مشهد أول
الزمان عام 1939، والأزمة الاقتصادية تجتاح أوروبا. المكان محطة الخرطوم للسكة حديد، والقطار متجه شمالا إلى حلفا، يتأهب للانطلاق. المحطة تبدو مكتظة بالناس يغلب عليهم المصريون والشوام والإنجليز. جميعهم يبدون خواجات إفرنجا. ثم بعض السودانيين وبعض الأحباش ببشرتهم السمراء الداكنة، يبدو على سحناتهم الإرهاق والتعب. يتحركون في احتراس كبير وهم يحملون أمتعة البيض يدخلونها قمرات عربات الدرجة الأولى التي تخص الإنجليز وبعض الرتب العليا من القادة المصريين. كما كان هناك أيضا بعض المومسات الأنيقات جدا. بدون كالإفرنجيات تماما رغم سمرتهن. الكل يبدو مثقلا بالخدر. ربما بفعل الكحول أو النهار القائظ بالحر عند الظهيرة.
كانت وحدها: تبدو هكذا وحيدة تجوس بين الحشد الأنيق حافية متربة القدمين وبرأس محلوق خاليا من الشعر تماما. تلبس ثوبا من الدمورية الخشنة الآيل لونها للاصفرار قليلا.
ومن إحدى قمرات الدرجة الأولى أطل وجه شديد البياض لضابط إنجليزي عالي الرتبة والمقام. أشار إليها أن تدنو، فاقتربت من نافذة القمرة. وبلغة عربية ركيكة طلب منها مرافقته. لم تفكر. لم تمنح نفسها فرصة للتفكير. سرعان ما انطلقت مندفعة إلى داخل القطار ومن ثم ولجت إلى داخل القمرة.
جلست على أرضية القمرة أمامه كاشفة عن رأسها الحليق كما تفعل الجواري عادة أماl سيدهم. ووضعت نفسها بين يديه بسوادها الداكن وبآثار الضرب المبرح على جسدها الذي يغطيه ثوب الدمورية الخشن. قبعت مستكينة أمامه بحسنها الحزين الكسير مستسلمة لكل ما سيجيء منه، غير آسفة لما فعلت وما ستفعل، غير مهتمة لما قد يفعله ثورها الهائج عادة إن علم بفعلتها. ودعت كل ذلك في مخيلتها والقطار ينطلق منزلقا على القضبان في بطء عند البدء ثم مندفعا مثيرا وخلفا للغبار والخرطوم وراءه.
مشهد ثان
الزمان 2008 والأزمة الاقتصادية تطبق الخناق على اقتصاد الدول الغربية. المكان ميدان جاكسون، محطة الحافلات لمدينة الخرطوم. وعبر بوابة أم درمان كنا نترقب وصول الحافلة. المكان مكتظ بأناس يغلب عليهم ذوو السحنة السمراء. ثم بعض المصريين والسوريين وثمة بعض الآسيويين بأجناسهم المختلفة.
كنت أتأملها بعد حديث دفعنا السأم دفعا لتبادله، لفت نظري ضيق عينيها وصفاء بياضهما. لا يشوب وجهها شيء سوى تهدل خداها قليلا، ثم تلك الحركة الواهنة لجسد منهك ومرهق بفعل السنين، ومستنزف بأشياء أخرى كانت تمارسها. آثار جمالها الغابر لا تزال ترمي بظلال كثيفة على محياها العتيق. كل شيء فيها يومئ إلى فتنة كانت طاغية ولا تقاوم.
وفجأة ضحكت وقالت: "الله يغفر لينا."
التفت نحوها ضاحكا أيضا وقلت: :يغفر لينا شنو، ولا شنو؟"
أشعلت سيجارة في حركة تدل على مهارة فائقة لإنسان مارس هذا السلوك كثيرا. ثم قالت: "كتير. من الكتير يا ولدي."
ثم بدت وكمن يرجع القهقري بذاكرته، منقبا بين مكنوزاتها العتيقة. ويبدو أنها قد التقطت شيئا من هناك، من فك تلك الذاكرة العتيقة. ثم في شيء من الشاعرية وإضافة لحديثها الأسبق قالت: "كنت برقص ليهو في كل ليلة."
هاجمتني مخيلتي في ضراوة وأنا أتصورها فتاة في السابعة عشر من العمر. ترتدي فستانا من الشيفون الأصفر الفاقع، والذي بدت بشرتها الداكنة مشعة عليه. يتدلى الشعر المستعار جدائل مضفرة. يتدلى متماوجا على عجيزتها الممتلئة وهي مفدوعة اليدين. ومن حيث الحشى الضامر. بخصرها تتحرك كل أجزاء جسدها وحتى عيون الآخرين.
انتزعتني من بين براثن مخيلتي وهي تقول: "قضيت معاهو أربعة شهور كاملة بمدينة شندي. الله يغفر لي."
مشهد ثالث
ونحن معتصرون بداخل الزحام وحبات العرق تسيل على وجوهنا. تذوب. تتبخر ويبقى الملح عالقا بنا. نبدو مالحين بطعم الفسيخ. رأيتها بوضوح بعدما كشفت لي عن الماضي عبر تلك البوحة. غير مكترثة لما قد أقوله عنها وما يدور برأسي الآن عنها. ولكن مخيلتي تضج، تجنح بي ثانية. تتراءى أمام عيوني مشاهد لفتيات رائعات صغيرات، يقفن على ضفاف النيل لا يستر عريهن سوى سيور من جلد رقيقة ومتهالكة، ربطت حول خصورهن. تتدلى هذه السيور على أفخاذهن متأرجحة في خطوهن.
ترامى كل ذلك التيه المظلم بمخيلتي والخواجة الأبيض يزين القصر بهيبته متساميا على الواقع المكاني، وخليل فرح يغني داميا. ثم تلته مباشرة الراقصات على إيقاع التمتم، رقصن والخواجة يكرع كؤوس الويسكي مترعة ومثلجة، مقهقها متأملا في شره الأفخاذ المهتزة مع الإيقاع الذي تفوق كمالا باتجاه الغنج والدلال، والعجيزة الراجفة مثقلة فتنة وإثارة، والنيل مرقرقا يجري تحت قدمي القصر.
انتزعتني مرة أخرى من بين براثن مخيلتي، دفعت رأسي متنبها للواقع من حولي على صدى صوتها الواهن كالطنين بأذني وهي تقول:
"ده شنو ده؟ دي بت ولا ولد؟ ولد ولا بت يا ربي؟"
أطل بصري على ملمح قلما يتماثل، هو التطابق نفسه لأناس كثر ولا يهم الجندر هنا. عدت مرتكزا على واقع حالي المصلوب قربانا بهيكل اعتقدته للحرية. لكن يبدو سوء ما اعتقدت. حملتني مخيلتي منسربة بي لأرى القصر بعد أكثر من خمسين عاما من مغادرة الخواجة له. وقفت عند رأس الشارع الواصل للقصر من الجهة الجنوبية. هذا الشارع الثاقب قلب الخرطوم أو مركزها. كان مكتظا بحشده. رأيت نفسي محمولا على الأكتاف والهتاف من حولي ودوي ما يترامي ممزقا صمت أبنية الأسمنت. كنا نصرخ غاضبين ونتهاوى واحدا في إثر آخر. انفضضنا ولم ينفض الشارع من أرواحنا.
فجأة داهمتني مخيلتي بشيخ يجلس متربعا بجوف القصر على العرش الككر. في جلباب أبيض أنيق وقد أطلق لحيته الرمادية اللون إلى حد ما. وثمة غلمان من حوله بين يديه يقفون. لأول وهلة ظننته أحد قواد المهدية العظام. ولكن أسقط في يدي حين تحدث عن الاقتصاد العالمي الحديث وعن العولمة والخصخصة وأهميتها في تصحيح وإصلاح مسار الدولة. وعهدي بقواد المهدية لا يعرفون سوى الحرب والطعان. ثم أظنني قد نسيت أمر الجبة المرقعة، وهذا ما أبعد ظني عنهم تماما.
تناهى إلى سمعي همس بين بعض تلامذته. أظن أن هناك مؤامرة تحاك ضده. ثم سمعتهم يقولون:
"هذا كأسه فليتجرعه، ليتذوق ما به."
وأسهبوا في أقوالهم كثيرا. أتراهم مجحفون وخونة.. أم محقون؟"
مشهد رابــع
شعرت بأننا محاصرون داخل قمقم ضيق. كيف حشرنا به؟ سؤال طرحته على نفسي وكان الأجدى أن أطرحه على من أتي بي إلى هنا. خرجت قسرا هذه المرة من نفسي، قذفت بها في أتون الماضي وهي تسألني: "القطر ودوه وين؟"
تلفت بأرجاء محطة ميدان جاكسون الجديدة لأسطول الباصات الحديثة الموعودة بها المدينة. اختفت القضبان الحديدية ومن ثم القاطرات ودخلت وبكل عنف قصر الماضي.
الحاكم العام الإنجليزي يتربع بجلال خلف مكتبه. يفرض هيبته على هيئة الموظفين المصريين المتصاغرين وهم يتملقونه. وكان يصرخ في وجه مدير مشروع الجزيرة المتخوجن المرتعد خوفا، محتجا على تدني إنتاجية القطن، متسائلا كيف سنغذي مصانع النسيج في مانشستر. اقتصاد الإمبراطورية العظمى في خطر. الأزمة الاقتصادية تطبق الخناق علينا. ثم أصدر مرسومه بحفر ترع إضافية لزيادة رقعة الأرض لزراعة الكثير من القطن.
بدا بأذني كالطنين. صوتها الواهن يستحثني يحضني زاجرا على الانفلات من الماضي. هزتني بعنف وهي تقول:
"يا حليل الترماي وحديقة البلدية في بحري."
المشهد يتصاعد. يتفاقم الحر حولي. ما عدنا فسيخا فقد استحلنا إلى سمك جاف مركز الملوحة. والقصر يبدو سرابا. الشيخ وحواريوه يخططون للخصخصة وعتق وتحرير الدولة من ملكية المجتمع. وهو يلمح لهم باغتنام الفرصة المواتية واستغلال الانهيار الاقتصادي الذي يجتاح العالم الغربي، حيث تتهاوى البنوك الضخمة معلنة إفلاسها، وحواريوه يتلون عليه قائمة الصادرات وهو يلغي ما جاء فيها لعدم الجدوى الاقتصادية لكل تلك المحاصيل الملغاة، عدا المحصول النابع من باطن الأرض وليس من على سطحها وحده. أشار وصادق على الاهتمام به لجدواه الاقتصادية بالبورصات العالمية.
وأنا أنظر مبهوتا للقصر، دفعتني بيدها الواهنة على كتفي وتشير بيدها الأخرى نحو كفيف يضل طريقه أكثر كلما خطا إلى الأمام. يتخبط في سيره. ثم قالت:
"ده أهلو وين؟"
قلت: "كان القصر عادة إشكاليتنا."
قالت: "شجر العرديب حته نوارو. بنصوم رمضان كيفن السنة دي؟"
قلت: "هل نيفاشا تنتحر بعدما تبخر القائد؟"
قالت: "ويكاب الزمن ده ما ليهو طعم."
قلت: "من ذا الذي نسف أبوجا وأشعلها حريقا ليجلس على تل رمادها؟"
قالت: "ما خلاص راح. ويا حليل زمن العروس المدهنة بالصندلية."
قلت: "ليتهم لم يدركوا كرري."
قالت: "كان ما عجنتي عجينك من البارح ما بتعاس ليك الليلة."
قلت: "تنفض لجان فض النزاعات ويبقى النزاع."
قالت: "الملاح ده بلايقوه بشنو؟"
ثم التفتت نحو اللاشيء متسائلة: "النطع طويتنو مالكن؟"
وكنت حينئذ بخارا أحمر متحللا ماخرا ليل ذاكرتي، غريقا هناك أنا، وكأنني مهاجر في مخيلتي. الدنيا دم يتخثر أبدو عليه كفطر الخبز، وطفيليات على الحقول المجدبة.
الزمان عام 1939، والأزمة الاقتصادية تجتاح أوروبا. المكان محطة الخرطوم للسكة حديد، والقطار متجه شمالا إلى حلفا، يتأهب للانطلاق. المحطة تبدو مكتظة بالناس يغلب عليهم المصريون والشوام والإنجليز. جميعهم يبدون خواجات إفرنجا. ثم بعض السودانيين وبعض الأحباش ببشرتهم السمراء الداكنة، يبدو على سحناتهم الإرهاق والتعب. يتحركون في احتراس كبير وهم يحملون أمتعة البيض يدخلونها قمرات عربات الدرجة الأولى التي تخص الإنجليز وبعض الرتب العليا من القادة المصريين. كما كان هناك أيضا بعض المومسات الأنيقات جدا. بدون كالإفرنجيات تماما رغم سمرتهن. الكل يبدو مثقلا بالخدر. ربما بفعل الكحول أو النهار القائظ بالحر عند الظهيرة.
كانت وحدها: تبدو هكذا وحيدة تجوس بين الحشد الأنيق حافية متربة القدمين وبرأس محلوق خاليا من الشعر تماما. تلبس ثوبا من الدمورية الخشنة الآيل لونها للاصفرار قليلا.
ومن إحدى قمرات الدرجة الأولى أطل وجه شديد البياض لضابط إنجليزي عالي الرتبة والمقام. أشار إليها أن تدنو، فاقتربت من نافذة القمرة. وبلغة عربية ركيكة طلب منها مرافقته. لم تفكر. لم تمنح نفسها فرصة للتفكير. سرعان ما انطلقت مندفعة إلى داخل القطار ومن ثم ولجت إلى داخل القمرة.
جلست على أرضية القمرة أمامه كاشفة عن رأسها الحليق كما تفعل الجواري عادة أماl سيدهم. ووضعت نفسها بين يديه بسوادها الداكن وبآثار الضرب المبرح على جسدها الذي يغطيه ثوب الدمورية الخشن. قبعت مستكينة أمامه بحسنها الحزين الكسير مستسلمة لكل ما سيجيء منه، غير آسفة لما فعلت وما ستفعل، غير مهتمة لما قد يفعله ثورها الهائج عادة إن علم بفعلتها. ودعت كل ذلك في مخيلتها والقطار ينطلق منزلقا على القضبان في بطء عند البدء ثم مندفعا مثيرا وخلفا للغبار والخرطوم وراءه.
مشهد ثان
الزمان 2008 والأزمة الاقتصادية تطبق الخناق على اقتصاد الدول الغربية. المكان ميدان جاكسون، محطة الحافلات لمدينة الخرطوم. وعبر بوابة أم درمان كنا نترقب وصول الحافلة. المكان مكتظ بأناس يغلب عليهم ذوو السحنة السمراء. ثم بعض المصريين والسوريين وثمة بعض الآسيويين بأجناسهم المختلفة.
كنت أتأملها بعد حديث دفعنا السأم دفعا لتبادله، لفت نظري ضيق عينيها وصفاء بياضهما. لا يشوب وجهها شيء سوى تهدل خداها قليلا، ثم تلك الحركة الواهنة لجسد منهك ومرهق بفعل السنين، ومستنزف بأشياء أخرى كانت تمارسها. آثار جمالها الغابر لا تزال ترمي بظلال كثيفة على محياها العتيق. كل شيء فيها يومئ إلى فتنة كانت طاغية ولا تقاوم.
وفجأة ضحكت وقالت: "الله يغفر لينا."
التفت نحوها ضاحكا أيضا وقلت: :يغفر لينا شنو، ولا شنو؟"
أشعلت سيجارة في حركة تدل على مهارة فائقة لإنسان مارس هذا السلوك كثيرا. ثم قالت: "كتير. من الكتير يا ولدي."
ثم بدت وكمن يرجع القهقري بذاكرته، منقبا بين مكنوزاتها العتيقة. ويبدو أنها قد التقطت شيئا من هناك، من فك تلك الذاكرة العتيقة. ثم في شيء من الشاعرية وإضافة لحديثها الأسبق قالت: "كنت برقص ليهو في كل ليلة."
هاجمتني مخيلتي في ضراوة وأنا أتصورها فتاة في السابعة عشر من العمر. ترتدي فستانا من الشيفون الأصفر الفاقع، والذي بدت بشرتها الداكنة مشعة عليه. يتدلى الشعر المستعار جدائل مضفرة. يتدلى متماوجا على عجيزتها الممتلئة وهي مفدوعة اليدين. ومن حيث الحشى الضامر. بخصرها تتحرك كل أجزاء جسدها وحتى عيون الآخرين.
انتزعتني من بين براثن مخيلتي وهي تقول: "قضيت معاهو أربعة شهور كاملة بمدينة شندي. الله يغفر لي."
مشهد ثالث
ونحن معتصرون بداخل الزحام وحبات العرق تسيل على وجوهنا. تذوب. تتبخر ويبقى الملح عالقا بنا. نبدو مالحين بطعم الفسيخ. رأيتها بوضوح بعدما كشفت لي عن الماضي عبر تلك البوحة. غير مكترثة لما قد أقوله عنها وما يدور برأسي الآن عنها. ولكن مخيلتي تضج، تجنح بي ثانية. تتراءى أمام عيوني مشاهد لفتيات رائعات صغيرات، يقفن على ضفاف النيل لا يستر عريهن سوى سيور من جلد رقيقة ومتهالكة، ربطت حول خصورهن. تتدلى هذه السيور على أفخاذهن متأرجحة في خطوهن.
ترامى كل ذلك التيه المظلم بمخيلتي والخواجة الأبيض يزين القصر بهيبته متساميا على الواقع المكاني، وخليل فرح يغني داميا. ثم تلته مباشرة الراقصات على إيقاع التمتم، رقصن والخواجة يكرع كؤوس الويسكي مترعة ومثلجة، مقهقها متأملا في شره الأفخاذ المهتزة مع الإيقاع الذي تفوق كمالا باتجاه الغنج والدلال، والعجيزة الراجفة مثقلة فتنة وإثارة، والنيل مرقرقا يجري تحت قدمي القصر.
انتزعتني مرة أخرى من بين براثن مخيلتي، دفعت رأسي متنبها للواقع من حولي على صدى صوتها الواهن كالطنين بأذني وهي تقول:
"ده شنو ده؟ دي بت ولا ولد؟ ولد ولا بت يا ربي؟"
أطل بصري على ملمح قلما يتماثل، هو التطابق نفسه لأناس كثر ولا يهم الجندر هنا. عدت مرتكزا على واقع حالي المصلوب قربانا بهيكل اعتقدته للحرية. لكن يبدو سوء ما اعتقدت. حملتني مخيلتي منسربة بي لأرى القصر بعد أكثر من خمسين عاما من مغادرة الخواجة له. وقفت عند رأس الشارع الواصل للقصر من الجهة الجنوبية. هذا الشارع الثاقب قلب الخرطوم أو مركزها. كان مكتظا بحشده. رأيت نفسي محمولا على الأكتاف والهتاف من حولي ودوي ما يترامي ممزقا صمت أبنية الأسمنت. كنا نصرخ غاضبين ونتهاوى واحدا في إثر آخر. انفضضنا ولم ينفض الشارع من أرواحنا.
فجأة داهمتني مخيلتي بشيخ يجلس متربعا بجوف القصر على العرش الككر. في جلباب أبيض أنيق وقد أطلق لحيته الرمادية اللون إلى حد ما. وثمة غلمان من حوله بين يديه يقفون. لأول وهلة ظننته أحد قواد المهدية العظام. ولكن أسقط في يدي حين تحدث عن الاقتصاد العالمي الحديث وعن العولمة والخصخصة وأهميتها في تصحيح وإصلاح مسار الدولة. وعهدي بقواد المهدية لا يعرفون سوى الحرب والطعان. ثم أظنني قد نسيت أمر الجبة المرقعة، وهذا ما أبعد ظني عنهم تماما.
تناهى إلى سمعي همس بين بعض تلامذته. أظن أن هناك مؤامرة تحاك ضده. ثم سمعتهم يقولون:
"هذا كأسه فليتجرعه، ليتذوق ما به."
وأسهبوا في أقوالهم كثيرا. أتراهم مجحفون وخونة.. أم محقون؟"
مشهد رابــع
شعرت بأننا محاصرون داخل قمقم ضيق. كيف حشرنا به؟ سؤال طرحته على نفسي وكان الأجدى أن أطرحه على من أتي بي إلى هنا. خرجت قسرا هذه المرة من نفسي، قذفت بها في أتون الماضي وهي تسألني: "القطر ودوه وين؟"
تلفت بأرجاء محطة ميدان جاكسون الجديدة لأسطول الباصات الحديثة الموعودة بها المدينة. اختفت القضبان الحديدية ومن ثم القاطرات ودخلت وبكل عنف قصر الماضي.
الحاكم العام الإنجليزي يتربع بجلال خلف مكتبه. يفرض هيبته على هيئة الموظفين المصريين المتصاغرين وهم يتملقونه. وكان يصرخ في وجه مدير مشروع الجزيرة المتخوجن المرتعد خوفا، محتجا على تدني إنتاجية القطن، متسائلا كيف سنغذي مصانع النسيج في مانشستر. اقتصاد الإمبراطورية العظمى في خطر. الأزمة الاقتصادية تطبق الخناق علينا. ثم أصدر مرسومه بحفر ترع إضافية لزيادة رقعة الأرض لزراعة الكثير من القطن.
بدا بأذني كالطنين. صوتها الواهن يستحثني يحضني زاجرا على الانفلات من الماضي. هزتني بعنف وهي تقول:
"يا حليل الترماي وحديقة البلدية في بحري."
المشهد يتصاعد. يتفاقم الحر حولي. ما عدنا فسيخا فقد استحلنا إلى سمك جاف مركز الملوحة. والقصر يبدو سرابا. الشيخ وحواريوه يخططون للخصخصة وعتق وتحرير الدولة من ملكية المجتمع. وهو يلمح لهم باغتنام الفرصة المواتية واستغلال الانهيار الاقتصادي الذي يجتاح العالم الغربي، حيث تتهاوى البنوك الضخمة معلنة إفلاسها، وحواريوه يتلون عليه قائمة الصادرات وهو يلغي ما جاء فيها لعدم الجدوى الاقتصادية لكل تلك المحاصيل الملغاة، عدا المحصول النابع من باطن الأرض وليس من على سطحها وحده. أشار وصادق على الاهتمام به لجدواه الاقتصادية بالبورصات العالمية.
وأنا أنظر مبهوتا للقصر، دفعتني بيدها الواهنة على كتفي وتشير بيدها الأخرى نحو كفيف يضل طريقه أكثر كلما خطا إلى الأمام. يتخبط في سيره. ثم قالت:
"ده أهلو وين؟"
قلت: "كان القصر عادة إشكاليتنا."
قالت: "شجر العرديب حته نوارو. بنصوم رمضان كيفن السنة دي؟"
قلت: "هل نيفاشا تنتحر بعدما تبخر القائد؟"
قالت: "ويكاب الزمن ده ما ليهو طعم."
قلت: "من ذا الذي نسف أبوجا وأشعلها حريقا ليجلس على تل رمادها؟"
قالت: "ما خلاص راح. ويا حليل زمن العروس المدهنة بالصندلية."
قلت: "ليتهم لم يدركوا كرري."
قالت: "كان ما عجنتي عجينك من البارح ما بتعاس ليك الليلة."
قلت: "تنفض لجان فض النزاعات ويبقى النزاع."
قالت: "الملاح ده بلايقوه بشنو؟"
ثم التفتت نحو اللاشيء متسائلة: "النطع طويتنو مالكن؟"
وكنت حينئذ بخارا أحمر متحللا ماخرا ليل ذاكرتي، غريقا هناك أنا، وكأنني مهاجر في مخيلتي. الدنيا دم يتخثر أبدو عليه كفطر الخبز، وطفيليات على الحقول المجدبة.