د. خالد محمد عبد الغني - "المرايا المتجاورة دراسة في نقد طه حسين" لجابر عصفور

جابر عصفور مفكر وناقد وأكاديمي اشتبك مع قضايا الفكر والثقافة والنقد والتنوير والتراث والمعاصرة منذ بواكير عمله الأكاديمي كما اشتبك أيضا مع قضايا المجتمع الثقافية والسياسية فمن معيد إلى أستاذ النقد الأدبي ورئيس تحرير مجلة فصول، وعمـل أسـتاذا زائـرا فـي العدید من الجامعـات فـي البلـدان العربیـة والأجنبیـة وشـارك في الكثیر من المؤتمرات الأدبیة الفكریة في البلدان العربیة والأجنبیة.ثم أمين عام المجلس الأعلى للثقافة ، وحـاز العديد من الجـوائز منها أفضـل كتـاب فـي الدراسـات النقدیـة مـن وزارة الثقافـة المصـریة، وفي الدراسات الأدبیة من مؤسسة الكویت للتقدم العلمي، وفي الدراسات الإنسانیة من معـــــــرض القـــــــاهرة الـــــــدولي للكتـــــــاب وجـــــــائزة ســـــــلطان العـــــــویس الثقافیـــــــة، ودرع رابطة المرأة العربیة ثم مؤسس ورئيس المركز القومي للترجمة، فوزيرا للثقافة مرتين، وتشكل تجربة جابر عصفور نموذجا فريدا في الحديث عن المشروع الثقافي الذي نهض به على مستويات متعددة ، وفي كل هذه المستويات وغيرها كان فاعلا حقيقيا في إنتاج حركة ثقافية عربية تنتصر للحداثة والتنوير والتجديد. وقد أسهم جابر عصفور في إغناء المكتبة العربية بتأليفات رئيسية وترجمات في النقد والتحليل والتنوير وجميعها تنطلق من رؤية منهجية وبُعد ثقافي واع، وتعتبر مؤلفاته منظومة واحدة تتخذ من الفكر والأدب وجهيها البارزين ولا تكتمل إلا بالعودة إلى التراث البلاغي والنقدي الذي بدأ به رحلته الأكاديمية. إذ يقول "أنـــــا أنظـــــر إلـى النقـد لا علـى أنـه علـم بمعنـى العلـوم التجریبیـة ولـیس النقـد فنـا أیضـا كإبـداع أدبـي، إنمـا النقــد فــي آخــر الأمــر علــم بــالمعنى الموجــود فــي العلــوم الإنســانیة شــأنه فــي ذلــك شــأن علــم التاریخ، شأن علم اللغة"، وكان دافعاً لانفتاحه على مفاهيم العقل الحديث من خلال ترجماته من قبيل "عصر البنيوية"، و"الماركسية والنقد الأدبي"، و"اتجاهات النقد المعاصر"، و "قاطرة التقدم: الترجمة ومجتمع المعرفة"، بهذه الاعتبارات يمكن وصف جابر عصفور بالمثقف العضوي فاشتبك مع قضايا عصره مواجهاً ما يعترض مسيرة تقدمه من "ثقافة التخلف"، و"التعصب"، و"الإرهاب" التي عالجها في الكثير من كتبه وكان أهمها "أنوار العقل" ، ورافعاً راية الحداثة التي تؤمن بالتعدد والتنوع وحق الاختلاف وحرية الاعتقاد والتعبير. حيث میـز جـابر عصـفور بـین نـوعین مـن الحداثـة حداثـة اسـتهلاكیة وهـي طارئـة وعارضـة وعابرة، وحداثة الإنتاج التي تعني الأصالة وإعادة تولید الأصل في ضوء معطیات جدیدة .
وقد دفع جابر عصفور ثمن اشتباكه مع القضايا السياسية حين قال :" كنت أحاول الفراغ من كتابي – المرايا المتجاورة قراءة في نقد طه حسين - وسط هذه الأحداث المتلاحقة, التي أبعدتني عن العمل أكثر من مرة. ولكني نجحت, أخيرًا, في الفراغ من الفصول الأولى بعد التمهيد. وكان ذلك في شهر أغسطس 1981, الذي تعودت أن أستغله مع الشهر السابق عليه - يوليو - في التفرّغ التام لأبحاثي الجامعية. وكان التفرّغ كاملاً هذه المرة لطه حسين. وانتهى أغسطس, وعدنا إلى الجامعة, ولكن سرعان ما اكفهر الجو السياسي, وأصاب السادات ما أصابه, فوضع رموز المعارضة له في المعتقلات. وجمع الأساتذة غير المرضيّ عنهم من نظامه في سلة واحدة, وألقى بهم خارج الجامعة, التي وهبوها حياتهم. وتعاقبت الأيام الكئيبة, التي أعقبت القرار, وشهدت فيها من ضروب الخسّة والنذالة ما لا يمكن نسيانه, إلى أن جاء شهر أكتوبر, واغتيل السادات بأيدي الذين مدّ إليهم يديه, طالبًا عونهم للقضاء على خصومه, فكان أشبه بمن ربَّى أفعى في صدره. وكان عليّ أن أذهب إلى هيئة التأمينات والمعاشات الشهيرة في ميدان (لاظوغلي) بالقرب من السيدة زينب. ويبدو أنه كانت هناك توصية خاصة بمعاملتي, فقد أخبرني اللواء المسئول عن الأمن في الهيئة أن أنوّره يوميًا, ابتداء من التاسعة صباحًا, وذلك في تعبير مهذب عن ضرورة الحضور, وكان عليّ تنفيذ الأمر, صاغرًا صابرًا إلى أن أجد مخرجًا".
لــــــم یكــــــن الخطــــــاب النقــــــدي العربــــــي بمنــــــأى عــــــن التــــــأثر بالمنــــــاهج النقدیــــــة الجدیــــــدة التـــــــي أفرزتهـــــــا حركـــــــة النقـــــــد فـــــــي أواخـــــــر القـــــــرن التاســـــــع عشـــــــر مـــــــیلادي، وبدایـــــــة القـــــــرن العشــرین، وذلــك بســبب انتقــال الثقافــات ســواء أكــان عــن طریــق الترجمــة أومعرفــة لغــة الآخــر التــــي تمكــــن مــــن الإطــــلاع علــــى المؤلفــــات فــــي لغتهــــا الأصــــلیة، ومــــع وصــــول هــــذه المنــــاهج إلـــى الســـاحة الأدبیـــة النقدیـــة العربیـــة فـــي النصـــف الثـــاني مـــن القـــرن العشـــرین، تباینـــت الآراء النقدیــة العربیــة بـــین مؤّيد للمنـــاهج العربیــة القدیمـــة، وبــین متـــبن لهــذه المنـــاهج التــي تســـایر التطور الحاصل على كل الأصعدة والمستویات، وبـــرزت فـــي الســـاحة النقدیـــة مجموعـــة مــــن النقـــاد العـــرب، الـــذین تمكنـــوا مـــن فهــــم هــذه المنــاهج الجدیــدة والتعریــف بهــا فــي العــالم العربي منهم جــــابر عصــــفور، الــــذي عنــــي منــــذ وقــــت مبكــــر بأزمــــة النقــــد العربــــي، ولــــه تجربــــة رائــــدة تمثلت في مجموعة مــــــن الكتــــــب النقدیــــــة والفكریــــــة التــــــي تــــــنم عــــــن وعي نقــــــدي عميق فــــــي أدبنــــــا العربــــــي، وتحمــل فــي طیاتهــا مواقــف الناقــد التــي تمیــز بهــا مشــروعه النقــدي الــذي أضــاء درب النقد العربي.
ويقول جابر عصفور حول نقد النقد :"وقد جذبني نقد النقد إليه بسبب أهميته وحتمية اللجوء إليه في المراحل المفصلية التي يتغير فيها المنظور الأدبي وتتحول رؤية العالم السائدة لتحل محلها رؤية أدبية ونقدية جديدة. ولا يمكن المضي قدمًا في ممارسة الرؤى الجديدة دون اختبار ومراجعة السابق عليها والكشف عن تأثيراته السالبة والموجبة في آن, فليس كل تغيير إلى الأفضل دائمًا. وكل تغيير يدفع إلى إعادة النظر بالضرورة فيما سبقه وفيما يمكن أن يترتب عليه. ولا شك أن غياب نقد النقد أو النقد الشارح يؤدي إلى عواقب وخيمة, خصوصا في مفاصل التغير والتحول التي تحتمه. ويعني الغياب - من هذا المنظور - الاستنامة إلى الممارسات التي أصبحت تقليدية أو التي اكتسبت مكانة أو أهمية بحكم التقادم, ولم تجد ما يكشف عن هشاشة الأسس التي تستند إليها, فتبقى مؤثرة بالسلب, تعوق الانطلاق والحركة, وتفرض رؤى اتّباعية وتقليدًا جامدًا يكرر فيه اللاحق السابق دون إضافة ومن غير إبداع أو ابتكار. ولقد دفعني الإيمان بهذه الأفكار إلى قراءة كتابات طه حسين النقدية والبحث عن النسق النقدي الذي يتحرك من خلاله, وذلك بقصد الكشف عن العناصر التكوينية لهذا النسق ووضعه موضع المساءلة. وقد كنت في ذلك الوقت واقعًا تحت تأثير البنيوية ومن ثم مهتمًا بالنسق والنظام اللذين هما البنية القارة وراء كل ممارسة كلامية وكل خطاب في النقد الأدبي أو غيره, ولا أريد تلخيص الفلسفة البنيوية في هذا المقام. حسبي القول إنها حوّلت أنظارنا - نحن النقاد - إلى البنية القارة وراء الشتات الخارجي, وعدم الاقتناع بالركام الظاهر للمعطيات, الأمر الذي استلزم الاهتمام بما وراء الركام الظاهري, وما يحكمه في الوقت نفسه. وهو النسق أو النظام أو البنية التي تنطوي على قدر من الانتظام الذاتي, الذي يسمح ببعض التحولات, لكن بما لا يخرجنا من نسق إلى غيره, أو من بنية إلى بنية أخرى مغايرة. وكان السؤال الذي طرحته على نفسي في ذلك الوقت من السبعينيات, هو: أين البنية التي تكمن وراء كتابات طه حسين, وتردّ تكثّرها إلى وحدة, وتعدّدها المراوغ إلى نسق منتظم متجانس?
يرى جابر عصفور:"إن طه حسين الناقد الأدبي متنوع الجوانب متعدد الاهتمام، متقلب الصفات والتبدل والتحول والمغايرة – في نقده- أمور تشي بالتباين الكيفي لجوانب هذا النقد". ويرجع التباين الكيفي في نقد طه حسين إلى الطبيعة التنويرية للمشروع الحضاري لديه وتلك الطبيعة تقترن بالموسوعية التي تصل صاحبها بكل نشاط وتدفعه إلى أن يقدم إلى مجتمعه المتخلف كل ما يمكن أن يساعد على التقدم ولذا تعددت أنشطة طه حسين الثقافية بالقدر نفسه الذي تعددت أدواره الاجتماعية. ومن هنا كان اهتمامه بطه حسين ، إذ يدخل كتاب "المرايا المتجاورة دراسة في نقد طه حسين" ضمن دائرة اهتمام المتخصصين في علوم اللغة العربية وآدابها تحديدًا والباحثين في الموضوعات ذات الصلة بوجه عام، حيث يقع كتاب المرايا المتجاورة دراسة في نقد طه حسين ضمن نطاق تخصص علوم اللغة ووثيق الصلة بالفروع الأخرى مثل الشعر، والقواعد النحوية، والصرف، والأدب، والبلاغة، والآداب العربية. ويحاول الكتاب التعرف على طبيعة الفكر النقدي عن طه حسين (1889-1973) من خلال اكتشاف الصيغة التكوينية التي ينبني بها هذا الفكر وبقدر ما يسعى هذا البحث إلى اكتشاف الخصائص النوعية لهذا الفكر، فإنه يحرص على أن يتعامل معه بوصفه وحدة متكاملة خاصة ان طه حسين تنقل بين عدة مذاهب أدبية وأخرى نقدية وكذلك عدة مشكلات تتصل بالابداع الأدبي طوال حياته .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى