ميخائيل زوشينكو - المرض..

بصراحة، أنا أفضل المرض في البيت.
بالطبع، ربما يكون الجو في المستشفى أكثر إضاءة وأفضل، وربما تكون نسبة الحروريات في طعام المستشفى أكبر، ولكن، وكما يقال، يأكل الإنسان في بيته حتى القش والتراب.
اقتادوني إلى المستشفى بعد أن أصبت بمرض التيفوئيد. لقد ظن أفراد أسرتي أنهم بذلك يخففون من آلامي الحادة. غير أنهم لم يحققوا هذا الهدف. فقد وجدت نفسي في مستشفى فريد من نوعه، و لم يحز على إعجابي.
على أية حال، ما أن وصلت إلى المستشفى، وبدأوا بتسجيلي في سجل المرضى، رأيت إعلاناً معلقاً على جدار المستشفى كتب عليه بالخط العريض: «تسليم الجثث بين الساعة الثالثة والساعة الرابعة».
لا أعرف وقعه بالنسبة للمرضى الآخرين، أما بالنسبة لي، فما أن قرأت الإعلان حتى ترنحت قدماي ولم تعودا تحملاني. والأدهى من ذلك، أن حرارتي كانت مرتفعة، وروحي تكاد أن تنطفئ في جسدي، وربما كانت معلقة على خيط رفيع – وفجأة يضعون أمام عيني الإعلان وأضطر إلى قراءة هذه الكلمات.
- كيف تعلقون هذه العبارة السخيفة في المدخل؟ إن المرضى لن يشعروا بالسرور من قراءتها.
استغرب مساعد الطبيب أو الممرض، لا أدري، من توجيه هذه الملاحظة له وقال:
- انظروا! مريض بالكاد يمشي على قدميه، ويكاد البخار يخرج من فمه لارتفاع حرارته، وفي الوقت نفسه يتمنطق، وينتقدنا. إذا ما شفيت، وهذا أمر مستبعد، عندئذ انتقدنا، وإلا سوف نسلم جثتك فعلاً فيما بين الساعة الثالثة والساعة الرابعة، كما هو وارد في الإعلان، وعندئذ ستعرف كل شيء.
أردت أن أتشاجر مع مساعد الطبيب هذا، وبما أن حرارتي كانت مرتفعة – حوالي 39 درجة – لم أتجادل معه واكتفيت بالقول:
- انتظر، أيها السماعة الطبية، سأبرأ، وعندها سأحاسبك على وقاحتك. وهل يصح مخاطبة المريض مثل هذه الأقوال؟ إنها تقضي عليه معنوياً.
استغرب مساعد الطبيب أن يخاطبه مريض بهذه الجرأة والحرية، فغير موضوع الحديث على الفور، وهنا اقتربت مني الممرضة وقالت:
- تعال معي أيها المريض، إلى المغسل.
- أليس من الأفضل أن تسميه الحمام وليس المغسل. فهذا أجمل، ويرفع من قدر المريض. وأنا لست فرساً لتقوديني إلى المغسل.
أجابت الممرضة:
- رغم أنك مريض، فأنت تلاحظ مختلف التفاصيل والجزئيات. إنك لن تشفى على الأغلب، إذا كنت ستتدخل في كل صغيرة وكبيرة.
اقتادتني إلى الحمام وأمرتني أن أخلع ثيابي. بدأت أخلع ثيابي، وإذا بي أرى فجأة رأساً متدلياً فوق الماء. ولمحت فجأة وكأن امرأة عجوزاً تجلس في الحمام. فقلت للمرضة:
- إلى أين اقتادوني الكلاب، إلى الحمام النسائي؟ هنا إحداهن تغتسل.
- إنها امرأة عجوز جالسة – قالت الممرضة – لا تلتفت إليها. إن حرارتها مرتفعة جداً، وهي لا تتأثر بأي شيء. فاخلع ثيابك دون حياء. وريثما تخرج العجوز نجمع لك ماء نظيفاً.
- العجوز لا تتأثر – أجبتها – أما أنا، فربما ما زلت واعياً أتأثر. وأنا لا أرتاح أبداً، عندما أرى شيئاً ما يعوم فوق الحمام.
وفجأة جاء مساعد الطبيب وقال:
- إنها المرة الأولى التي أرى فيها مثل هذا المريض المتعالي، الذي يصعب إرضاؤه. فالوقح هذا لا يعجبه العجب. العجوز تموت وتنازع وهو يفرض شروطاً ويرفع دعاوى. إن حرارتها تقارب الأربعين، وهي لا تعي أي شيء، وترى كل شيء من خلال منخل. على أية حال، إن منظرك لن يطيل من عمرها أكثر من خمس دقائق. لا، أنا أفضل عندما يأتينا مرضى فاقدو الوعي، حيث يروقهم كل شيء على الأقل، ويرتاحون لكل شيء، ولا يدخلون معنا في مجادلات علمية.
وهنا، صاحت العجوز من الحمام:
- هيا أخرجوني من الماء، وإلا سأخرج بنفسي، وأنقعكم جميعاً بالشتائم والسباب.
فانشغلا بالعجوز، ثم أمراني بالدخول وخلع ثيابي. وبينما كنت أخلع ثيابي، امتلأ الحوض بالماء الساخن بسرعة البرق، وأمراني بالجلوس ولمعرفتهما بطبعي، لم يناقشاني بعد ذلك في أي موضوع، وحاولا موافقتي على كل شيء. بعد الحمام، قدما لي بدلة داخلية بيضاء، كبيرة جداً، بالنسبة لقياسي. ظننت أنهما قدما لي هذا القياس الكبير الذي لا يناسبني قصداً، غير أنني أيقنت بعد ذلك، أن هذه ظاهرة طبيعية في المستشفى. فالمرضى الطوال كانوا عادة، في ألبسة داخلية قصيرة، والمرضى القصار كانوا في ألبسة طويلة. حتى أن بدلتي بدت أفضل من بدلات الآخرين. فقد كان ختم المستشفى مطبوعاً على كم القميص، أما عند المرضى الآخرين، فكان الختم مطبوعاً على الصدر عند بعضهم، وعلى الظهر عند بعضهم الآخر، وهذا أمر مهين للكرامة الإنسانية من الناحية المعنوية.
ولكن، وبما أن درجة حرارتي كانت ترتفع باستمرار، لم أعد أجادل حول هذه الأشياء.
لقد وضعوني في قاعة غير كبيرة، يرقد فيها حوالي ثلاثين مريضاً، مصابين بأمراض مختلفة. وكان بعضهم في حالة صحية سيئة للغاية،بينما تماثل بعضهم الآخر للشفاء. وكان بعضهم يصفر وبعضهم يلعب الشطرنج، وفريق ثالث ينتقل من مهجع لآخر، ويقرأ مهجياً بطاقات المرضى، التي وضعت فوق رؤوسهم. سألت الممرضة قائلاً:
- أخبريني الحقيقة صراحة. ربما هذا مستشفى للأمراض العقلية. إنني أنزل في المستشفى كل عام، لكنني لم أصادف أبداً مثل هذا المستشفى. كان يسود الهدوء والنظام في جميع المستشفيات. أما هنا، فالضجة والجلبة كما في سوق البازار.
قالت الممرضة:
- ربما تأمرنا بأن نخصص لك مهجعاً منفرداً، ونضع بالقرب منك حارساً، كي يطرد من أمام وجهك الذباب والبق؟
أثرت ضجة، كي يحضر كبير الأطباء، ولكن جاء عوضاً عنه مساعد الطبيب ذاته، وكنت ضعيفاً متعباً، فما إن رأيته حتى فقدت وعيي. لم أفق، و لم أعد إلى وعيي إلا بعد ثلاثة أيام، كما أظن. وعندما استيقظت، وجدت ممرضة بقربي، فقالت:
- إن جسمك بسبعة أرواح. لقد اجتزت جميع المحن القاسية.
حتى أننا وضعناك، مصادفة، بالقرب من النافذة المفتوحة، ومع ذلك، أخذت فجأة تتماثل للشفاء. والآن، وإذا لم تصب بمرض من الأمراض المعدية من جيرانك، يمكنني أن أهنئك بالشفاء، من أعماق قلبي.
لم يخضع جسمي ولم يستسلم لأي مرض بعد ذلك. غير أنني، وعشية تخريجي من المستشفى، أصبت بمرض من أمراض الأطفال، وهو السعال الديكي. قالت لي الممرضة:
- لقد انتقل إليك هذا المرض من الجناح المجاور، على الأغلب، حيث يوجد قسم الأطفال. تناولت الطعام غالباً، دون حذر، بملعقة كان قد استخدمها طفل مريض بالسعال الديكي، فانتقل إليك الجرثوم.
تغلب جسمي على المرض، وأخذت أتعافى من جديد. ولكن، عندما كان موعد تخريجي من المستشفى، غديت بمرض عصبي هذه المرة. فقد ظهرت على جلدي حبوب وبثور على شكل طفحات جلدية، عصبية المنشأ. فقال لي الطبيب: «لا داع للنرفزة، إنها ستزول سريعاً خلال أيام».
أما أنا، فقد كنت «أنرفز» وأعصب، لأنهم لم يخرجوني من المستشفي. ربما لأنهم نسوني، أو لنقص في بعض الأوراق اللازمة لتخريجي، أو لأن أحد المسؤولين في المستشفى لم يحضر، و لم يكن باستطاعتهم تسجيل خروجي من المستشفى، أو ربما لانشغال العاملين بالمستشفى بزوجات المرضى الزائرات. ثم قال لي مساعد الطبيب مبرراً:
عندنا ضغط كبير وأعداد كثيرة من المرضى الجدد، بحيث أننا لا نجد الوقت اللازم لتخريج المرضى المتعافين. ثم إننا لم نتأخر عن تخريجك من المستشفى سوى ثمانية أيام، وأنت تثير هذه الضجة، في حين أن لدينا بعض المرضى المتعافين الذين تأخرنا في تخريجهم ثلاثة أسابيع، ومع ذلك فهم يصبرون، ولا يبدون أي قلق.
وسرعان ما قرروا تخريجي من المستشفى. عدت إلى بيتي، فقالت لي زوجتي:
- أتعرف يا بيوتر، لقد ظننا قبل أسبوع، أنك انتقلت إلى العالم الآخر، فقد وصلنا من المستشفى الإشعار التالي: «لدى استلامك هذا الإشعار يرجى حضورك إلى المستشفى فوراً لاستلام جثة زوجك».
وتبين أن زوجتي كانت قد أسرعت فوراً إلى المستشفى، حيث اعتذروا لها عن الخطأ الذي وقع فيه قلم المحاسبة: فقد فارق الحياة أحد المرضى فوقع ظنهم علي، لسبب ما، رغم أنني كنت قد تماثلت للشفاء، لكن البثور كانت قد بدأت تظهر على جلدي من شدة قلقي واضطرابي. شعرت بانزعاج كبير، بسبب هذا الحادث، ونويت أن أركض فوراً إلى المستشفى لمشاجرة العاملين فيه وتأنيبهم. ولكن، عندما تذكرت ما يجري عندهم، امتنعت عن الذهاب.
وأنا الآن، أمرض في بيتي ولا أذهب إلى المستشفيات.

~تمت~

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى