طلعت قديح - تأملات في قصيدة "كمنجةٌ من مطر" من شعر (مرثيّة لطائر الحنّاء) للشاعر ناصر رباح

"كمنجةٌ من مطر"

أتوق إلى آلةِ موسيقى تعزفُ لحنا غير تلك الحروف،
ليس لها صوتٌ يتكسرُ مثل قشرِ البيض،
ليس لها رائحةُ تلامذةٍ يرسبون من الذاكرة.
آلة موسيقى تبللُ مستمعيها فيخرجون من النص غرقى.
آلةٌ تبدأُني بالسلام،
أصفّفُ أمامَها ارتباكي طوالَ المساء،
ألقي بها على شاشةِ الفجرِ كصحنٍ فارغٍ من الدهشة.
كمنجةٌ من خشبِ الصمتِ،
نايٌ من حريرِ الدموعِ،
امرأة تسيلُ عليَّ كمطرٍ على نافذة.

للكلمات مغزى، ولخيوطها تشكيلات المعنى التي يكون للشاعر أحقية فكّ شيفرتها، غير محتكر لتأمل قد يجوسه قارئ أو متذوق حرف، وأنا هنا أحاول تلقف البوح الذي يُداري نفسه، مخافة افتضاح القصد أو انكشاف ما أُريد له السّتر.
بدأ الشاعر لحن كتابته بفعل "أتوق" وهو فعل يزاحم الشوق، بل ويلكزه للخلف، معلنا اجتيازه، ليعبر عن الحالة الشعورية التي تلازم وجدانه، وعلة اختيار "التوق" لا الشوق -في تقديري- هو فقدان الحضور الزمني القريب لآلة موسيقى، فكأن تنكيره لها؛ جعل من حالة التوق انفلاتا من حالة بائسة دون تخصيص لآلة بعينها.
آخذا بالاعتبار أن (تعزف لحنا) يتماثل مع تنكير (آلة موسيقى)، وصولا إلى استراحة بوح، شاء الشاعر التخصيص في قوله (الحروف)!
وهذا مردّه محاولة الإسراع في إنفاذ الحالة، خوف أن تتقهقر حالة التوق إلى قليل شغف، ومن ثم عدم انصياع الجملة لسياق المراد لها.
لكن الشاعر لعب في مسار وصفه؛ معالجة تنكيره لاحقا بشيء من التخصيص، وهذا أنموذج لتركيبة منظمة بين تشابك وصفين؛ وصف صوتي؛ عبر عنه الشاعر بـ "كسر قشر البيض"، ووصف حسي غير مرئي في (رائحة تلامذة يرسبون من الذاكرة)!
وللحرف دلالات، فعندما يصف في مقتطفه (من الذاكرة) وليس (في الذاكرة)؛ نحس أن فعل الرسوب كان إجبارا ودون اختيار فعلي، وإلا لكان الطبيعي أن يكون (في الذاكرة)!
ولأجل أن ينشّط الشاعر قصيدته؛ أعاد ذكر "آلة موسيقى" بنفس مسار التنكير والخروج منها بالتخصيص في "النص"و "السلام".
وفي مقطع آخر يستخدم فعل "أصفف" والذي جاء متناسقا مع الفعل الأول "أتوق"، لكنه في ذات الوقت لم يفقد شغفه، وهذا ما نلاحظه بقوله (طوال المساء) وهو وصف استمرار مقتدر، بمعنى أن حالة التوق ما زالت ملازمة للفعل، دون فقد الشغف، ولم يكن ارتباكه إلى لحظة فارقة في الانتقال ما بين فعليّ "أتوق"و"أصفف"!
ولأنها لحظة الحسم في الانتقال، وهي لحظة يمكن ألا تتكرر، نثر الشاعر فعله الأخير على استعجال، ليس استعجالا في النتيجة، بل هو فعل الاستعجال لعدم فقد الحالة المتكاملة ضمن انتقالية سلسة بين الفعلين السابقين، في مسار يكون فيه الفعل "ألقي" تكوينا للصورة التخيلية التي ينتج عنها وصف "الدهشة"!
وفي تحريك لقطع من شطرنج ناصر رباح؛ أوجز قصيده باستخدام آلتين موسيقيتين، كمنجة وناي، واختار الوصف المناسب لهما،

كمنجةٌ من خشبِ الصمتِ،
نايٌ من حريرِ الدموعِ،
ذاك لأن الكمنجة في تركيبتها ذات قوام معقد، فاختار كلمة "خشب" والتي تختص بالصوت حين تشابكها بفعل حركي بنتيجة صوتية، وألحقها بكلمة "صمت"، وهنا عمل على تزاوج تضادين في الحركة وعدمها!
ومابين خشب الصمت وحرير الدموع، لم يجد الشاعر إلا أن يختم قصيده بفاكهة البيان؛ رائحة أنثوية، ولا بد أن تكون بقوله:

امرأة تسيلُ عليَّ كمطرٍ على نافذة
صورة لئيمة تجعلنا نرفع حاجبا، لنحس بهذه الصورة الجميلة، والتي فيها استخدم ناصر رباح في أولها صاعق قنبلة (امرأة تسيلُ عليُ)، وفي نفس الوقت أبطل مفعول الصاعق (كمطر على نافذة)، فأعاد دفة التصوير لبرّ أمان، لن يقتنع الكثيرون بأن ما خطّه في صورته، يُجانب في قصده البراءة!

الكاتب: طلعت قديح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى