* (إلى الأستاذ نجيب العوفي ناقدا بارعا وصديقا طيبا متميزا)
الجو غائم، ويوحي أن هذا اليوم سوف يكون ممطرا.. البحر هائج.. أمواجه تتلاطم على صخور شاطئه حتى يخيل للمرء أن الطوفان.. يقول لنفسه إنه سوف يكون ذلك شيئا فظيعا، إذا حدث، وسفينة نوح لم يعد لها أثر.. يقرر أن يقضي كل هذا اليوم على الشاطئ كي يشبع من رؤية البحر.. هذا اليوم، فقط، هو الذي يفصله عن بداية الرحلة، فقد قرر، منذ أسبوع، أن يشارك صديقيه رحلتهما، عبر القطار، من هنا، إلى تلك المدينة الرائعة، الواعدة بالعيش الرغيد، والتي طالما سمعوا عنها أشياء غريبة ومثيرة… يضع، الآن، فوطته على صخرة نائية عن البشر… لعله يريد أن يخلو بنفسه قليلا كي يعيش بعض لحظاته لوحده : صحيح أن الإنسان يحتاج، من حين لآخر، إلى أن يخصص بعض اللحظات للخلو بالذات، كيفما كان جنسه، سواء أكان أبيض، أو أصفر، أو أسود، أو حتى بنفسجيا أو برتقاليا إن وجد… هو، الآن، إذن، بعيد جدا عن البشر إلي درجة صاروا يبدون له معها صغارا في حجم النمل، باستثناء صياد لا يبعد عنه سوى حوالي مائة أو مائة وخمسين مترا، في يده قصبته التي رمى بصنارتها في البحر عساها تصطاد له بضع أسماك تؤمن له ولأفراد أسرته عشاء الليلة… يجلس على فوطته… يتناول الجريدة، ويقرأ عناوين صفحتها الأولى بحركات سريعة من عينيه، فيشده عنوان، غليظة حروفه، يشير إلى أن التفاصيل توجد بالصفحة الخامسة… يقلب أوراق الجريدة حتى يعثر على التفاصيل المعينة، فيشرع في قراءتها بهدوء…
… يضع الجريدة على الفوطة، ويضع على الفوطة حجرا صغيرا حتى لا تبعثرها الريح الخفيفة والباردة التي تهب الآن… ينظر إلى البحر الذي ما تزال أمواجه تتلاطم على صخور شاطئه حتى يخيل للمرء أنه الطوفان… يفكر في أن يسبح قليلا، لكنه يعدل عن فعل ذلك الآن… السباحة في ظل جو هذا اليوم مستحيلة، وسوف تكون مغامرة حقيقية تنتهي بموت حتمي… لا يزال يتذكر فؤاد، ابن الجيران، الذي تراهن مع أحدهم على أن يسبح في مثل جو هذا اليوم، وأن يتحدى أهوال البحر، فكان مصيره الموت غرقا… والمصيبة أن البحر متحرك ومتقلب المزاج، ولا يعثر على مكامن ضعفه سوى البحارة الرجال، ذوي الخبرة والمعرفة بشؤونه وأسراره… يقول، لنفسه، إذ ذاك الرجل الذي يجلس على مقربة منه وفي يده قصبته التي رمى بصنارتها في البحر ليس رجلا بكل ما تحمله الكلمة من معان… فأين كان يوم كان البحارة الرجال يتمرسون على معرفة مكامن ضعف البحر وعلى الصيد بالشباك في أعماقه؟؟؟ مصيره أن يظل، منذ شروق الشمس إلى غروبها، جالسا، مقوسا ظهره، في انتظار أن تجود عليه صنارته، وقد لا تجود، ببضع أسماك معدودات… يقول لنفسه هذا الكلام، ويقوم متحركا في اتجاه البيت…
… يخرج من البيت، هذا الصباح، وفي يده حقيبته… أمام الباب، قبل والدته التي أخذت تدعو الله أن يعود إليها بسلام… ينظر إلى ساعته اليدوية فيجد عقربها الطويل ممددا، في استراحة قصيرة، على النقطة العاشرة، ويجد رفيقه القصير ممددا، في استراحة طويلة، على النقطة السادسة… مدينته، في هذا الوقت، ما تزال خالية من الحركة، باستثناء بعض الحوانيت التي شرعت أبوابها في الانفتاح، وبائعي الحليب، والزبد، ونبات النعناع النازحين من البوادي المجاورة، والذين يصرخون فوق دوابهم بأسماء معروضاتهم… جل الناس ما يزالون نياما، وربما سوف ينهضون بعد ساعة، وينتشرون في الأرض، ويتوجه كل واحد منهم نحو مبتغاه… يقول لنفسه إن جمال مدينته يمتد من منتصف الليل إلى حدود مثل هذا الوقت… جمال مدينته مكتسب بفضل سكونها الليلي الذي لا تخترقه سوى بعض الصراخات النائية التي يطلقها، بين الفينة والأخرى، السكيرون والحشاشون ورواد الليل… يقول، لنفسه، هذا الكلام، ويصل إلى محطة القطار ليصاب بالاندهاش : أناس كثيرون يريدون ركوب نفس القطار الذي سيسافر عبره وصديقاه… يحجز تذكرة بصعوبة بالغة من شدة الزحام أمام شباك التذاكر، ويتوجه ناحية مقهى المحطة ليجد عبد الله وأحمد في انتظاره وبجانبهما حقيبتاهما الصغيرتان والمناسبتان لمدة الرحلة ومتطلباتها… يعاتبانه عن تأخره في المجيء، فيعتذر لهما ويؤكد، في نفس الوقت، أنه ما تزال تنتظرهم ساعة كاملة بدقائقها الستين كي يقلع القطار…
… تمر الساعة… يركبون ويصطفون، جالسين، بشكل أفقي، على أحد مقاعد القطار الخشبية المتسع لثلاثة أفراد فقط… سياسة العزلة - إذن - هي شعار رحلتهم… يفكر في الذين يجلسون في العربات الأمامية على مقاعد من الإسفنج الملفف بالجلد، ويتمنى لو أنه بينهم الآن، إلا أنه سرعان ما يعود إلى نفسه ليكتشف سقوطه بين شراك أحلام اليقظة، فيسخر من نفسه سرا حتى لا يثير فضول صديقيه فيسخران منه… هم، الآن، يتحدثون عن الرحلة، ويعبرون عن مدى سعادتهم لأنهم في الطريق إلى تلك المدينة التي طالما حلموا برؤيتها من كثرة سماعهم لأحاديث مسعود عنها وعن عجائبها، ويتمنون لو أنهم يمكثون هناك إلى الأبد، وألا يعودوا إلا إذا اقتضت الضرورة زيارة ذويهم والاطمئنان عليهم…
… يجتاز القطار مسافات طويلة… يصل، الآن، إلى المحطة الثالثة… يلتحق بالركاب ركاب آخرون، فيزداد الزحام، وينضاف الواقفون إلى الجالسين… يتساءل، مع نفسه، إن كان هؤلاء سوف يظلون واقفين إلى حدود المحطات التي ينوون النزول بها… ذلك سوف يرهقهم لا محالة… غير أنه سرعان ما يعود إلي نفسه، من جديد، ليقول إن الأمر لا يهمه ما دام جالسا على مقعد… الآن يدرك قيمة المقعد الخشبي الذي يجلس عليه وإن كان يؤلمه، شيئا ما، عند مؤخرته… يقول أحمد إنه منذ انطلاق القطار من محطة مدينتهم والرضيع الجالس، قبالتهم، في حضن أمه لا يريد أن يكف، بعد عن الرضاع… عجبا لرضع هذا العصر !!! لا يكفون عن امتصاص حليب أمهاتهم إلى درجة يكادون معها أن يبتروا أثداءهن عن صدورهن… تنتزع الأم ثديها من فمه فيصرخ… تتركه كذلك… يواصل صراخه فتضربه بلين آمرة إياه أن ينام… يواصل صراخه فتضطر الأم أن تعيد ثديها ناحية فمه…
… يصل القطار إلى محطة متوالية… يصعد ركاب جدد وينزل آخرون… لكن الذين ركبوا أكثر من الذين نزلوا، لذلك ازداد الزحام شدة، وانضاف إلى الواقفين والجالسين الممددون على الرفوف المخصصة لأمتعة الركاب… يتساءل، جهرا، عن سر إقبال الناس على ركوب هذا القطار تحديدا، ويقول إن الأمر قد يكون مجرد صدفة، لكن أحمد، الذي يوافقه عبد الله الرأي في كل شيء، يؤكد أن تلك المدينة تثير فضول كل من سمع عنها لرؤيتها، وتزيده رغبة في رؤيتها كلما سمع عنها من جديد… يقول إن كلام أحمد يحتمل الصواب مثلما يحتمل الخطأ… المهم أنه سوف يتوصل بالرد عن هذا السؤال بعد أن يجتاز القطار مسافات طويلة… يصل الآن، بالتحديد، إلى ما قبل الأخيرة، ولم يعد يتطلب منهم سوى صبر قليل كي يبلغوا المدينة التي طالما حلموا برؤيتها… يفاجئون بكل الركاب ينزلون بهاته المحطة مع أنها تابعة لمدينة صغيرة، ولربما هي قرية ومع ذلك يسمونها مدينة… يقول أحمد إنه يتمنى لو ينزل و يقضي الليلة هنا ليكتشف سر نزول كل الركاب، فيحثه عبد الله، الذي يوافقه الرأي في كل شيء، على النزول، كما لو أنه خلق ليفكر بدلا عنه… يصران، إذن، على النزول، ويصر على رفع التحدي، ومواصلة الرحلة…
… يصل القطار إلى تلك المدينة فيراها، من خلال النافذة، التي بجانبه، كلها خراب من أثر الزلزال الذي وقع ليلة البارحة، والذي لم يقرأ ولم يسمع عنه شيئا، لأن القطار لا يتوفر على مذياع ولا توزع به الجرائد، كما أن جهاز الاتصال بالربان كان معطوبا… يصاب برعب شديد، ويتمنى لو أنه نزل بالمحطة ما قبل الأخيرة… في هاته اللحظة، بالذات، التي يتمنى فيها ذلك، تحدث هزة أرضية جديدة وعنيفة… تنشق الأرض متوازية مع طول خط السكة الحديدي، ثم ينتهي كل شيء.
الجو غائم، ويوحي أن هذا اليوم سوف يكون ممطرا.. البحر هائج.. أمواجه تتلاطم على صخور شاطئه حتى يخيل للمرء أن الطوفان.. يقول لنفسه إنه سوف يكون ذلك شيئا فظيعا، إذا حدث، وسفينة نوح لم يعد لها أثر.. يقرر أن يقضي كل هذا اليوم على الشاطئ كي يشبع من رؤية البحر.. هذا اليوم، فقط، هو الذي يفصله عن بداية الرحلة، فقد قرر، منذ أسبوع، أن يشارك صديقيه رحلتهما، عبر القطار، من هنا، إلى تلك المدينة الرائعة، الواعدة بالعيش الرغيد، والتي طالما سمعوا عنها أشياء غريبة ومثيرة… يضع، الآن، فوطته على صخرة نائية عن البشر… لعله يريد أن يخلو بنفسه قليلا كي يعيش بعض لحظاته لوحده : صحيح أن الإنسان يحتاج، من حين لآخر، إلى أن يخصص بعض اللحظات للخلو بالذات، كيفما كان جنسه، سواء أكان أبيض، أو أصفر، أو أسود، أو حتى بنفسجيا أو برتقاليا إن وجد… هو، الآن، إذن، بعيد جدا عن البشر إلي درجة صاروا يبدون له معها صغارا في حجم النمل، باستثناء صياد لا يبعد عنه سوى حوالي مائة أو مائة وخمسين مترا، في يده قصبته التي رمى بصنارتها في البحر عساها تصطاد له بضع أسماك تؤمن له ولأفراد أسرته عشاء الليلة… يجلس على فوطته… يتناول الجريدة، ويقرأ عناوين صفحتها الأولى بحركات سريعة من عينيه، فيشده عنوان، غليظة حروفه، يشير إلى أن التفاصيل توجد بالصفحة الخامسة… يقلب أوراق الجريدة حتى يعثر على التفاصيل المعينة، فيشرع في قراءتها بهدوء…
… يضع الجريدة على الفوطة، ويضع على الفوطة حجرا صغيرا حتى لا تبعثرها الريح الخفيفة والباردة التي تهب الآن… ينظر إلى البحر الذي ما تزال أمواجه تتلاطم على صخور شاطئه حتى يخيل للمرء أنه الطوفان… يفكر في أن يسبح قليلا، لكنه يعدل عن فعل ذلك الآن… السباحة في ظل جو هذا اليوم مستحيلة، وسوف تكون مغامرة حقيقية تنتهي بموت حتمي… لا يزال يتذكر فؤاد، ابن الجيران، الذي تراهن مع أحدهم على أن يسبح في مثل جو هذا اليوم، وأن يتحدى أهوال البحر، فكان مصيره الموت غرقا… والمصيبة أن البحر متحرك ومتقلب المزاج، ولا يعثر على مكامن ضعفه سوى البحارة الرجال، ذوي الخبرة والمعرفة بشؤونه وأسراره… يقول، لنفسه، إذ ذاك الرجل الذي يجلس على مقربة منه وفي يده قصبته التي رمى بصنارتها في البحر ليس رجلا بكل ما تحمله الكلمة من معان… فأين كان يوم كان البحارة الرجال يتمرسون على معرفة مكامن ضعف البحر وعلى الصيد بالشباك في أعماقه؟؟؟ مصيره أن يظل، منذ شروق الشمس إلى غروبها، جالسا، مقوسا ظهره، في انتظار أن تجود عليه صنارته، وقد لا تجود، ببضع أسماك معدودات… يقول لنفسه هذا الكلام، ويقوم متحركا في اتجاه البيت…
… يخرج من البيت، هذا الصباح، وفي يده حقيبته… أمام الباب، قبل والدته التي أخذت تدعو الله أن يعود إليها بسلام… ينظر إلى ساعته اليدوية فيجد عقربها الطويل ممددا، في استراحة قصيرة، على النقطة العاشرة، ويجد رفيقه القصير ممددا، في استراحة طويلة، على النقطة السادسة… مدينته، في هذا الوقت، ما تزال خالية من الحركة، باستثناء بعض الحوانيت التي شرعت أبوابها في الانفتاح، وبائعي الحليب، والزبد، ونبات النعناع النازحين من البوادي المجاورة، والذين يصرخون فوق دوابهم بأسماء معروضاتهم… جل الناس ما يزالون نياما، وربما سوف ينهضون بعد ساعة، وينتشرون في الأرض، ويتوجه كل واحد منهم نحو مبتغاه… يقول لنفسه إن جمال مدينته يمتد من منتصف الليل إلى حدود مثل هذا الوقت… جمال مدينته مكتسب بفضل سكونها الليلي الذي لا تخترقه سوى بعض الصراخات النائية التي يطلقها، بين الفينة والأخرى، السكيرون والحشاشون ورواد الليل… يقول، لنفسه، هذا الكلام، ويصل إلى محطة القطار ليصاب بالاندهاش : أناس كثيرون يريدون ركوب نفس القطار الذي سيسافر عبره وصديقاه… يحجز تذكرة بصعوبة بالغة من شدة الزحام أمام شباك التذاكر، ويتوجه ناحية مقهى المحطة ليجد عبد الله وأحمد في انتظاره وبجانبهما حقيبتاهما الصغيرتان والمناسبتان لمدة الرحلة ومتطلباتها… يعاتبانه عن تأخره في المجيء، فيعتذر لهما ويؤكد، في نفس الوقت، أنه ما تزال تنتظرهم ساعة كاملة بدقائقها الستين كي يقلع القطار…
… تمر الساعة… يركبون ويصطفون، جالسين، بشكل أفقي، على أحد مقاعد القطار الخشبية المتسع لثلاثة أفراد فقط… سياسة العزلة - إذن - هي شعار رحلتهم… يفكر في الذين يجلسون في العربات الأمامية على مقاعد من الإسفنج الملفف بالجلد، ويتمنى لو أنه بينهم الآن، إلا أنه سرعان ما يعود إلى نفسه ليكتشف سقوطه بين شراك أحلام اليقظة، فيسخر من نفسه سرا حتى لا يثير فضول صديقيه فيسخران منه… هم، الآن، يتحدثون عن الرحلة، ويعبرون عن مدى سعادتهم لأنهم في الطريق إلى تلك المدينة التي طالما حلموا برؤيتها من كثرة سماعهم لأحاديث مسعود عنها وعن عجائبها، ويتمنون لو أنهم يمكثون هناك إلى الأبد، وألا يعودوا إلا إذا اقتضت الضرورة زيارة ذويهم والاطمئنان عليهم…
… يجتاز القطار مسافات طويلة… يصل، الآن، إلى المحطة الثالثة… يلتحق بالركاب ركاب آخرون، فيزداد الزحام، وينضاف الواقفون إلى الجالسين… يتساءل، مع نفسه، إن كان هؤلاء سوف يظلون واقفين إلى حدود المحطات التي ينوون النزول بها… ذلك سوف يرهقهم لا محالة… غير أنه سرعان ما يعود إلي نفسه، من جديد، ليقول إن الأمر لا يهمه ما دام جالسا على مقعد… الآن يدرك قيمة المقعد الخشبي الذي يجلس عليه وإن كان يؤلمه، شيئا ما، عند مؤخرته… يقول أحمد إنه منذ انطلاق القطار من محطة مدينتهم والرضيع الجالس، قبالتهم، في حضن أمه لا يريد أن يكف، بعد عن الرضاع… عجبا لرضع هذا العصر !!! لا يكفون عن امتصاص حليب أمهاتهم إلى درجة يكادون معها أن يبتروا أثداءهن عن صدورهن… تنتزع الأم ثديها من فمه فيصرخ… تتركه كذلك… يواصل صراخه فتضربه بلين آمرة إياه أن ينام… يواصل صراخه فتضطر الأم أن تعيد ثديها ناحية فمه…
… يصل القطار إلى محطة متوالية… يصعد ركاب جدد وينزل آخرون… لكن الذين ركبوا أكثر من الذين نزلوا، لذلك ازداد الزحام شدة، وانضاف إلى الواقفين والجالسين الممددون على الرفوف المخصصة لأمتعة الركاب… يتساءل، جهرا، عن سر إقبال الناس على ركوب هذا القطار تحديدا، ويقول إن الأمر قد يكون مجرد صدفة، لكن أحمد، الذي يوافقه عبد الله الرأي في كل شيء، يؤكد أن تلك المدينة تثير فضول كل من سمع عنها لرؤيتها، وتزيده رغبة في رؤيتها كلما سمع عنها من جديد… يقول إن كلام أحمد يحتمل الصواب مثلما يحتمل الخطأ… المهم أنه سوف يتوصل بالرد عن هذا السؤال بعد أن يجتاز القطار مسافات طويلة… يصل الآن، بالتحديد، إلى ما قبل الأخيرة، ولم يعد يتطلب منهم سوى صبر قليل كي يبلغوا المدينة التي طالما حلموا برؤيتها… يفاجئون بكل الركاب ينزلون بهاته المحطة مع أنها تابعة لمدينة صغيرة، ولربما هي قرية ومع ذلك يسمونها مدينة… يقول أحمد إنه يتمنى لو ينزل و يقضي الليلة هنا ليكتشف سر نزول كل الركاب، فيحثه عبد الله، الذي يوافقه الرأي في كل شيء، على النزول، كما لو أنه خلق ليفكر بدلا عنه… يصران، إذن، على النزول، ويصر على رفع التحدي، ومواصلة الرحلة…
… يصل القطار إلى تلك المدينة فيراها، من خلال النافذة، التي بجانبه، كلها خراب من أثر الزلزال الذي وقع ليلة البارحة، والذي لم يقرأ ولم يسمع عنه شيئا، لأن القطار لا يتوفر على مذياع ولا توزع به الجرائد، كما أن جهاز الاتصال بالربان كان معطوبا… يصاب برعب شديد، ويتمنى لو أنه نزل بالمحطة ما قبل الأخيرة… في هاته اللحظة، بالذات، التي يتمنى فيها ذلك، تحدث هزة أرضية جديدة وعنيفة… تنشق الأرض متوازية مع طول خط السكة الحديدي، ثم ينتهي كل شيء.