل حرمان الفلسطينيات من حقهن في حرية التنقل نتيجة القيود التي يفرضها الاحتلال على حركة الفلسطينيين، وهو ما أكدته إحصاءات تفيد مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان في فلسطين، بأن قوات الاحتلال اعتقلت أكثر من ١٣,٠٠٠ امرأة فلسطينية فيما بين العامين ١٩٦٧ و٢٠١٩، سواء في الشارع أو أثناء عبورهنّ الحواجز أو بعد اقتحام منازلهن ليلاً..

وهنا نتأكد من حقيقة الكثير من العقليات العربية التي تتنكر لقضاياها وتخاف على امتيازاتها خاصةً في الخارج وتتبنى (خطاباً عنصرياً) يشبه الخطابات (البيضاء) الزائفة عند مقارنتها بمواقف السعداوي والتي أثارتها الصدفة بعد استنكار بعض (المثقفين المرهفين) لمحاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي (والتي نرفضها بشكل قاطع) لأننا عندما نقرأ نتاجه ونرى من يدافعون عنه نقول لهم.. هنيئاً لكم اختياركم، ولأننا لا نريد من أمثاله أن يصبحوا أبطالاً وأيقونات وهم لا يستحقون..

لكن السؤال أين كنتم قبل بضعة أيام من محاولة اغتياله عند سحق الإحتلال الصهيوني قطاع غزة لمدة ثلاثة أيام متواصلة ليل نهار واغتال أكثر من ٤٥ شهيداً ثلثهم من الأطفال.. هل تعطلت لوحات المفاتيح في هواتفكم يا أصحاب المواقف النارية أم أنكم لا تتابعون إلاّ نوعية معينة من الأخبار ؟..
ليس المطلوب منكم أي شيء ولا أحد يريد منكم شيئاً لكننا نتسائل والتساؤل مشروع عن الحرية والإنسانية الصامتة عن فلسطين وكل حالات العنف والجرائم المرتكبة بحق المهاجرين في الغرب بسبب أصولهم ومعتقداتهم.. خاصةً عندما نرى محاولات الصعود على اسم نوال السعداوي وهو حلم صعب النوال لغياب المصداقية، ولذلك تظل محل احترام إنساني وإن اختلفنا مع أفكارها بإحترام أيضاً لأنها عاشت وماتت (حقيقية) وغير مدعية ولم يغيرها ذهابها إلى مختلف دول العالم وهو ما لا يقدر عليه أغلب الناس، حيث احترام الغير رغم الإختلاف لا يعني اتفاقك معه بل اتفاقك مع حقه في أن يكون له رأي دون أن يقلل أحدنا من الآخر إلى جانب احترام قيمة الصدق..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى