الحسين بوخرطة - أوجاع طفولة عربية بريئة قراءة في القصة القصيرة "هل تداوي الكتابةُ الطفولةَ الجريحة ؟" لعلي القاسمي

إنه النص الأخير للقاسمي في المجموعة القصصية "أوان الرحيل" الذي عنونه “هل تداوي الكتابةُ الطفولةَ الجريحةَ؟”. إنه سؤال مربك في موضوع شائك: سؤال تداوي الطفولة الجريحة بالكتابة من عدمه في عالمنا العربي؟ لقد بدأ المجموعة القصصية بما يشبه القصة “البحث عن قبر الشاعر عبد الوهاب البياتي”، والنص في عمقه يعبر بكل المقاييس على مقومات القصة الرائعة، وأنهاها بما يشبه الخاتمة، وهي بدورها قصة واقعية زاخرة بالدروس والعبر. القاسمي بمنهجيته هاته ربط ببراعة ما بين الواقع المعاش والخيال وتقنيات السرد للتعبير عن الدلالات والمقاصد الإنسانية المبهرة بأوصاف فنية خلابة ودقيقة ولغة رشيقة وشاعرية وأسلوب غاية في البساطة والسلاسة. توالت المشاهد المبهرة مجسدة الأحداث الخبرية بانية بسحر فتان العتبة والعقدة ثم القفلة. الشخصيات تتحدث وتنفعل بتأثر وتأثير عميق على الأنفس.

لقد سرد أحداثا وانفعالات شخصيات مؤثرة بحدة كبيرة على الذات القارئة. استأنف بداية الكتابة بعتبة مشوقة، مر إلى بناء العقدة بإتقان أخاذ جاعلا الجزء الوسطي مجالا لنمو الحدث وتطوره بإغراء ملفت. درامية مشاهد الانفعالات تكاثفت بسرعة بمنطق تأليب مشاعر القارئ وإدماجه القوي في مجريات الأحداث. قدم لنا القاسمي حبكة سردية حداثية امتزج فيها الحكي والمسرح وأدب السيرة وتقنيات المقالة، وتعمد إبراز عبارة "ما يشبه القصة/الخاتمة" لإيصال مراد رسائله الأدبية للقصاصين والنقاد والقراء على السواء.

القصة إذن حدث واقعي تخلل أحداث حياة الكاتب بالمغرب. تمت استضافته يوم أحد لإلقاء محاضرة استجابة لدعوة جمعية الشعلة بأيت اورير بضواحي مراكش.

بعدما قدم لنا الأخبار المؤطرة للحدث في استهلال القصة، استرسل منذ البداية في السرد المكثف بانتقاء كلمات سطور فقرة كاملة ليطلع القارئ عن سر اختياره لمدينة مراكش كفضاء استقرار خارج فصل الصيف. عبر عن نفسيته المأزومة كأديب ومفكر أضناه واقع فلسطين والشيشان والعراق: اختار مراكش في سياق مأساوي لعل هواءها الربيعي العليل، وشمسها الدافئة تبعث الراحة في فكره المتعب، ونفسه المنهكة، بسبب ما يتلقاه ويتابعه من أخبار مدمرة عن شعوب المنطقة العربية.

تصارع بدواخله من جهة حقه في الراحة والاستجمام جراء ما يضنيه من متاعب نفسية ومن جهة ثانية واجب عدم السكوت عن تراكم معارفه ومداركه وحرمان الأجيال من الاستفادة منها. لم يجد أي مبرر مقنع للاعتذار والانسحاب من التظاهرة الطفولية. بهذا الموقف بين القاسمي كيف ينتصر الواجب على الاعتبارات الذاتية حتى في أوقات الضيق والتذمر. لقد مرر بروح الأب والمربي رسالة عظيمة مفادها واجب توفير ظروف وشروط ديمومة طلب ونشر العلم من المهد إلى اللحد في حياة كل الفئات العمرية عربيا لبناء مجتمعات المعرفة القادرة على تحقيق التنمية البشرية المستدامة.

انتقل بنا إلى عُقْدَة تثير الشفقة والخيبة في قلوب القراء والمتتبعين. غاب المستهدفون الحقيقيون من الشباب والكهلة والشيوخ، وتم غمر القاعة بالأطفال. بلا شك لا يمكن له أن لا يتساءل عن فحوى هذه التظاهرة الثقافية. أمامه أطفال من مستوىات الابتدائي وبينهم طفلة بفمها رضاعة الحليب. صدم المحاضر ودخل في دوامة تفكير قادته إلى حيرة في اتخاذ القرار: انسحاب أم استمرار؟ وما الفائدة من الاستمرار أمام أطفال بمدارك الطفولة التي لا تحتمل لغة وبلاغة ومقاصد أدب السارد.

حضرت رمزية أدب الطفل في ذهن الراوي، فاتخذ قرار الاستمرار. فاض غيضا عندما استحضر تعالي الكتاب والمفكرين عن أدب الطفل ومزاياه وأدواره في صناعة الأجيال. ابتليت الأغلبية بالكتابة للراشدين العارفين موهوسين بالغموض والابتعاد عن المباشرة وتطعيم النُّبَذ الذاتية بالإصدارات والشواهد والديبلومات. الكتابة ارتبطت أكثر بالذات والمواقع والكسب والموالاة، وانزلق عدد كبير من روادها عن الرسالة الإنسانية، متجاهلين كون الفئة العريضة من شعوب المنطقة العربية أطفال وشباب. الكاتب عندما يكون أمام أطفال شغوفين لكتابات تنعش نفوس أعمارهم يكون أمام مسؤولية تاريخية جسيمة. فإيصال المعلومة أو الفكرة لهم وتيسير فهمها والاقتناع بها يعتبر من أعقد الواجبات لدى الناضج العارف. النجاح في ذلك يصنف الفاعل في مصاف الرواد في الوطنية والإنسانية وخدمة المستقبل.

قدم المسير المحاضر بأسلوب ومدلول تعالى على عقول الأبرياء. تحدث عن نبذة من حياته ومؤلفاته في علم المصطلح وصناعة المعجم العربي التاريخي، ومساهماته الوازنة في الأدب والفكر وعلم النفس والتنمية والاقتصاد والسياسة. لقد خلق هذا التقديم نوع من الاشمئزاز لدى الراوي وأحس منذ البداية بتعثر بناء وبلورة رسالة اللقاء وإدماج الأطفال بفنية في العملية التواصلية. بقي الأطفال بعيدين عن الاهتمام بما يجري، وكأنهم مدعوون للعب أو لحصة ينشطها بهلواني. ساد في أغلب أوقات التقديم الصمت الحيادي التام وكأن ما يدور حولهم في القاعة لا يعنينهم.

وجد الراوي نفسه في حيص بيص (الشدة والاختلاط). فكر مليا قبل أن تعطى له الكلمة. استغل وقت التقديم الخارج عن السياق التربوي والتعليمي. جاء دوره فداهمه حق الطفل في مخاطبته والتعاطي مع نفسيته بأسهل الألفاظ والتعابير الممكنة، وبالتالي تيسير اندماجه المفيد في الحدث وعدم إضاعة وقته، وبالتالي تحويل هذه التظاهرة إلى مناسبة يراكم فيها بعض المعلومات المثيرة لمداركه. اختار في البداية الحديث عن قصص من مجموعته “رسالة إلى حبيبتي”. احتكم لأنجع تقنيات التواصل الطفولية. استرسل في الحديث عن طفولته. تحدث عن مسقط رأسه (قرية صغيرة في وسط العراق). فكر في الحمولة الأخلاقية لكتاباته مركزا أكثر على الأحداث الواقعية.

أسهب بفنية في سرد أحداث يومه الأوّل في المدرسة. صور للأطفال كيف تعثّر المعلّم وسقط، فضحك عليه، وعندما نهض المعلّم، ورفع عصاه سائلاً عن الذي ضحك، اعترف خائفاً، لكنّ المعلم طلب من التلاميذ أن يصفّقوا له تقديرا لصدقه وجرأته.

انتقل إلى القصة الثانية. تحدث بلغة بسيطة وحماس عن بطَّتِه الصغيرة التي سمّاها “وفاء”. إنها صديقته المقربة التي كان يصطحبها كل يوم بعد المدرسة إلى النهر القريب لتسبح فيه قليلاً، ثم يعود بها إلى المنزل. عاش معه الأطفال إحساس الفقدان. مرّ سربٌ من البط البرّي فوق النهر ذات يوم، فلحقت به بطّته ولم تعدْ إليه، غير آبهة بنداءاته، فرجع إلى المنزل باكياً متذمرا وحيدا. لقد فقد أعز ما لديه في تلك الفترة العمرية. قاد أذهان الأطفال إلى أعمق الأحاسيس الطفولية. سميت البطة وفاء في سياق معيشي لا يمكن لها أن تتحمله أو تطيقه، ولا يمكن أن تفي لواجب الوفاء لمؤانسة بطل القصة. تابع الأطفال هذه الأحداث المشوقة وأحس المحاضر بنوع من الارتياح. لقد علم الأطفال على الأقل التمييز بين الحيوانات الأليفة الوفية (الكلاب والقطط) بطبيعتها وغير الوفية التي لا تحتمل الاستعباد (البط والعصافير ...). إضافة إلى ذلك، نبه السارد إلى مسؤولية جسيمة متعبة وثقيلة لا يتحملها إلا المحصنين بقيم ومتطلبات الغد. إنها مسؤولية الكبار في خلق نوع من التوازن المعرفي بين الأنشطة الترفيهية والرياضية والفنية للأطفال وتعاطيهم القوي مع متطلبات التعليم والتكوين.

وهو يحدثهم ساردا الفكرة تلو الأخرى، كانت دواخله تعتذر لهم لكونه ربط حصيلة منجزاته الفكرية والأدبية بالأولويات. اختلت شروط بناء المجتمع والدولة في بلاده وفي بعض الأقطار العربية. مواضيعه اهتمت بثيمات تعني أكثر الكبار هادفا استنهاض الهمم ومواجهة قوى التجويع والاستنزاف الجائر. وكأن له أولويات حارقة لتوفير الشروط المواتية لتنشئة الطفولة، وأن الأهم بالنسبة له هو مخاطبة الكبار ومصادر القرار للدفاع عن فضاء يستوعب الصغار.

اشتدت حدة العقدة عندما رفعت طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات إصبعها وسألته بأدبٍ ولطف: "شكراً ، أستاذ ، على إخبارنا عن المعلّم الذي ضحكتَ عليه وعن بطّتكَ التي أضعتها، ولكن ماذا كتبتَ لأطفال العراق الذين لا يجدون الحليب ولا يتوفّرون على الدواء ؟”. جاء السؤال صاعقاً أصاب الراوي بالذهول. لم يكن السؤال مكتوباً ليتصوّر أن أحد المعلمين كتبه لها. كانت تسأل بتلقائية وبلا ورقة. افترض أن يكون السؤال قد كتبه مؤطر عارف خلال عرضه وتم حفظه من طرف السائلة. ابتعد عن سوء النية واكتفى بافتراض ذكاء أطفال اليوم عن أطفال الأمس، وأنهم أوسع معرفةً وأعمق فكراً، بفضل تطوّر وسائل الاتصال الحديثة والقنوات التلفزية المتنوعة. افتكر الملاهي والشاشات وانتشار التيه والتفاهة أمام قوة السؤال، لكنه لم يسعف عقله للتفكير في شيء آخر. إنه علامة موسوعي. غاص في أسرار علم النفس ودرسها في جامعات العراق ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية. هو كذلك معجمي ومترجم من العيار الثقيل. فلنقل أنه تجنب التفكير في موضوع لا فائدة من وراءه مركزا أكثر على إخراج القاعة والأطفال الحاضرين بسلاسة من الضيق والإحراج.

على أي لقد اعترف بإمكانية أن تكون انشغالات الطفلة الصغيرة أمامه متقدمة وحقيقية. انشغال الأطفال العربية بمآسي أطفال الأقطار المتضررة قضية يتحملها الكبار. الأسى والتذمر يجب أن يعم نفوس الطفولة العربية وهي تتابع موت أطفال العراق. في نفس الوقت لم يتح لنفسه الفرصة للحديث عن محاضراته الكثيرة وإنتاجاته الفكرية والأدبية التي تناولت بأسى شديد مصير أبناء العراق والشيشان وفلسطين ولبنان..... لم يتجرأ أن يفضي للأطفال أن مجموعته "رسالة إلى حبيبتي" هي رسالة إلى الوطن. اعتبر الحديث عن السياسة الأمريكية من المحيط إلى الخليج اعتداء عن نفسية أطفال أبرياء. فكر بلا شك في استفحال الضغط والغطرسة الغربية بإيديولوجية العولمة والشمولية في المستقبل، وارتعش خوفا عن المآل وهو يتابع كل يوم في وسائل الإعلام السمعية البصرية وفي شبكات التواصل الاجتماعي الاعتداءات على أسر وأطفال أبرياء عزل.

لقد واجه السؤال المخيف الذي طرحته الطفلة بنظرات حانية وابتسامة راقية وكأنه يقول لها أن أطفال دولة العراق لم يكونوا عرضة للضياع قبل التدخل الأمريكي الغربي في ترابها في بداية التسعينات. ساءل نفسه لا محالة : لماذا لم يطرح طفل آخر سؤال تنشئة الأطفال الغربيين عن الصداقة والخير والمحبّة والتعاون شمال-جنوب والانفتاح والتسامح وسعادة الإنسانية جمعاء؟..... كتب الراوي كثيرا عن المحارق والاغتيالات وهدم مصانع الحليب والصناعات الغذائية والمدارس والمستشفيات .... قتل الملايين من الأطفال ولا زال العديد منهم يشكون ويلات تأثيرات الأسلحة النووية والكيماوية والأمراض السرطانية المستفحلة ...

جاء وقت الجواب. وقف الراوي منوها بكفاءة الطفلة وذكائها وشجاعتها، ولم يجد من حل سوى مخاطبتها كفتاةٍ ناضجة: "آنستي الصغيرة، أعترفُ أنّكِ على صواب، وأعترفُ أنني كاتبٌ بلا خيال، تنقصني القدرة على التخيّل. فأنا لا أستطيع الكتابة إلّا عن تجارب خبرتها بنفسي وانفعلتُ بها. ولمّا لم يكن لي طفلٌ رضيعٌ يصعب عليّ شراء حليب له، ولم يكن لي طفل مريض بالسرطان يلفظ أنفاسه بين ذراعي دون أن أتمكّن من توفير الدواء له، فإنني لم أكتب عن أطفال العراق. ولكنّني أعدكِ يا آنستي العزيزة أنّني سأبذل جهدي لأكتب في المستقبل عن أطفال فلسطين والعراق والشيشان...عن جميع الأطفال البائسين والمنكوبين والمُشرّدين في كلّ مكان”

كان جواب السارد نوعيا. فكر فيه مليا احتفاء بذكاء الطفلة. لقد أعجب بقوة السؤال وبثقافة ولغة ووطنية الطفلة. هي بريئة لا علاقة لمخيلتها بالسياسة والمصالح الدولية والحروب والإبادات المرتبطة بها. أما مستقبل فلذة الأكباد فكان ولا يزال مرتبطا بنضج الكبار في كل المجالات. والجروح الموجعة بسبب الشعور بالذنب لا ولن تندمل. استنكر في رده شيوع الفردانية وطغيان الأنا المصلحية وتقلص فضاء الانتماء الترابي للأفراد والجماعات. تحدث عن نفسه واعترف أن هذا هو حاله، لكنه أخرج نفسه من هذه الورطة (ورطة اكتسحت منطقة الديانات وأمجاد حضارة أرض عالية) واعدا الطفلة أنه لن يدخر جهدا لنصرة قضايا الطفولة العربية.

انتشى بمستوى إبداعه عندما قال: "أنا كاتب بلا خيال". إنه من أكبر أنصار سمو الكتابة الإبداعية في العالم العربي لتشمل بمقاصدها كل الفئات العمرية. غرد بخياله فوق النفوس وتسرب إلى دواخلها. اختار الرموز في هذه القصة الزاهية. أفشى فاضحا ويلات الحصار بكلمات رنانة وبصدى لا يترك مجالا للحياد. أما الجراح الغائرة في حنايا روح الأطفال فلن تندمل إلا بتشكيل روح انتماء ترابي يمتد من الخليج إلى المحيط.



[HEADING=2]نص القصة: هل تداوي الكتابةُ الطفولةَ الجريحةَ[/HEADING]
أمضيتُ عطلةَ أسبوعٍ في مدينة مراكش الرائعة، لعلَّ هواءها الربيعيّ العليل، وشمسها الدافئة، ومناظر جبالها ووهادها الخلابة، تبعث الراحة في فكري المُتعب، ونفسي المُنهكة، بسبب ما أتابعه من أخبارٍ مأساويّة مُحزِنة مثبِّطة عن فلسطين والشيشان والعراق. وهناك هاتفني الأستاذ عبد القادر الساري، المسؤول عن جمعية الشعلة الثقافية في بلدة آيت أورير، يدعوني لإلقاء محاضرة في دار الشباب صبيحة يوم الأحد.

كنتُ على وشك أن أعتذر إليه متذرِّعاً بأنَّني في عطلة، حينما تذكّرتُ أنّ من واجبي أن أنقل ما تعلّمتُ إلى الآخرين من أبناء الوطن، "فزكاة العِلم إنفاقه"، وأنّ على المهنيّ، طبيباً كان أو مهندساً أو معلّماً، أن لا يكتفي بالقيام بوظيفته في العيادة أو المصنع أو المدرسة، بل من واجبه أن ينشر معرفته المهنيّة بمختلف الوسائل بين أوسع شرائح الشعب، ليسهم فعلاً في تحقيق التنمية البشريّة. ومن ناحيةٍ أُخرى، شعرتُ أنّ القرى والأرياف لم تحظَ بالأنشطة الثقافيّة والتربويّة والصحيّة والاقتصاديّة اللازمة، مما حمل كثيراً من أبنائها على الهجرة إلى المُدن بحثاً عن حياة أفضل.

لهذا كلِّه قبلتُ الدعوة شاكراً، وتوجّهتُ صباح الأحد إلى بلدة آيت أورير التي تبعد عن مراكش حوالي 30 كيلومتراً في اتّجاه ورزازات. ورافقني بعض الأصدقاء منهم مستشار اتحاد كتّاب المغرب فرع مراكش الصحافي الشاعر مصطفى غلمان، والمؤرِّخ أحمد متفكِّر، والشاعر إسماعيل إزويرق، والناقد إبراهيم أولحيان. واهتدينا بدون صعوبةٍ إلى دار الشباب في تلك البلدة الصغيرة.

كانت دهشتي وخيبتي بالغتَيْن، عندما دخلتُ قاعة العروض في دار الشباب، لأنَّ القاعة كانت غاصَّةً بأطفالٍ صغارٍ لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات، لا بُدّ أنّّهم من الصفوف الأوليّة في المدرسة الابتدائيّة، بل لمحتُ بينهم طفلةً وضعت رضّاعة الحليب في فمها. ولكنّني كنتُ أمام الأمر الواقع، ولم يكُن في وسعي العودة أدراجي.

وعندما قدَّمني أحدهم بكلماتٍ أدبيّةٍ بليغةٍ رفيعةٍ، تحدّث فيها عن مؤلَّفاتي في علم المصطلح وصناعة المعجم والتنمية الاقتصاديّة، بدت لي وجوه الأطفال فارغة من أيِّ تعبير، كأَنَّها لا تدرك ما يُقال، أو هكذا خُيّْل إليّ. فهمستُ في أُذن الخطيب أنْ أوجز.

وأخذتُ الكلمة عازماً على أنْ أخاطب أولئك الأطفال بأسهل لغةٍ ممكنة، وأنْ لا أتناول إلا الموضوعات القريبة من أفهامهم واهتماماتهم الطفوليّة. ولهذا اخترتُ مجموعتي القصصية " رسالة إلى حبيبتي" التي تشتمل على قصص قصيرة عن طفولتي. وقلتُ لهم إنّني في طفولتي كنتُ أعيش في قريةٍ صغيرة في وسط العراق، هي أصغر من بلدة آيت أورير، وكنتُ أحلم أن أُصبِح كاتباً، وإنّني أتمنّى أن يكون منهم كتّابٌ في المستقبل وكثيرٌ من المهندسين والزراعيّين والحاسوبيّين والأطباء، لأنّ تطوير البلاد وتحسين الحياة يحتاجان إلى العلميِّين والتقنيِّين.

وأخذتُ أسرد لهم بعض قصص المجموعة مثل قصّة يومي الأوَّل في المدرسة عندما عثر المعلِّم بعتبة باب القسم فسقط أرضاً بكرشه الكبيرة فضحكتُ عليه ببلاهة، ولكنَّه سرعان ما نهض ورفع عصاه سائلاً عن الذي ضحك، ولم أتمكَّن من السكوت فاعترفتُ، فما كان منه إلا أنْ رفعني بكلتا يديه فظننتُ أنّه سيرميني أرضاً عقاباً لي، ولكنّه أوقفني على المنضدة، وطلب من التلاميذ أن يصفّقوا لي، لأنّني قلتُ الحقيقة. ثم أخبرتهم عن قصَّة أُخرى في المجموعة، تدور حول بطَّةٍ صغيرةٍ اتَّخذتُها صديقةً لي في طفولتي وسمّيتها "وفاء"، وكنتُ أصطحبها كلّ يوم بعد المدرسة إلى النهر القريب لتسبح فيه قليلاً، ثمَّ نعود إلى المنزل. وذات يوم مرّ سربٌ من البطّ البريّ في النهر، فلحقتْ به بطّتي ولم تَعُد إليّ، غير آبهةٍ بندائي، فرجعتُ باكياً إلى المنزل.

وكنتُ وأنا أروي للأطفال هذه القصص، أشاهد في وجوههم وعيونهم وعلى شفاههم التجاوب معي، أو هكذا خُيِّل إليّ. فداخلني بعض الزهو والعُجْب، والعياذ بالله منهما. وبكلِّ ثقةٍ بالنفس، فتحتُ باب الأسئلة. فرفعت إصبعها طفلةٌ صغيرةُ لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات وقالتْ بأدبٍ ولطفٍ:

" شكراً، أستاذ، على إخبارنا عن المُعلّم الذي ضحكتَ عليه وعن بطتك التي أضعتَها، ولكن ماذا كتبتَ لأطفال العراق الذين لا يجدون الحليب ولا يتوفرون على الدواء؟ "

أصابني الذهول. لم أصدّق ما سمعتُ. طفلةٌ صغيرةٌ تطرح هموماً كبيرةً، كبيرةً جداً. لو كانت الطفلة تقرأ من ورقةٍ، لقلتُ إنَّ أحد المعلِّمين كتب لها السؤال. بَيدَ أنّ الطفلة ارتجلتِ السؤال بعفويّةٍ وتلقائيّةٍ أمام ناظريّ. حاولتُ أن استجمع شتات فكري المندهش، وألملم أشلاء نفسي التي انفعلت وجدانيّاً، لأتمكَّن من الإجابة.

تذكرتُ، في تلك اللحظة، أنَّ أطفال اليوم أذكى من أطفال الأمس، وأوسع معرفة وأعمق فكراً، بفضل وسائل الاتّصال الحديثة كالفضائيّات والحاسوب والفيديو والسينما وغيرها، وبفضل المناهج المدرسيّة الحديثة وطرائق التدريس المبتكرة. وقدّرتُ أنّ عمر تلك الطفلة العقليّ يفوق عمرها الزمنيّ، كما يقول علماء النفس التربويّ. وشعرتُ بالخطأ الذي اقترفتُه حين أسففتُ في مستوى الخطاب، وأدركتُ صواب زميلي الذي ارتفع بمستوى اللغة، وخاطب الأطفال بجدّية خطابََ البالغين كامليّ الأهليّة، لتدريبهم على احترام الذات وتحمُّل المسؤوليّات.

لم أُرِد أن يتضمّن جوابي إخبار تلك الطفلة عن المقالات التي كتبتها عن فلسطين والشيشان والعراق. ولم أشأ أن أبيّن لها أنّ عنوان المجموعة القصصية " رسالة إلى حبيبتي " هو رسالة إلى الوطن، ولم أتقصّد إبلاغها عن رسائلي بالبريد الإلكتروني إلى كثير من أصدقائي ومعارفي من الأدباء والمثقَّفين في أمريكا وأوربا وآسيا وغيرها وما تحمله من وجهة نظري في السياسات الأمريكية الخاطئة في فلسطين والعراق وبقية البلاد العربيّة، تلك السياسات التي تسيء إلى الصداقة بين الشعوب وتشجّع المشاعر العدوانيّة المتطرّفة.

أردتُ أن أتقبّل ملاحظة تلك الطفلة، وأكافئها على ذكائها وشجاعتها الأدبيّة ولباقتها، فوقفتُ لأجيب احتراماً لها، وخاطبتُها كفتاةٍ ناضجةٍ بقولي:

" آنستي العزيزة: أعترف أنّكِ على صواب، وأعترفُ أنّني كاتب بلا خيال، تنقصني القدرة على التخيُّل. فأنا لا أستطيع الكتابة إلا عن تجاربٍ خبرتُها بنفسي وانفعلتُ بها. ولمّا لم يكُن لي طفل رضيع يصعب عليَّ شراء حليب له، ولم يكُن لي طفلٌ مريضٌ بالسرطان يلفظ أنفاسه بين ذراعيّ دون أن أتمكّن من توفير الدواء له، فإنّني لم أكتب عن أطفال العراق. ولكنّني أعِدك ـ يا آنستي العزيزة ـ أنّني سأبذل جهدي لأكتب في المستقبل عن أطفال فلسطين والعراق والشيشان، وعن جميع الأطفال البائسين والمنكوبين والمشرَّدين في كلِّ مكان."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى