خالد جهاد - صلاح چاهين.. روح حلقت بالفن والإنسانية

الجزء الأول..

تتضائل الكلمات وتتقزم الأبجدية عند الحديث عن أيقوناتٍ أثرت الذاكرة والوجدان وتحول عطاؤها إلى تراثٍ يحكي حياة الشعوب، فكان صوتهم ورفيق دربهم.. صانع بهجتهم، قنديل عتمتهم وفيلسوف وجعهم الذي أضاف المعنى إلى خواء الكلمات، وأضفى مسحةً من الذوق والأناقة وخفة الظل على اللهجة العامية، ورفع الإحساس بمعنى أن تقدم فناً وأدباً شعبياً بسيطاً متشبعاً بالصور والأفكار الذكية التي استطاعت أن تعيش لسنوات بعد رحيل صاحبها.. الفنان المصري المتفرد صلاح چاهين..

وُلد صلاح جاهين في شارع جمال باشا في حي شبرا في القاهرة بتاريخ ٢٥ كانون الأول/ديسمبر عام ١٩٣٠، وقد كان والده (بهجت حلمي) يشغل منصب رئيس محكمة استئناف في المنصورة، وكانت أول خطوةٍ لوالده ضمن السلك القضائي بمنصب وكيل نيابة، ونظرًا لذلك فقد كانت عائلته كثيرة التنقل والترحال لمدة أكثر من ١٢ عاماً، فتأثر جاهين بعمل والده كقاضي يجوب المحافظات المختلفة في معرفته بأنماط الحياة واللهجات المتعددة في مصر، ولم ترد الكثير من المعلومات عن طفولة صلاح چاهين التي كانت تتسم بالهدوء والبراءة، إلاّ أنه قيل أن رباعيات الخيام ترددت في أصداء بيته منذ الطفولة المبكرة فاستقرت في وجدانه، ولذلك حاول جاهين لاحقاً عندما بدأ في كتابتها أن يستخدم قالب الرباعية على نمط قصيدة العامية المصرية ليؤكد الحضور المتميز لهذا القالب الشعري بلغته التي تتوسط بين العامية والفصحى من خلال صوره الشعرية الجميلة التي تحض على التأمل والتفكير، والرباعية قالب شعري يرجع إلى أصولٍ فارسية، انتقل إلى الشعر العربي الحديث وأصبح من فنونه الذائعة الصيت، ومن القصص الغريبة عن فنان متعدد المواهب مثله هو أنه كان ينال بإستمرار درجاتٍ ضعيفة في مادة الرسم، والتي كانت تدفع الأساتذة إلى إرسال رسائل تتذمر من مستواه الضعيف إلى والده حتى قرر أحد المعلمين في المرحلة الثانوية أن يضمه إلى إحدى مجموعات تعليم الرسم، فوافق من باب التسلية وهناك طلب منه رسم أي مشهد يختاره من أحد الروايات وهو ما حدث بالفعل، ولكنه كان بمثابة ولادةٍ جديدة له كرسام مختلف سيكون له شخصيته الخاصة في الرسم الكاريكاتوري في سنٍ متأخرة..

كتب أولى قصائده عام ١٩٣٦ في رثاء الشهداء مظاهرات الطلبة في المنصورة ولم تظهر للعلن، كما درس صلاح چاهين الفنون الجميلة إلا أنّ عمل والده أثر فيه كثيرًا فتخلى عنها لينخرط بدراسة الحقوق بناءً على رغبة والده، لكنه بدأ حياته العملية فى جريدة (بنت النيل) عام ١٩٥٢، ثم انتقل بعدها إلى (جريدة التحرير) وفي تلك الفترة أصدر أول دواوينه (كلمة سلام) عام ١٩٥٥، وهو نفس العام الذي تزوج فيه من زميلته سوسن محمد زكي التي كانت تعمل معه في (دار الهلال) وأنجبا (أمينة) وأحمد بهاء (بهاء) الذي سماه خلفًا للكاتب أحمد بهاء الدين، وقد حملت الأعمال الشعرية التي قدمها الطابع العامي الشعبي لكي تصل لجميع فئات الشعب، كما نشر معظمها باللهجة العامية المصرية حيث قال نجله بهاء چاهين (إن اختيار چاهين للعامية ليس مجرد تأكيد للإنحياز للفقراء وغير المتعلمين وإنما لإثبات صحة فرضية بعينها، وهي أن اللغة العامية قادرة على أن تعبر فنيًا بشكلٍ راقٍ كما تستطيع الفصحى أو أي لغةٍ أخرى)..كما أن صلاح جاهين هو من أطلق مصطلح شعر العامية المصرية للتمييز بينه وبين الزجل (يقصد هنا الزجل المصري وهو مختلف عن الزجل في بلاد الشام أو الدول المغاربية)، وكان يقصد به الشعر الوجداني العميق الذي يتناول كل المواضيع والأحاسيس والأفكار التي يتناولها شعر الفصحى..

وتزامن منتصف حقبة الخمسينيات وهي السنوات التي بدأت تشهد زخم إنتاجه وصعود نجمه وتعدد مواهبه مع بدأ شهرته كرسامٍ كاريكاتوري في مجلة (روز اليوسف)، ثم في مجلة (صباح الخير) التى شارك فى تأسيسها عام ١٩٥٧ مع عددٍ من الأسماء المصرية اللامعة في عالم الصحافة والأدب، واشتهرت شخصياته الكاريكاتورية مثل قيس وليلى، قهوة الصباح، الفهامة، درش وغيرها من الشخصيات، كما أصدر في نفس العام عمله الشعري الهام ( موال عشان القنال)..
.

وفي نهاية الخمسينيات عام ١٩٥٩ بدأ چاهين بكتابة إحدى أهم العلامات الفارقة في مسيرته، ألا وهي (الرباعيات) على صفحات مجلة (صباح الخير) أسبوعياً على غرار رباعيات الخيام الشهيرة، وقد كتب أولى رباعيته بعد اعتقال أستاذه الشاعر الكبير (فؤاد حداد) الذي آمن به أكثر مما آمن بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والتي تزوجت ابنته الكبرى أمينة لاحقاً من نجله (أمين حداد)، فحققت آنذاك نجاحاً كبيراً حيث باعت عند صدورها ضمن كتاب عام ١٩٦٣ أكثر من ١٢٥,٠٠٠ نسخة خلال أيامٍ معدودة ونفذت جميع نسخها، فلفتت الأنظار إليها وجعلتها في مرتبةٍ إنسانية ووجدانية متميزة حيث كان الصدق والشفافية أبرز سماتها، وقد حاول الكثيرون استنساخها وتقليدها وختم أشعارهم بكلمة (وعجبي) لكي تنسب إلى صلاح چاهين لكن أبنائه نفوا كل تلك النصوص ووضحوا أن استخدام حرف الواو ليس من أسلوب والدهم حيث كان ينهي كلامه بكلمة (عجبي) مباشرةً ومن بعض ما قيل فيها..

مع إن كل الخلق من أصل طين..
وكلهم بينزلوا مغمضين..
بعد الدقايق والشهور والسنين..
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين..
عجبي!!!

يا باب يا مقفول... إمتى الدخول..
صبرت ياما واللي يصبر ينول..
دقيت سنين والرد يرجع لي: مين؟
لو كنت عارف مين انا كنت أقول..
عجبي!!!

ليه يا حبيبتى ما بيننا دايما سفر..
ده البعد ذنب كبير لا يغتفر..
ليه يا حبيبتى ما بيننا دايما بحور..
أعدى بحر ألاقى غيره اتحفر..
عجبى !!!

نوح راح لحاله و الطوفان استمر..
مركبنا تايهه لسه مش لاقيه بر..
آه م الطوفان وآهين يا بر الأمان..
إزاى تبان و الدنيا غرقانه شر..
عجبى !!

وقد قام الملحن (سيد مكاوي) بتلحين عدد من رباعيات صلاح جاهين، وقدمها بصوته الفنان الكبير (علي الحجار)، وبشكل عام شهدت حقبة الستينيات زخماً كبيراً في مسيرة شاعرنا، وكما كانت (الرباعيات) من أهم أعماله إلاّ أن الأول من أيار/ مايو عام ١٩٦١ شهد العرض الأول لأشهر أوبريت غنائي قدمه مسرح (العرائس) أو الدمى في تاريخ مصر بعنوان (الليلة الكبيرة)، والذي يصف المولد الشعبي بشكل بديع وممتع وسلس، من خلال شخصيات: (الأراجوز - بائع الحمص - بائع البخت - القهوجي - المعلم - العمدة - الراقصة - مدرب الأسود - الأطفال - المصوراتي - معلن السيرك - المنشد - الفلاح)، والذي تم تصويره بالألوان لصالح التلفزيون المصري في مطلع الثمانينات، وقام بتلحينه الموسيقار سيد مكاوي، وكان الأستاذ ناجي شاكر هو المسؤول عن (العرائس) أو الدمى،
وقام بإخراج العمل مسرحياً صلاح السقا، كما قام بإخراجه تليفزيونياً محمود بيومي.. وغنى فيه صلاح چاهين نفسه إلى جانب الموسيقار سيد مكاوي والمطربة هدى سلطان وأسماء بارزة في الغناء الشعبي مثل شفيق جلال ومحمد رشدي وأيضاً مع عبده السروجي، حورية حسن، إسماعيل شبانة، شافية أحمد..

كما وصدر له ديوان (قصاقيص ورق) عام ١٩٦٥، ولم يقاوم المخرجون في ذلك الوقت موهبة صلاح الكبيرة وأدخلوه في عالم الفن كممثل أيضًا، فقد شارك في عددٍ كبيرٍ من الأعمال الفنية ومن أهمها: أفلام (من غير ميعاد)،(شهادة الحب الإلهي) و(اللص والكلاب) عام ١٩٦٢، وفيلمي (القاهرة) و (لا وقت للحب) عام ١٩٦٣، و(المماليك) عام ١٩٦٥، وكان للنجاح عند چاهين رؤية أشار لها نجله بهاء چاهين وهي ألا يكرر الفنان نجاحه، بمعنى أن ينسى بعد كل نجاح الوصفة الفنية التى حقق من خلالها التفوق، لينتقل إلى بداية جديدة تنقله إلى نقطة مختلفة تمامًا فى مسيرة عطائه..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى