مقال رقم (١٩) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..
لا تنفصل مكانة اللغة في حياة الشعوب عن أي من المقومات الأخرى لوجودها واستمرارها، لذا كان صعودها وهبوطها بين الناس مؤشراً على الحالة التي تعيشها المجتمعات ومحل نقاشٍ بين مختلف فئاتها، فنسمع من وقت لآخر أو نطالع بشكلٍ سريع عبر مواقع الإنترنت ووسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الإجتماعي فقرات أو تقارير عن أصول الكلمات ومعانيها، بحيث تقارن الكلمات العامية بنظيراتها في اللغة العربية الفصحى أو اللغات القديمة التي كان يتحدثها كل بلد ومنطقة على امتداد بلادنا، وأحياناً تتم المقارنة مع لغاتٍ أجنبية اشتقت بعضاً أو عدداً لا بأس به من مفرداتها من اللغة العربية حيث انتقلت مع التجارة والبضائع والعلوم أو جاءت من الإحتكاك المباشر في زمن الإستعمارات الغربية لأرضنا، فكانت اللغة أكبر من مجرد وسيلة تواصل بين الناس لأنها تشير إلى مستوى التربية والتحضر والثقافة والخلق بمعزلٍ عن التعليم، ليس على مستوى فردي بل على مستوى المجتمعات ككل، فنلحظ أن المجتمعات القوية تعتز بلغتها وهويتها التي تساهم في صنع هيبتها وصورتها الخارجية، ويعد تراجع اهتمامها بها حتى على صعيد اللهجات المحلية لكل بلد مؤشراً خطيراً على تدهورٍ اجتماعي وأخلاقي وثقافي (خاصةً بين المراهقين والشباب)..
وكجزء من تراجع مجتمعاتنا تراجع اهتمامها بلغتها وتم تسويق الأعذار السخيفة حول صعوبة اللغة العربية وعدم مرونتها مع أن الكثير من غير العرب أتقنوها أكثر منهم سواءاً كانوا فرساً أم أكراداً أم أمازيغاً أم من الجالية الأرمينية الكريمة، وأفرز هذا التراجع عموماً في بعض الأوساط أصواتاً اهتمت بتعلم اللغات الأجنبية دون اهتمامٍ باللغة الأم، وأفرز في أوساطٍ ثقافية أخرى محاولةً لإعتماد اللهجات المحلية كبديل على حساب اللغة العربية الفصحى، وهو مالم ينجح أو يستمر إلاّ على نطاق ضيق جداً لعدم امتلاك اللهجات رغم جمالها مقومات اللغة وفرداتها، فربط البعض اللغة العربية بقضايا سياسية تارةً ودينية تارةً أخرى، بحيث يربط البعض (في مخيلته) اللغة العربية بالدين الإسلامي حصراً أو بالجماعات المتطرفة (وهو غير صحيح)، فاستقرت في أذهان البعض عدد من الأفكار الوافدة عبر الإستعمار والتي تحاول زرع الفتن بطرقٍ عدة لتفتيت مجتمعاتنا واللغة أحدها..
كون نخبةٍ من أسماء المسيحيين العرب بشكلٍ خاص أو بقية الثقافات التي تستحق جميعها التقدير والإحترام أبدعت وتألقت وجددت في اللغة العربية وأعطتها روحاً وبعداً آخر غير مسبوق أبرز مقدرتها على التجدد والتطور والإستيعاب عكس ما يشاع، وأكد أنهم جزءٌ من هذه الثقافة وليسوا طارئين عليها فأعطوها كما أعطتهم ومنهم بطرس البستاني، أنستاس الكرملي، ناصيف اليازجي، ابراهيم اليازجي، سعيد الخوري الشرتوني، جبور عبد النور، جبران مسعود.. وغيرهم.. ولا ننسى من شعراء الأكراد أسماء عظيمة مثل أحمد شوقي ومعروف الرصافي، أو أسماءاً أمازيغية فريدة مثل ابن رشد وابن منظور..
وبما أننا نتحدث عن اللغة العربية وأهميتها
وحتى أهمية لهجاتها المحلية سنلحظ أن هذه اللغة بدأت تشهد تحولاً بشكل واضح وثابت بعد أن كانت مجرد ظواهر متفرقة وعابرة في عقودٍ سابقة ولفئاتٍ محدودة، حيث لم تجد حاضنة اجتماعية تضمن لها الإستمرار إلاّ عقب هزيمة عام ١٩٦٧ أمام العدو الصهيوني، وهو ما أحدث العديد من المتغيرات الإجتماعية عقب التحولات السياسية والإقتصادية الكبرى التي شهدتها المنطقة والعالم، فأدى إلى ظهور موجات جديدة في الفن سواءاً كان ذلك في السينما أو ما يسميه البعض بالغناء الشعبي، وأثرت تدريجياً على لغة الناس في حياتهم اليومية وارتبط صعودها (بالحرية والثورة الجنسية) التي اجتاحت العالم، حيث كانت محل هجوم وانتقاد واسع من كبار الكتاب والمثقفين والشعراء والفنانين والموسيقيين واتهموها بإفساد الذوق العام، ورغم اقتران تدني اللغة بكل ماهو هابط إلا أن دخول عقد التسعينيات اخذ الأمور إلى منحىً خطير ومختلف، كون ادراك المشاهد والمواطن والفنان العادي سابقاً أنها أحد الأشكال والإفرازات الرديئة للواقع وكان الكثيرون يرفضون التعامل مع هذه الإنتاجات على أنها فن، لكن مع حدوث التحول في سوق الإنتاج الفني وتراجع الأعمال الجادة أو النصوص القيمة لصالح (السينما الشبابية) وما يوازيها من أعمال، والتي تحولت بالنسبة إلى الكثير من المنتجين إلى دجاجة تبيض ذهباً، ظهر بسببها جيل جديد من الوجوه الفنية في مختلف المجالات أراد حسب اعتقاده (مغازلة الشعب ورجل الشارع)، فتبنى المصطلحات السوقية والقيم المرتبطة بها وأسماها بغير أسمائها (كالعفوية والبساطة والبعد عن التعقيد) بدلاً من تبني قضايا الناس للحصول على (النجاح والنجومية) وتنازل الكثيرون عن دورهم في تقديم أعمال ذات معنى..
.
فتسيد هذا النموذج والذي روج أيضاً بدوره
للغة الشارع والتي لم تأتي منفردة بل اتصلت بثقافة تعاطي المخدرات والبلطجة وتقديم الإيحاءات الجنسية بشكل مستمر، والتي صعدت بالتوازي مع موجة الأغنيات العارية والمثيرة التي سيتم الحديث عنها لاحقاً، وأصبحت هذه اللغة هي لغة العصر حتى عبر شاشات السينما، فأسهمت في تغييب عقول شباب اليوم وهو ما جعل من الصعب على الأسرة أن تجتمع معاً لحضور هذه النوعية من الأعمال التي اكتسحت الشاشات، وتسبب في التباعد الأسري قبل التباعد الذي فرضته جائحة الكورونا بكثير..
وللأسف فإن التدني يشبه كرة الثلج التي تكبر وتكبر دون أن نستطيع إيقافها، فقد تزامنت السنوات العشرون الأخيرة في نسبة كبيرة (آخذة في التزايد) من أفلام البلدان العربية دون استثناء مع تكريس حضور جميع الكلمات الساقطة والبذيئة ضمن الحوار، والتي تحتوي على الكثير من الفحش والعنف والتهديد بالقتل والتجديف وسب الأديان والعنصرية واحتقار المرأة التي نسمعها في الشوارع وتم نقلها إلى شاشات السينما، وتحت نفس الذرائع التافهة وهي (أن الناس تقول هذه الكلمات في الواقع)، ولا ندري فعلاً لماذا تتخذ الواقعية في بلادنا خاصةً في السنوات الأخيرة أبعد الأشكال عن الواقع ولا تتركز إلاّ في ما هو هابط وتجاري وجنسي، ولماذا كل هذا الآن رغم مرور أكثر من قرن على دخول اختراع السينما لبلادنا والذي لم نشهد فيه استخدام هذه الألفاظ سوى مؤخراً رغم تقديم أعمال ومواضيع بالغة الجرأة من قبل..
فبعد أن كان الناس يتعلمون الجمال والرقي من الفنون بات الكثير من صناعها على استعداد لعمل أي شيء لتحقيق الشهرة والمال، وهذا ما راكم الوضع الحالي خاصةّ في غياب المحاسبة،
وهو ما يجعلنا نرى أن تدني اللغة ليس منفصلاً عن التدني في مختلف جوانب الحياة بل ويتصل بها اتصالاً وثيقاً، وهو ما علينا مراجعته شكلٍ بحزم لأن الأمم لا تنهار فجأة ولأن لغتها هي أهم المداخل إليها..
خالد جهاد
لا تنفصل مكانة اللغة في حياة الشعوب عن أي من المقومات الأخرى لوجودها واستمرارها، لذا كان صعودها وهبوطها بين الناس مؤشراً على الحالة التي تعيشها المجتمعات ومحل نقاشٍ بين مختلف فئاتها، فنسمع من وقت لآخر أو نطالع بشكلٍ سريع عبر مواقع الإنترنت ووسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الإجتماعي فقرات أو تقارير عن أصول الكلمات ومعانيها، بحيث تقارن الكلمات العامية بنظيراتها في اللغة العربية الفصحى أو اللغات القديمة التي كان يتحدثها كل بلد ومنطقة على امتداد بلادنا، وأحياناً تتم المقارنة مع لغاتٍ أجنبية اشتقت بعضاً أو عدداً لا بأس به من مفرداتها من اللغة العربية حيث انتقلت مع التجارة والبضائع والعلوم أو جاءت من الإحتكاك المباشر في زمن الإستعمارات الغربية لأرضنا، فكانت اللغة أكبر من مجرد وسيلة تواصل بين الناس لأنها تشير إلى مستوى التربية والتحضر والثقافة والخلق بمعزلٍ عن التعليم، ليس على مستوى فردي بل على مستوى المجتمعات ككل، فنلحظ أن المجتمعات القوية تعتز بلغتها وهويتها التي تساهم في صنع هيبتها وصورتها الخارجية، ويعد تراجع اهتمامها بها حتى على صعيد اللهجات المحلية لكل بلد مؤشراً خطيراً على تدهورٍ اجتماعي وأخلاقي وثقافي (خاصةً بين المراهقين والشباب)..
وكجزء من تراجع مجتمعاتنا تراجع اهتمامها بلغتها وتم تسويق الأعذار السخيفة حول صعوبة اللغة العربية وعدم مرونتها مع أن الكثير من غير العرب أتقنوها أكثر منهم سواءاً كانوا فرساً أم أكراداً أم أمازيغاً أم من الجالية الأرمينية الكريمة، وأفرز هذا التراجع عموماً في بعض الأوساط أصواتاً اهتمت بتعلم اللغات الأجنبية دون اهتمامٍ باللغة الأم، وأفرز في أوساطٍ ثقافية أخرى محاولةً لإعتماد اللهجات المحلية كبديل على حساب اللغة العربية الفصحى، وهو مالم ينجح أو يستمر إلاّ على نطاق ضيق جداً لعدم امتلاك اللهجات رغم جمالها مقومات اللغة وفرداتها، فربط البعض اللغة العربية بقضايا سياسية تارةً ودينية تارةً أخرى، بحيث يربط البعض (في مخيلته) اللغة العربية بالدين الإسلامي حصراً أو بالجماعات المتطرفة (وهو غير صحيح)، فاستقرت في أذهان البعض عدد من الأفكار الوافدة عبر الإستعمار والتي تحاول زرع الفتن بطرقٍ عدة لتفتيت مجتمعاتنا واللغة أحدها..
كون نخبةٍ من أسماء المسيحيين العرب بشكلٍ خاص أو بقية الثقافات التي تستحق جميعها التقدير والإحترام أبدعت وتألقت وجددت في اللغة العربية وأعطتها روحاً وبعداً آخر غير مسبوق أبرز مقدرتها على التجدد والتطور والإستيعاب عكس ما يشاع، وأكد أنهم جزءٌ من هذه الثقافة وليسوا طارئين عليها فأعطوها كما أعطتهم ومنهم بطرس البستاني، أنستاس الكرملي، ناصيف اليازجي، ابراهيم اليازجي، سعيد الخوري الشرتوني، جبور عبد النور، جبران مسعود.. وغيرهم.. ولا ننسى من شعراء الأكراد أسماء عظيمة مثل أحمد شوقي ومعروف الرصافي، أو أسماءاً أمازيغية فريدة مثل ابن رشد وابن منظور..
وبما أننا نتحدث عن اللغة العربية وأهميتها
وحتى أهمية لهجاتها المحلية سنلحظ أن هذه اللغة بدأت تشهد تحولاً بشكل واضح وثابت بعد أن كانت مجرد ظواهر متفرقة وعابرة في عقودٍ سابقة ولفئاتٍ محدودة، حيث لم تجد حاضنة اجتماعية تضمن لها الإستمرار إلاّ عقب هزيمة عام ١٩٦٧ أمام العدو الصهيوني، وهو ما أحدث العديد من المتغيرات الإجتماعية عقب التحولات السياسية والإقتصادية الكبرى التي شهدتها المنطقة والعالم، فأدى إلى ظهور موجات جديدة في الفن سواءاً كان ذلك في السينما أو ما يسميه البعض بالغناء الشعبي، وأثرت تدريجياً على لغة الناس في حياتهم اليومية وارتبط صعودها (بالحرية والثورة الجنسية) التي اجتاحت العالم، حيث كانت محل هجوم وانتقاد واسع من كبار الكتاب والمثقفين والشعراء والفنانين والموسيقيين واتهموها بإفساد الذوق العام، ورغم اقتران تدني اللغة بكل ماهو هابط إلا أن دخول عقد التسعينيات اخذ الأمور إلى منحىً خطير ومختلف، كون ادراك المشاهد والمواطن والفنان العادي سابقاً أنها أحد الأشكال والإفرازات الرديئة للواقع وكان الكثيرون يرفضون التعامل مع هذه الإنتاجات على أنها فن، لكن مع حدوث التحول في سوق الإنتاج الفني وتراجع الأعمال الجادة أو النصوص القيمة لصالح (السينما الشبابية) وما يوازيها من أعمال، والتي تحولت بالنسبة إلى الكثير من المنتجين إلى دجاجة تبيض ذهباً، ظهر بسببها جيل جديد من الوجوه الفنية في مختلف المجالات أراد حسب اعتقاده (مغازلة الشعب ورجل الشارع)، فتبنى المصطلحات السوقية والقيم المرتبطة بها وأسماها بغير أسمائها (كالعفوية والبساطة والبعد عن التعقيد) بدلاً من تبني قضايا الناس للحصول على (النجاح والنجومية) وتنازل الكثيرون عن دورهم في تقديم أعمال ذات معنى..
.
فتسيد هذا النموذج والذي روج أيضاً بدوره
للغة الشارع والتي لم تأتي منفردة بل اتصلت بثقافة تعاطي المخدرات والبلطجة وتقديم الإيحاءات الجنسية بشكل مستمر، والتي صعدت بالتوازي مع موجة الأغنيات العارية والمثيرة التي سيتم الحديث عنها لاحقاً، وأصبحت هذه اللغة هي لغة العصر حتى عبر شاشات السينما، فأسهمت في تغييب عقول شباب اليوم وهو ما جعل من الصعب على الأسرة أن تجتمع معاً لحضور هذه النوعية من الأعمال التي اكتسحت الشاشات، وتسبب في التباعد الأسري قبل التباعد الذي فرضته جائحة الكورونا بكثير..
وللأسف فإن التدني يشبه كرة الثلج التي تكبر وتكبر دون أن نستطيع إيقافها، فقد تزامنت السنوات العشرون الأخيرة في نسبة كبيرة (آخذة في التزايد) من أفلام البلدان العربية دون استثناء مع تكريس حضور جميع الكلمات الساقطة والبذيئة ضمن الحوار، والتي تحتوي على الكثير من الفحش والعنف والتهديد بالقتل والتجديف وسب الأديان والعنصرية واحتقار المرأة التي نسمعها في الشوارع وتم نقلها إلى شاشات السينما، وتحت نفس الذرائع التافهة وهي (أن الناس تقول هذه الكلمات في الواقع)، ولا ندري فعلاً لماذا تتخذ الواقعية في بلادنا خاصةً في السنوات الأخيرة أبعد الأشكال عن الواقع ولا تتركز إلاّ في ما هو هابط وتجاري وجنسي، ولماذا كل هذا الآن رغم مرور أكثر من قرن على دخول اختراع السينما لبلادنا والذي لم نشهد فيه استخدام هذه الألفاظ سوى مؤخراً رغم تقديم أعمال ومواضيع بالغة الجرأة من قبل..
فبعد أن كان الناس يتعلمون الجمال والرقي من الفنون بات الكثير من صناعها على استعداد لعمل أي شيء لتحقيق الشهرة والمال، وهذا ما راكم الوضع الحالي خاصةّ في غياب المحاسبة،
وهو ما يجعلنا نرى أن تدني اللغة ليس منفصلاً عن التدني في مختلف جوانب الحياة بل ويتصل بها اتصالاً وثيقاً، وهو ما علينا مراجعته شكلٍ بحزم لأن الأمم لا تنهار فجأة ولأن لغتها هي أهم المداخل إليها..
خالد جهاد