حاميد اليوسفي - وشم في الذاكرة.. السفر إلى البحر

وقف الأطفال يتباهون مع بعضهم البعض بالحديث أين قضوا العطلة الصيفية؟
قال طفل بغضب ، وهو يرد بعنف على أحد أبناء الجيران :
ـ نحن أيضا سافرنا في الصيف إلى جليز*، وقضينا العطلة في فيلا أختي.
نظر إليه الأطفال باستغراب، ربما سخروا منه في صمت، خوفا من أن يتحول الحديث إلى مشاجرة غير مضمونة العواقب.
لم يأت دوري في الكلام لأن الجمع تفرق، لكن الوشم ظل عالقا في الذاكرة كل هذه السنين.
لأول مرة سأقضي العطلة بمدينة شاطئية. لأول مرة سأرى الشاطئ. من قبل كنت أقرأ عنه وأرى صوره في الكتب المدرسية. لا يتحدث عنه المعلمون إلا في نهاية الموسم الدراسي، ويطلبون منا السفر إليه في درس التعبير والإنشاء. وكنا لبراءتنا وجهلنا ، نكذب بصدق، ونسافر إلى بحر لم نره من قبل.
الجديدة كانت في نهاية الستينات من القرن الماضي مدينة صغيرة وجميلة. يمكن أن تقطعها راجلا في أقل من نصف ساعة من سوق سيدي موسى (الاحد) إلى حي (سيد الضاوي) حيث يوجد الفنار الذي يرشد السفن.
في الصباح بعد تناول الفطور، نلبس سراويل قصيرة خاصة بالسباحة، وقمصانا خفيفة وأحيانا نأخذ معنا منشفة (فوطة)، ونذهب إلى الشاطئ.
في اليوم الأول تملكتني دهشة كبيرة. لم أر الشاطئ من قبل. فتحت فمي مستغربا.
حشد من الناس يتحرك مثل نمل كبير على طول الشاطئ. أجساد عارية إلا مما يستر العورة. صور من لحم ودم لرجال وأطفال ونساء وفتيات تختلف عما رأيناه من صور في الكتب المدرسية. جماعة هنا من الشبان والفتيات يلعبون الكرة الطائرة، وجماعة هناك تلعب كرة القدم بعيدا عن أعين العسس. في الخلف نساء يرتدين الجلباب، ويكتفين بإنزال النقاب، حتى يكشف عن وجههن بالكامل. يجلسن مع أبنائهن، يحرسن متاعهم. أتقدم قليلا وسط غابة من القامات الطويلة بين شمسيات تستظل تحتها أجساد عارية لبعض نساء أعلى الهرم الاجتماعي، أو يمثلن هذا الدور. يتمددن فوق أسرة تشبه الكراسي، يهربن من أشعة الشمس الملتهبة في منتصف النهار. يلبسن نظارات شمسية كبيرة، ويتظاهرن بالقراءة في الكتب أو المجلات.
أقترب من الماء. يترامى أمامي فضاء أزرق واسع. مراكب الصيد تلوح من بعيد، تتموج فوق سطح البحر، فتعلو وتنخفض. أمشي بطيئا بحذر، تداعب رجلاي الماء البارد. الرمل يحفر تحت أصابعي. أبتسم . أقفز بين الحين والأخر. أنحني. يصفو الماء، ويلمع مثل الفضة. ليس هذا ما تخيلته في درس الإنشاء. كنت أعتقد أن البحر يشبه مسبحا كبيرا، لكن ليس بهذا الحجم وهذا الجمال. أغسل وجهي، وأمرر يدي المبللتين على رأسي. تسقط قطرات ماء بارد على كتفي أو صدري فيرتعش جسمي. يختفي سروالي القصير. أكثر من نصف جسدي أصبح في الماء. تمر موجة متوسطة، يتصاعد رذاذ الماء إلى بقية جسدي. أراوغ موجة أخرى، وتلطمني موجة ثالثة. أرتمي في الماء. أغطس ثم أقف. تحرقني عيناي، أمرر يدي على وجهي. أقفز إلى أعلى بكل ما أوتيت من قوة، وأسقط فوق الماء. أي نعمة أجمل من أن تطفئ جسدك في ماء البحر، وأنت قادم من صحراء مراكش حيث تطاردك الشمس حتى تكاد تسقط فوق رأسك. أسبح عرضا حتى لا يأخذني الموج إلى مكان أعلى بكثير من قامتي. سمعت الكبار يحذرون الصغار بأن من يأخذه البحر لا يعود، يذهب إلى عالم سفلي ومظلم. تلتهمه الحيتان الكبيرة مثل ما تفعل السباع مع طرائدها. فرق كبير بين المسبح والشاطئ. في المسبح الماء ساكن وهادئ ولا يجر والقعر مستوي. قد تعوم في مكان أغرق من قامتك، وإذا فقدت توازنك يمكن الاقتراب من المقبض بجانب المسبح، وتشد عليه بإحدى يديك.
في اليوم الثاني نأخذ حمام شمس لمدة وجيزة. نفتح زجاجة صغيرة من مرهم يحمي الجلد من الأشعة فوق البنفسجية (اومبر سولاي). ينصحنا الكبار بان ندهن كل جزء عار من جسمنا، ويساعدونا أحيانا على ذلك.
قليل من سكان الجديدة من كان ينزل في هذه الفترة رفقة أسرهم إلى البحر. عندما يمر بعض الباعة بالقرب منا كنا نفضل شراء بذور اليقطين والإسفنج بالسكر، بدل مثلجات (بانكوان) الغالية.
خلال الموسم السياحي تعج المدينة بالمحلبات وباعة الخبز والفطائر والمطاعم الشعبية . سكان المدينة يحبون البطاطس. أغلب وجباتهم بالبطاطس. حتى الكسكس لم يسلم منها.
شبعنا من أكل السمك. (لاطات)* السردين مشرمل ، طواجين سمك القرب بالفلفل والبطاطس.
في المساء نخرج جماعة إلى القلعة البرتغالية و(المون)* وسيد الضاوي، أو نتمشى مع الكبار في الشارع المحاذي للشاطئ، وإذا شعرنا بالتعب أو الملل، نجلس فوق سلالم المسرح البلدي.
في سيد الضاوي كنا نجمع صدف البحر من قطع متوسطة بألوان خلابة. وننظر بإعجاب إلى شبان بلباس جلدي أسود يخرجون من البحر، وهم يجمعون الطحالب رفقة نساء وفتيات. قيل بأنهم كانوا يبيعونها لتجار ينقلونها بدورهم إلى المصانع.
في (المون) عالم آخر. بعض الشبان والرجال مفتولي العضلات يشبهون خريجي رياضة كمال الأجسام ، يجلسون جماعات متفرقة، يدخنون الحشيش، ويشربون الخمر في مغارات صغيرة ومكشوفة. يتبارى بعض السباحين في القفز من أعلى أو السباحة بعيدا في عمق البحر. تصغر رؤوسهم حتى تكاد تختفي، ثم يعودون أدراجهم، فيصفق الجمهور الواقف تشجيعا للبطل الأسرع والأسبق. مع اقتراب الشمس من المغيب تبدأ مراكب الصيد رحلتها إلى العالم الذي أخافنا منه الكبار. عالم من يدخل إليه يعتبر مفقودا، ومن يخرج منه يعد مولودا.
في مراكش عندما أخرج من البيت غالبا ما أرتدي قميصا قصيرا بلون مفتوح، يكشف عن جزء كبير من ذراعي. فيبدو كأن البحر والشمس بصما على جلد جسمي سمرة شديدة، أتمنى لو تستمر حتى يقترب موسم الدخول المدرسي.
للأسف عندما رأيت البحر بأم عيني ، وسبحت فيه ، وامتزج ماؤه المالح بلحمي ودمي ، لم يطلب مني أي مدرس بعد ذلك أن أصف شعوري، وأنا أسافر مع أسرتي لقضاء العطلة في مدينة شاطئية.
المعجم:
ـ جيليز: الحي العصري الذي بناه المعمرون بمدينة مراكش، وسكنه النصارى قبل الاستقلال.
ـ (اللاطات): آنية من قصدير مقوى مخصصة لوضع الحلويات في الفرن، وقد تستعمل لطهي سمك السردين مع الطماطم والفلفل الأخضر والبطاطس.
ـ (المون): ممر من الصخر مبلط بالأسمنت، طوله حوالي ستمائة متر، وعرضه حوالي سبعة أمتار داخل الماء على هامش الميناء الذي ترسو فيه سفن الصيد.

مراكش في 15 شتنبر 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى