في إحدى الليالي شيء ما زحف على المدينة في عز الظلمة، وأخل بنظامها. الرجال من السكان ليلتها، كانوا على غير عادتهم ، يتلاعبون وراء الأطفال الذين تسابقوا إلى تفتيت الصخور من حصون نصف دائرية ؛ تحيط بالمدينة منذ زمن عريق . العجائز آخر من خرج من البيوت ، يرتدين فساتين الصبايا، والشيب يترنح فيهن بافتتان مغر؛ يفجرن الأحلام المقبورة، وأهازيج العذارى تنبعث منسابة في إيقاعات منعشة من شفاههن المجعدة. الرجال مازالوا يتواثبون؛ في حين تختار كل واحدة منهن أحسنهم وسامة وبطشا، وتأوي تلو أخرى بعشيقها منساقا وراءها إلى زاوية ما؛ بها بصيص نور خافت. سارت الأمر هكذا على هذه النغمات الخارقة إلى أن نشر الليل ظلمته بالتمام والكمال، وبدا الصبح بعيدا عن حلم العباد.
أصبحت كثافة العتمات أعظم من أن تنتهي، إلا بعد إتمام سائر أشغال العجائز المسيجة بالحيطة القصوى. بعض الروائح بدأت تنتشر في الفضاء ؛ هي من فعل عجوز، العجوز التي تمكنت من فتى هو أفحل الرجال، وأشدهم سحرا وفتوة. وهي الآن، بعد أن تركته هامدا عند مضجعها، خرجت إلى الساحة لتملأها دخانا متصاعدا إلى الأعلى من رزمة بخورها؛ التي احتوت الزعتر والجاوي ورأس الحانوت والحرمل وبعض أتربة الكهوف، إضافة إلى أسمالها الملوثة بدماء صفراء وحمراء. ترمي حفنات من الخليط صوب النار المتأججة، وكلما زادت اشتهاء لهذه المواد؛ ترميها بالحفنة بعد الأخرى، متبعة حركتها بتراتيل طلسمية، ورأسها تتطأطأ نشوة، فتشتد درجة الاتقاد، وتتصاعد الغازات المحترقة؛ تخنق الأنفاس بلا رأفة. ليل من الأبخرة وسواد النار؛ يكفي لئلا يطلع الصبح أبدا رويدا رويدا، كما كان يفعل. والنار المطقطقة في عمق الليل تغني عن ظهور بشائر أشعة الفجر، كما كان يحدث عند مطلعه. تتعاقب لحظات هذا الليل بطيئة بطءا مريرا، وتتحول المدينة أشلاء منفصمة. قليلا من التريث، تقول العجوز، قليلا، وتقذف بحفنتها صوب الدائرة الملتهبة. أما الآخرون فساكنون يلاحقون مصير الأبخرة بعيون هائمة. قليلا من التريث تعيد وترمي، وتقذف بلا هوادة.
في الأخير نظرت إلى الجميع، وإذا هم قد خروا ساهدين أمام العجوز الجهنمية ؛ وقد بدت في هذه اللحظة أكثر شبابا من أي وقت مضى... لم يكن ما سلف إلا البداية في هذه المدينة التي لم يشرفها النور، ولم ينعم على أهلها بدفئه وحنانه منذئذ.
* * *
تمكنت في الأخير والعرق يتفصد من أن أكتم حد الاختناق صياحي؛ لما تحسست يديها اليابستين تطوقان عنقي. تململت قليلا، لأنفلت هاربا، وشخيرها لا ينقطع.
في الخارج كانت القطط على اختلافها تقفز إلى الأكياس المطاطية السوداء ؛ تبحث عن عيشها، ولأصواتها ألحان من أنين لا يفــتر. تجــري وتنط . بعضها ذو أشعة ترسلها من عيون زرقاء في سحر؛ تشي بأشياء عميقة جدا دون بيان. وحده الحارس المعمم، بجلبابه وبلحية هائجة على صدغيه؛ يقبض على عصا رأسها مكور، وقد وضع ظهره في حالة اتكاء على الجدار؛ يغط في نوم شبيه باليقظة، كما هو الشأن عند القطط؛ التي وضعت رأسها بين رجليها الأماميتين، وتمددت في هدوء، وهي تفتح عيونها، وتغمضها في حركة آلية، وتموء في ألم بليغ. أما الكلب الدائم التجوال بأناة وهدوء في دروب الليل؛ فقد شاخ ... شاخ ، وظهرت عليه آثار السنين الخوالي. شعره أشهب، ووجهه متجهم عبوس. هذا الكلب العجوز معروف، وهو كلب شعبي، يمر بينهم نهارا ماشيا على إيقاعهم في الشوارع، لا يُلتفت إليه، وهو لا يلوي على شيء. هادئ تمام الهدوء، وحزنه قادر على أن يغرس الأسى في من ينظر إليه، وهو يتجول. أصوات خطاه هي معزوفة للمدينة. إذا أطال الله في عمره؛ فإنه يكفي الزائر للاستخبار عن الخبايا وكل الخفايا. بعض المحلات والمتاجر في هذا الليل وحدها تلعب بأضوائها ملونة متعاقبة؛ بريقها لماع رتيب، في حركة لا تكل.
انطفأت الأضواء. الصباح إذن ستنقشع ملامحه بعد قليل، وتختفي القطط ، وينام الشيخ، ويخرج الكلب الشعبي بعيدا عن محيط المدينة، كما يفعل عند بزوغ كل فجر.
أصبحت كثافة العتمات أعظم من أن تنتهي، إلا بعد إتمام سائر أشغال العجائز المسيجة بالحيطة القصوى. بعض الروائح بدأت تنتشر في الفضاء ؛ هي من فعل عجوز، العجوز التي تمكنت من فتى هو أفحل الرجال، وأشدهم سحرا وفتوة. وهي الآن، بعد أن تركته هامدا عند مضجعها، خرجت إلى الساحة لتملأها دخانا متصاعدا إلى الأعلى من رزمة بخورها؛ التي احتوت الزعتر والجاوي ورأس الحانوت والحرمل وبعض أتربة الكهوف، إضافة إلى أسمالها الملوثة بدماء صفراء وحمراء. ترمي حفنات من الخليط صوب النار المتأججة، وكلما زادت اشتهاء لهذه المواد؛ ترميها بالحفنة بعد الأخرى، متبعة حركتها بتراتيل طلسمية، ورأسها تتطأطأ نشوة، فتشتد درجة الاتقاد، وتتصاعد الغازات المحترقة؛ تخنق الأنفاس بلا رأفة. ليل من الأبخرة وسواد النار؛ يكفي لئلا يطلع الصبح أبدا رويدا رويدا، كما كان يفعل. والنار المطقطقة في عمق الليل تغني عن ظهور بشائر أشعة الفجر، كما كان يحدث عند مطلعه. تتعاقب لحظات هذا الليل بطيئة بطءا مريرا، وتتحول المدينة أشلاء منفصمة. قليلا من التريث، تقول العجوز، قليلا، وتقذف بحفنتها صوب الدائرة الملتهبة. أما الآخرون فساكنون يلاحقون مصير الأبخرة بعيون هائمة. قليلا من التريث تعيد وترمي، وتقذف بلا هوادة.
في الأخير نظرت إلى الجميع، وإذا هم قد خروا ساهدين أمام العجوز الجهنمية ؛ وقد بدت في هذه اللحظة أكثر شبابا من أي وقت مضى... لم يكن ما سلف إلا البداية في هذه المدينة التي لم يشرفها النور، ولم ينعم على أهلها بدفئه وحنانه منذئذ.
* * *
تمكنت في الأخير والعرق يتفصد من أن أكتم حد الاختناق صياحي؛ لما تحسست يديها اليابستين تطوقان عنقي. تململت قليلا، لأنفلت هاربا، وشخيرها لا ينقطع.
في الخارج كانت القطط على اختلافها تقفز إلى الأكياس المطاطية السوداء ؛ تبحث عن عيشها، ولأصواتها ألحان من أنين لا يفــتر. تجــري وتنط . بعضها ذو أشعة ترسلها من عيون زرقاء في سحر؛ تشي بأشياء عميقة جدا دون بيان. وحده الحارس المعمم، بجلبابه وبلحية هائجة على صدغيه؛ يقبض على عصا رأسها مكور، وقد وضع ظهره في حالة اتكاء على الجدار؛ يغط في نوم شبيه باليقظة، كما هو الشأن عند القطط؛ التي وضعت رأسها بين رجليها الأماميتين، وتمددت في هدوء، وهي تفتح عيونها، وتغمضها في حركة آلية، وتموء في ألم بليغ. أما الكلب الدائم التجوال بأناة وهدوء في دروب الليل؛ فقد شاخ ... شاخ ، وظهرت عليه آثار السنين الخوالي. شعره أشهب، ووجهه متجهم عبوس. هذا الكلب العجوز معروف، وهو كلب شعبي، يمر بينهم نهارا ماشيا على إيقاعهم في الشوارع، لا يُلتفت إليه، وهو لا يلوي على شيء. هادئ تمام الهدوء، وحزنه قادر على أن يغرس الأسى في من ينظر إليه، وهو يتجول. أصوات خطاه هي معزوفة للمدينة. إذا أطال الله في عمره؛ فإنه يكفي الزائر للاستخبار عن الخبايا وكل الخفايا. بعض المحلات والمتاجر في هذا الليل وحدها تلعب بأضوائها ملونة متعاقبة؛ بريقها لماع رتيب، في حركة لا تكل.
انطفأت الأضواء. الصباح إذن ستنقشع ملامحه بعد قليل، وتختفي القطط ، وينام الشيخ، ويخرج الكلب الشعبي بعيدا عن محيط المدينة، كما يفعل عند بزوغ كل فجر.