ماجد حميد الغراوي - (سِرٌّ دَفِينٌ) وَالأَسَالِيبُ التَّعبِيرِيَّةُ لِلْقَاصَّةِ هُيَام جَابر عَبدُو

(1)
القِصَّةُ القَصِيرَةُ غَالبًا مَا تَقُودُنَا إِلَى حِكَايَةٍ تُؤَسِّسُهَا قُدرَةُ وَإِمكَانِيَّةُ القَاصِّ فِي صِيَاغةِ أَسَالِيبِ التَّعبِيرِ الفَنِّيِّ الَذِي يَجمَعُ مُكَوِّنَاتِ الكَلْمَةِ فِي صُورَةٍ أدَبِيَّةٍ تَحمِلُ أحْيَانًا رِسَالَةً هَادِفَةً أَوْ مَوضُوعًا فِكْرِيًّا ، هِيَ نَوعٌ أَدَبِيٌّ مُكَثَّفٌ ، مُميَّزٌ عَنِ الأَجنَاسِ الأَدبيَّةِ الأُخرَى فِي بِنَاءِ الشَّكلِ بِعَكسِ الرّوَايَةِ ... ارتَأَينَا أَنْ نَبدَأَ بِهَذَا الرَّأْي المُبسَّطِ حَولَ مَفْهُومِ القِصَّةِ القَصِيرَةِ؛ لغَرَضِ البَدْءِ بِعَرضِ لَمَحَاتٍ نَقدِيَّةٍ وَاسْتِنَارَاتٍ أَدَبِيَّةٍ في بَعضٍ مِنْ نُصُوصِ المَجمُوعَةِ القَصَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ لِلأَدِيبَةِ السُّورِيَّةِ هُيَام جَابر (سِرٌّ دَفِينٌ) الَتِي صَدَرتْ عن دَارِ نَشرِ سُوريَانَا للطِّبَاعَةِ وَالنَّشرِ ، بَعْدَ مَجمُوعَتِهَا القَصَصِيَّةِ الأُولَى (اخْتِفَاءُ سُوزِي) ؛ والتي نشرت معظمها هنا في صفحة المبدعين العرب ، ولِنتَعرَّفَ مِنْ خِلَالِهَا عَلَى تَنَوُّعِ الأَسَاليبِ الفَنِّيَّةِ للقَاصَّةِ في كِتَابَةِ القِصَّةِ القَصِيرَةِ ، وَخُلاصَةِ الفِكرَةِ في الحَدَثِ القَصَصِيِّ مَعَ رُؤْيَةِ مَدَى مَوضُوعيَّةِ التَّعبيرِ عَنْ وَاقِعِ المُجتَمَعِ ، مِنْ خِلَالِ مُحتَوَى النُّصُوصِ وَتَعبِيرِهَا عَنْ وَاقِعِ الحَيَاةِ العَامَّةِ التِي نَعِيشُهَا وَتَعِيشُهَا القَاصَّةُ فِي عَصرِنَا الرَّاهِنِ ، وَالصُّعُوبَاتِ الَتِي تُعَانِي مِنهَا بُلدَانُنَا العَرَبِيَّةُ بِشَكلٍ عَامٍّ؛ مِنْ وَيْلَاتِ الحُرُوبِ ، وَمَشاكِلِ الانْقِسَامَاتِ الطَّائِفِيَّةِ وَالأَيديُولُوجِيَّةِ ، وَالتَّدَخُّلَاتِ الأَجنَبِيَّةِ فِي رَسْمِ مَصِيرِ الشُّعُوبِ .
(2)
فِي قِصَّةِ (سِرٌّ دَفِينٌ) اعتَمَدَتْ عُنْوَانَ القِصَّةِ كَعَتَبَةٍ أُولَى (عُنْوَانًا) لِلمَجمُوعَةِ القَصَصِيَّةِ ، وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ الطَّابعِ النَّحْوِيِّ للجُملَةِ الاسْمِيَّةِ لِلعَنوَنَةِ ، فَإِنَّنَا نَرَى لَهَا فَضَاءً صُوَرِيًّا يُوحِي بِدلَالَاتٍ وَاسعَةٍ وَمُثيرَةٍ للمُتَلَقِّيِ ، تَدفَعُهُ لِلتَّوَغُّلِ في النَّصِ؛ لِمَعرفَةِ المُرَادِ مِنْ (سِرٌّ دَفِينٌ)، كَما أَنَّهَا اعْتَمَدَتْ أُسلُوبَ السَّردِ الذَّاتِيِّ في بِنَاءِ القِصَّةِ التِي اسْتَهَلَّتْهَا بِوَصفِ الشَّخصِيَّةِ الرَّئيسِيَّةِ بِلُغَةٍ سَهلَةٍ وَوَاضِحَةٍ :
(امرَأَةٌ مِنْ قَاعِ المُجتَمَعِ تَعِيشُ عَلَى مَا تَجمَعُهُ مِنْ حَاوِيَاتِ القُمَامَةِ ، لَهَا عَددٌ كَبِيرٌ مِنَ الأَطفَالِ ، مَنْ يَرَاهَا يُحَاولُ أَنْ يَترُكَ مسَافَةَ أَمَانٍ بَينَهُ وَبَينَهَا؛ لِمَظهرِهَا المُعفَّرِ بِالأَوسَاخِ ، كَانَتْ تقوم ببِيع مَا تَجِدُهُ بِأَسعارٍ رَخِيصَةٍ للمُهَجَّرِينَ فِي حَيِّهَا المِسْكِينِ)
وَصْفٌ مُكثَّفٌ لِبَطلَةِ القِصَّةِ وَمَظهرِهَا الخَارجِيِّ المُعفَّرِ بِالأَوسَاخِ ، وَحَالتِهَا الاجْتِمَاعيَّةِ في بِدَايَةِ فِكرَةِ القِصَّةِ التِي تَتلَخَّصُ بِامْرَأَتَينِ: الرَّاوِيَةِ وَبَطَلَةِ القِصَّةِ ، اللَّتَينِ تَكَادُ تَقتَصِرُ المسَافَة الفَاصلَة بَينَهُمَا؛ فَكِلْتَاهُمَا تُشَارِكَانِ زَوجَيهمَا اللَّذَينِ يُعَاملَانِهمَا مُعَامَلَةً تَكَادُ تَكُونُ سَيِّئَةً ، بَطَلَةُ القِصَّةِ تَرْوِي حِكَايتَهَا بِشَكلٍ وَاضحٍ وَبِالتَّفصِيلِ مَعَ زَوجِهَا الَذِي لَا تُحبُّهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أدائها وَإِخلَاصِهَا فِي وَاجبَاتِهَا الزَّوجِيَّةِ ، وَهَذَا مَا يَجعَلُ الرَّاوِيَةَ تَستَذكِرُ حَيَاتَهَا مَعَ زَوجِهَا كَمَا نَرَى:
(أَمَّا أَنَا ، فَقَدْ ذَهَبْتُ أُفَتِّشُ فِي دَهَالِيزِ نَفسِي عَنْ أَحَدٍ أُفْشِي لَهُ سِرَّ قَلبٍ حَفِظتُهُ لِزَوجٍ أَمْعَنَ فِي العَبَثِ في نبضاته ، وَأَسرَفَ فِي خذلانه ، دُونَ أَنْ أَستَطِيعَ البَوحَ بِمَا بِي... نَظَرًا" لأن مكانتي فِي المُجتَمَعِ لا تَسمَحُ لِي بِذَلكَ) .
نَرَى أَنَّ الرَّاوِيَةَ لَمْ تَذكُرْ سَبَبَ عَبَثِ زَوجِهَا بِنَبَضَاتِ قَلبِهَا وخذلانه لأحد ؛ (لِمَكانَتِهَا فِي المُجتَمَعِ)، وَهِيَ دَلَالَةٌ جَمِيلَةٌ تُضِيفُ إِلَى القِصَّةِ مَعنًى مَوْضُوعِيًّا وَوِجدَانِيًّا يِتَعلَّقُ بِشَخصيَّةِ الرَّاويَةِ ، وَكَأنَّهَا تُوضِّحُ أَنَّ بَعضَ الأَشخَاصِ لَا يَبُوحُ بِمَشاكِلِهِ العَائلِيَّةِ وَالشَّخصِيَّةِ؛ مِنْ أَجلِ الحِفَاظِ علَى مَكَانتِهِ في المُجتَمَعِ المَرهُونَةِ بِسَلامَةِ حَيَاتِهِ الزَّوجِيَّةِ وَمَكانَةِ أُسرَتِهِ في المُجتَمَعِ وقد تَكُونُ هُنَاكَ قِرَاءَاتٌ أُخْرَى للنَّصِّ ، كَذَلكَ نَرَى فِي قِصَّةِ (عَينٌ تَنتَصِرُ) تَبْدَأُهَا القَاصَّةُ بِأُسلُوبِ السَّردِ الذَّاتِيِّ أَيضًا ؛ لِتَروِيَ لَنَا فِكرَةَ تَأْسِيسِ جَمعِيَّةٍ ثَقَافِيَّةٍ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْخَاصٍ ، تَنتَقِلُ مِنْ خِلَالِهَا إِلَى حوَارٍ خَارِجِيٍّ يَدُورُ بَينَ هؤلاء الأَشخَاصِ وَتَتَّحِدُ فِيهِ الرَّاوِيَةُ بِشَكلٍ مُتَفَاعِلٍ مَعَ النَّصِ:
(قَاطَعَتْ مَريَمُ الحَدِيثَ الدَّائر لِتَسأَلَ طَارِق :
مَتَى سَيَتمُّ عَرضُ مَسْرحيَّاتِكُم؟
أَجَابَ: بَعْدَ أَنْ أَضَعَ عَينًا أُخْرَى!
تَوجَّهَتِ الأَنظَارُ نَحوَهُ
وَلَاحَظْنَا أَنَّهُ يُغَطِّي إِحدَى عَينَيهِ بِلَاصقَةٍ ،
وَلَمْ يَسأَلْ أَحَدٌ لِمَ إلَّا عِندَمَا أَشَارَ إِلَيهَا
قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّكَ مُصَابُ حَربٍ).
نَرَى أَنَّ شَخصِيَّةَ طَارَقٍ وَحْدَةٌ دَلَاليَّةٌ جاءت مِنْ وَحدَاتِ المَعنَى الَتِي يَقُولُهَا أَوْ تُقَالُ عَنْهُ؛ فَهُوَ مُصَابُ حَربٍ يَرْوِي حكَايَةَ دُخُولِهِ الحَربِ فِي مُلَاحَقَةِ إِحدَى العِصَابَاتِ الإِرهَابِيَّةِ ، وَأَصَابَتْهُ فِي إِحدَى عَينَيهِ الَتِي تَجعَلُ مِنهَا القَاصَّةُ مِرْآةً وَرَمزًا للنَّصرِ عَلَى الإِرهَابِ مَعَ شَفْرَةِ اللَّونِ التِي يَحملُهَا العَلَمُ؛ وَهُوَ اللَّونُ الأَخضَرُ الذِي يُرْمَزُ بِهِ دَائِمًا لِلخصُوبَةِ وَالآخَرَةِ السَّعِيدَةِ :
(سَادَتْ لَحظَةٌ سَكَتْ فِيهَا الشَّجَنُ ، تَطَلَّعنَا إِلَى وَجهِ طَارقٍ ، رَأينَا فِي عَينِهِ السَّلِيمَةِ عَلَامَةَ النَّصرِ وَعَلَمًا بِعَينَينِ خَضرَاوَينِ) .
(3)
فِي قِصَّةِ (الزَّائِر) تَعتَمِدُ القَاصَّةُ فِيهَا علَى فِكرَةٍ وَاضحَةٍ تَتجَسَّدُ فِي رُؤيَةٍ شَخصِيَّةٍ في مُنَاسبَةٍ اجْتمَاعِيَّةٍ تُعطِيهَا اهْتمَامًا كَبِيرًا ضِمنَ حوَارٍ ذَاتِيٍّ (المُونُولُوج المُتَدَاخل) الذِي يَمتزجُ فِيهِ صَوتُ القَاصَّةِ بصَوتِ الشَّخصيَّةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ ، وَتَجعلُ الفِكرَةَ تَنمُو لِتَصلَ إِلَى شَكلٍ يَختَلِفُ عَمَّا تَوقَّعَهُ المُتلَقِّي:
(كَانَتِ ابتِسَامَتُهُ كَشَمسِ الصَّبَاحِ ، يُطِلُّ الفَرَحُ مِنْ عَينَيهِ اللَّتَينِ تَتَجوَّلَانِ بَينِي وَبَينَ العَرُوسَينِ...
حتَّى اخْتَفَى !
هَلْ عرف أَنِّي رَأَيتُهُ ؟ ... لَا يَهمُّ
المُهمُّ أَنَّ شُعُورًا غَرِيبًا انْتَابَنِي؛ فَرَح ، دَهشَةً ، حُزْن ، لَا أَدرِي!).
وَفِكرَةُ القِصَّةِ تُصَوِّرُ لَحظَةً إِنسَانيَّةً واجْتِمَاعيَّةً يَعِيشُهَا النَّاسُ فِي كُلِّ زَمانٍ وَمكَانٍ؛ وَهِي فَرحَةُ حَفَلات الزواج وَامْتدَادُ هَذِهِ الفَرحَةِ إِلَى شَريحَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الأَقَاربِ وَالمعَارفِ وَالأَصدِقَاءِ ، حتَّى تَتداخَلَ مَعَ هذِهِ الفَرحةِ تَجلِّيَاتٌ وَهَواجِسُ دَاخِلِيَّةٌ لِشَخصيَّةِ البَطَلَةِ (وَهِي الرَّاويَةُ) الَّتِي تَرَى حُضُورَ أَخِيهَا الشَّهيدَ الدائم في نهَايَةِ القِصَّةِ؛ لتَكُونَ قَفلَةً مُنَاسبَةً وَمُفَاجئَةً للْقَارِئ وَكأنَّهَا تُرسِلُ رِسَالَةً تُؤكِّدُ فِيهَا حُضُورَ الشُّهدَاءِ فِي ضَمائِرنَا وَوِجدَانِنَا كَأنَّهُم أَحيَاءٌ بَينَنَا .
(4)
قِصَّةُ (مَلَاك جرَاح) نَرَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بِأُسلُوبٍ سَلِسٍ وَمُشَوِّقٍ انْفَتَحَ علَى بِنْيَةٍ سيكُولُوجِيَّةٍ وَظَّفَتْهَا القَاصَّةُ فِي تَجرِبَةٍ اقْتَحَمَتْ فِيهَا العَالَمَ التَّخْييلِيَّ لِوَاقِعِ أَبطَالِ القِصَّةِ في جَانِبٍ مِنَ المُعتقَدَاتِ السَّائدَةِ الَتِي يُؤدِّي فِيهَا الاشْتغَالُ التَّرمِيزِيُّ (الخَرُوف في القِصَّة) دَورًا دَلَاليٍّا لَهَذِهِ المُعتَقَدَاتِ:
(سَأَلَهَا الرَّجُلُ صَارخًا: مَاذَا تَفعَلِينَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ المُتأَخِّرَةِ مِنَ اللَّيلِ هُنَا؟
بِصَوتٍ مُرتَجِفٍ أَجَابَتْ: جِئْتُ أَشتَرِي خَرُوفًا! قِيلَ: إِنَّ هُنَا مَكَانًا لِبَيعِ الخِرَافِ.
لَمْ يَنتظِرْهَا لِتَبتَلِعَ ريقها ،
رَفَعَ عُكَّازَهُ وَضَرَبَهَا عَلَى رُكْبَتَيهَا).
نَرَى مِنْ خِلَالِ قَرَاءَتِنَا أَنَّ القَاصَّةَ عَلَى الرَّغْمِ مِنِ اِسْتِخدَامِهَا أُسلُوبَ الوَصفِ التَّعبِيرِيِّ الَذِي أَدَّى إِلَى حُضُورِ القِصَّةِ بِأَجوَائِهَا وَأَبطَالِهَا وَتَقَدُّمِهِم عَلَى الرَّاوِيَةِ ، فَإِنَّ حُضُورَهَا ظَلَّ وَاضِحًا فِي مُعظَمِ سُطُورِ القِصَّةِ .
(5)
كَانَتْ هَذِهِ قِرَاءَةً لِنَمَاذِجَ مُختَارَةٍ مِنَ المَجمُوعَةِ القَصَصِيَّةِ ، نَرَى أَنَّ الكَاتِبَةَ مِنْ خِلَالِهَا وَبَقِيَّة النُّصُوصِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُثبِتَ قُدرَتَهَا عَلَى تَنوِيعِ الأَسَالِيبِ التَّعبِيريَّةِ فِي تَطوِيرِ جَمَاليَّةِ تَجرِبتِهَا القَصَصِيَّةِ.

ماجد حميد الغراوي / بغداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى