خالد جهاد - أجمل أيام العمر

لا شك أننا كبشر نعيش دوماً في حالةٍ من الترقب والتمني لحدوث شيءٍ ما يبدل أيامنا، فنحلم بالأفضل رغم كل الظروف التي نعيشها ونستمد القوة من أملنا بوجود غدٍ أكثر إشراقاً، ولربما كانت هذه إحدى أجمل صفات الإنسان.. قدرته على الحلم في مختلف مراحل حياته، والإنفراد بذاته حيث لا يمكن لأحدٍ أن يصادر أمانيه أو ينتقدها أو ينال منها فهي هكذا.. ولدت مجنحةً تحلق وتأخذنا معها إلى حيث تطير، فلا تأبه بالشكل أو العمر المدون في أوراقنا الرسمية بل تنظر إلى القلب المتقد بالعاطفة، والروح التي تضج عطاءاً وتمتلك القدرة على إسعاد من حولها فتطوقهم بإهتمامها ومحبتها..

وهذه المعاني هي جوهر الحياة وناموس الطبيعة التي فطر الكون عليها، والتي بتنا للأسف نرى في زمننا الحالي ما يناقضها تماماً حتى على صعيد العلم الذي تأثر في بلادنا بثقافاتنا المحلية وجعله يتراجع لصالح المادة والشكليات، فيسهل على الكثيرين من حولنا وصف من تجاوز الخمسين أو الستين من عمره وأحياناً أصغر من ذلك بكلمة (عجوز، راحت عليه)، أو السماح لنفسه بالحكم عليه أو تصنيفه أو تحديد ما (ينبغي) عليه فعله أو انتقاد تصرفاته لإعتبارات سخيفة، وفي المقابل.. في الغرب حيث تتجه أنظار الغالبية وتسعى لمحاكاة كل ما يصدر عنه (سلباً لا إيجاباً) لا يعد حتى من هم في السبعينات من عمرهم أشخاصاً متقدمين في العمر أو غير منتجين بل ينظر إليهم كمرجعٍ قيم وأصحاب خبرةٍ وتجربة، فيتقلد العديد منهم مناصب رفيعة كمستشارين كلٌ حسب مجاله وتخصصه الذي أبدع فيه، أو قد يختار أن يبدأ حينها فصلاً جديداً من حياته حيث قد يبدأ مشروعه الخاص أو ينمي إحدى هواياته لتتحول إلى شغفه الجديد، أو الحلم الذي يعيش فيه لنفسه بعد أن أدى مهمته ورسالته تجاه عائلته، على عكس طريقة التفكير التي تسود مجتمعاتنا والتي تهتم بأخبار الإنسان وليس الإنسان نفسه، حيث قد تتجاهله وهو في أمس الحاجة إلى المساعدة فيما (تتسلى) بأخباره وتحولها إلى مادة للحديث عنها والتنظير على أصحابها..

ففي نفس الوقت الذي نتغزل فيه بلمعان أسماءٍ مخضرمة في الفن والثقافة والإعلام الغربي حيث لازالت باربرا والترز مستمرة رغم تخطيها الثمانين، وظلت عميدة مراسلي البيت الأبيض الراحلة هيلين توماس (وهي من أصل لبناني سوري) تعمل حتى التسعين من عمرها، نقوم نحن بتشويه وتحطيم القامات والأيقونات والأسماء البارزة في بلادنا، حيث (كعادتنا) نجد لكل شيء مبرراً لتجميله وتمريره وتقبله ليس فقط من الأشخاص العاديين ومتابعي مواقع التواصل الإجتماعي بل أيضاً من المسؤولين عن الفن والإعلام أيضاً لتحقيق مصالحهم..

فعلى سبيل المثال بتنا نلحظ جميعاً ظاهرة احتلال الجميلات للشاشات حيث يعتمد الكثيرات منهن على شكلهن دون توفر أي موهبة أو كفاءة أو مقومات أخرى سوى المظهر الخارجي كأسلوب معتمد في مختلف القنوات بهدف زيادة نسبة المشاهدة، في نفس الوقت الذي يتم فيه ايقاف وتهميش الكفاءات في العديد من المجالات من الرجال والنساء عند بلوغ الأربعين أو الخمسين كحد أقصى، وهو ما ينطبق على العديد من المجالات، حيث لم يعد الأمر حكراً على المهن التي تقع في دائرة الضوء بل أصبح الأمر سمةً عامة تشمل مهناً كثيرة وعادية جداً ..

ولذلك يبدو بكل أسف أننا مقبلون على مزيد من التراجع الإنساني قبل أي شيء آخر، فقد عرفنا جميعاً في طفولتنا أن غياب أي كائنٍ حي يؤدي إلى اختلال في سلسلة التوازن البيئي ككل، فما بالنا بمشهد تحكمه المادة والمظاهر وتغيب فيه البديهيات ويتم فيه سلخ الأجيال عن أهلها ومن يكبرونها، إلى جانب تغييب أصوات تمثل العقل والحكمة والنضوج والخبرة والرصانة وتعد بمثابة قيمة مضافة لحياتنا تساهم في توازن المشهد المختل أصلاً لصالح (استفادات مؤقتة)، تنال من الإنسان لأجل المال وتنهي عطائه باكراً جداً لتتركه في مهب البطالة والوحدة والإكتئاب والأنانية والجوع وعالمٍ يزداد خواءاً بقدر ما يزداد بريقاً، تذبل فيه الطبيعة، تغيب عنه العواطف، تسمى فيه الأشياء بغير أسمائها وتسرق فيه أجمل لحظات العمر بمنتهى القسوة..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى