الأوتوبيس تابوت هائل ، يسابق الزمان فوق أعصابي. الراكبون مكدسون كالسردين الفاسد، أو معلقون كالذبائح المهملة. يهتز الأوتوبيس فتتذبذب خلجات الروح. هل كان لقاؤنا نكتة أم مزحة أم لعنة؟. أما نفسي فاعتبرتك منذ البداية هدية دربنا إلي. ربع قرن من القطيعة، كنت كل يوم خلاله أقول لروحي: ليتك يامختار بن حسن الجبلي الثعالبي، كنت معي كما كنا حين جمعنا حسن الطالع أو سوؤه زمن الصبا وأيام كنا ندخل القسم مثنى مثنى، نضحك معا أو نبكي معا حسب المناسبة، لتعلم كيف كافحني زماني وكيف كافحته. لكن الزمان الأصم كان يتجاهل نحيبي استجابة لمزاجك.
الأوتوبيس شارد في طيرانه كما لو كان في رحلته المكوكية الأخيرة. ما فارقت الغصة نفسي ربع قرن كامل دونك. اليوم تضخمت مضغة الغصة كالغدة الدرقية، مع رجي بنعيك في حادث سير عبثي بطريق العاصمة، لم تعصمك منه سيارتك المصفحة. ناسنا لم يصدقوا أن تنطفئ جذوتك وأنت أبعد قوسين أو أقصى من الموت. لقد كنت كالدينامو المذهل الذي لا يتوقف عن الحركة، تعيش تبارك الله، مائة ساعة في اليوم حتى الثمالة. أما أنا فلم أكن مثلهم. فقد صدقت أنك مت قبل سن الموت. كنت قد تطيرت منذ رمقتك تحلق شاربك، وتتلقح بنخاع إبليس، ثم تجنح عن طيننا. قل بالله عليك، هل كان الحادث مصادفة؟ أم أنك فعلتها عن سابق إصرار وترصد؟ (ملحوظة: أؤكد أنني لا أشمت فيك يا مختار، حتى أقطع الطريق على هواة النميمة، فأنت تعرف في مماتك كما في حياتك أنني لا أتقن فن المناورة).
العمارات والمحلات التجارية والمقاهي وأعمدة النور والهاتف، والدراجات النارية وغير النارية، والشمس الغاربة، تتلاطم وتتوالج فيما بينها راكدة إلى الوراء. أي سائق مجنون هذا؟ صه، يا مختار. إنها حواء مقبلة تستفز تخوم المراهقة. توقظ نزق الفارس داخلك. أعرف النتيجة كالعادة عندما تفاجأ بأية حواء تحمل شيئا من حوريات البحر، أو شيئا من جدها الشمبانزي، فأنواع حواء كالخضراوات لديك، لكل منهن طعم خاص. ها ما أعطاك الله من موهبة الدخول والخروج في الثرثرة، شمرعن حريره ويواقيته ورياحينه، وبدأ يشتغل في حذلقة. خرير خبرة الترويض المشحون ينشط في تفحصها: كم أنت جميلة. ولا جمال الوردة المنداة فجر صباح ربيعي. نموذج الأنثى أنت كإلهة يونانية. إنني لا أتصور امرأة أفتن منك. ما رأيك بالسينما؟. ولا تعبأ بالفيلم. إن يدك المدسوسة، مطلقة العنان لمشاكسة ما تحت السرة، من أجل المراودة، شرف الله قدرك، تنوب عن حاسة البصر. ومع ذلك تحكم بعد انتهاء العرض بأن الفيلم تافه. أترغبين في جولة بالحديقة؟. وأنت يا مختار ألا استمتعت بهذا المساء الرائع؟. فالحديقة زاهية بخضرتها، منعشة بنداها، بارقة بألوان نوارها، رشيقة ببجعها، وأكثر بخلوتها. للأسف إن مراهقتك يا مختار لا تتجاوب مع كل هذا الصنع البديع. فهي منشغلة باستباحة ما تشتهي السفن، خصوصا وأن الصيد وقع في الفخ وأذعن. أخيرا تغلق خبرتك المطرزة بما لذ وطاب من مباهج الجنة والنار، باب حجرة نومك، من غير أن تصمت موهبة الثرثرة المدرجة بشتى التزاويق، بينما قلبك في عطلة. وليس قلبي كذلك، (ملحوظة ثانية: أبعد عن دماغك اتهامي بالحسد. فأنت ميت، ومجنون هو من يحسد الموتى) فأنا مشغول دوما بصباح بنت قمر الزمان بن وضاح بن شمس. سهلة وممتنعة. تمني النفس، وتقطع الرجاء. إذا بحّ الخيال في استحضار مخايلها، تفصد القلب التياعا وخشوعا ((إنني كلما أخذت القلم لأكتب إليك ياملاكي، شرع من فرط التلعثم يفرخ على الورق أسرابا من طيور قزحية الأجنحة، ويرفض أن يتحول إلى وصلة من وصلات الإعلانات التجارية التلفزية كما تشائين. فما ذنبي إذا كان لا يحسن سوى الزقزقة؟. إنني أدرك جيدا أنه يضايقك ألاّ بديل لي عنه، فتتظاهرين بالصدود، حسنا تفعلين، فأنا أخشى أن تكف الطيور القزحية عن التغريد وعن الظهور أصلا)).
الأشياء مفرطة في انخطافها. وكلما حاولت النظر إليها اصطك في دماغي دوار مدوخ. ها قد اقتحمنا زمن تقرير المصير. إنني لأتعجب في انبهار كيف تهيئ ملفك بسرعة قياسية. لا تجد صعوبة في الحصول على أية وثيقة. حركة لسانك وجيبك تفتح لك جميع الأبواب. أي طقس سيئ هذا الذي يسمح لك أن تنفخ في الحبة فتصير قبة؟. اخترقت الطريق غير الممهد نحو عربة القطار الأولى، في غفلة من إشارة المرور الحمراء، لتصير اسما على مسمى. فالعربة الأولى كما يلوك لسانك دوما جامعة مانعة، تستجيب لشهوة المال والجاه والنفوذ، والنوم في السمن والعسل!. وتتوهم أنني أقتنع بصوتك النسوي: ((دع عنك الأحلام، يا صاحب الأحلام. فهي أحلام ولا تتحقق. هل رأيت يوما حلما يتحقق؟. أما الواقع، فهو إسمنت مسلح. شئ ملموس ومتحقق. أستطيع أن أمتص ما يفرزه من رحيق في فمي، كقطعة حلوى لذيذة. فاستقل من عربة الدرجة الرابعة، والتحق بنا في الدرجة الأولى، ما دامت إشارات المرور معطلة، حتى لا تندم في عصر الجفاف الآتي. أما وهمك بأن عملك الحالي يترجم حبك لأداء رسالتك إلي خدمة حقيقية للبراعم وزهور المستقبل، فبلّله واشربه، لقد طلقه الوقت طلاق الثلاث منذ زمان)). لن تفهم يا مختار بن حسن الجبلي الثعالبي. وهذا هو المقتل السري فيك. فهل حلمت أنت ذات ليلة حلما حقيقيا؟.
هذه الأشياء اللعينة، لا تكف عن السرعة الجنونية إلى الخلف. لقد نسبتني إلى النفاثات في العقد، ونسبتك إلى قوم عاد. دشنت أنت فك الارتباط بيننا، وكرست أنا حظر التجول على علاقتنا. فانتصبت بيننا صحراء سيبريا محدودة بسور الصين العظيم. أضحى لقاؤنا غريب الوجه واليد واللسان. وكأننا لم نقض معا جذع العمر وغصنه وزهرته. حتى حينما أزف زمن الزواج، لم آسف لغيابك عن حفل زفافي إشفاقا من النشاز، وارتحت أنت لغيابي عن مهرجان عرسك في أكبر فندق بالبلد، احتراما للإتكيت . فلربما أحرجتك أمام من اخترتهم أصهارا نافذين لتحصين نفسك، عملا بقولة (ما من عظيم إلاّ ووراءه امرأة)، فلاموك على دعوة من خفت موازينه، إن لم يسحبوا منك مباركتهم، أو أمام زملائك، فتغامزوا على فصيلة الطين التي تنتمي إليها أصالة عن نفسك ونيابة عنا. أعترف لك أنني لم أكف عن متابعة ارتفاع معدلات أسعار أسهمك، وتضاعف منسوب عوائدها، لأعلم إلى أي حد اتسعت بقعة البنزين السوداء، دون أن أعجب بذلك ، ربما لأنه لم يكن بعيدا عن الشبه بأرباح اليانصيب، ليس فيه رائحة عرق. (ملحوظة ثالثة: اعلم رحمك الله، أنني لم أكن أتعامى عن المقارنة بين عرقي ومردوده وما أنت فيه. والله غالب).
جنون السرعة الذي يأخذ الأشياء إلى الخلف، يتفاقم كلما انتقل الأوتوبيس إلى شوارع أقل ازدحاما. انتبه ياهذا! أهو ذهول الشيخوخة؟ أم أنك مخدر؟ أم هو تعب الحياة والممات؟ أم ترى النعاس كلّسك واقفا؟. انظر هناك. دع عنك قليلا مختار بن حسن الجبلي الثعالبي. إنها تطل عليّ من مرآة السائق. ناصية صافية ناعمة كصباح صيفي. عينان ريتان، تومضان بالماء والخضرة، تشرق منهما ابتسامة موردة، تبدد حلكة ما بين الضلوع، تشعل في النفس صهيلا مخنوقا، وتنشط زمن الدورة الحيوية في الروح، وتدعوها إلى قابلية استثنائية. انذلق إلى أنفي شذا عطر مغر، طـرد رائحة العرق الملوث بفقر الدم من خيشومي. لقد لعقت يا مختار بن حسن الجبلي الثعالبي أيامك بسرعة نهمة، مثل سرعة هذا الأوتوبيس المجنون. استحلبت مائة عام من الشره خلال حياتك القصيرة. كان لابد أن تموت مبكرا بطريقة أو بأخرى. فقد اعتصرت حيويتك في كثافة. أربعون عاما من النهش والنخر، كانت كافية لتمشيط حلاوة عمرك. إذ لا يمكن لبشر، أن يعيش مائة ساعة كل يوم بلا كلل، ويطول عمره. قد تفيض خميرته، ويكثر زرعه وضرعه، أما عمره فلا يطول. بعد أن رابطت من مهبط الليل حتى مطلع الفجر بين حانات الكرنيش وعلبه، مصطليا بالحمى الحمراء في حلقك وبين فخذيك، لم تنتظر إلى أن تستعيد وعيك. بل ترنحت وأنت في كامل غيبوبتك. ركب عنادك المنقطع النظير، رأسك المستطيلة وسيارة الجيب العالية، ثم انقذف في سرعة نفاثة . دارت رأسك نشوة، ودارت صهوة العالم دورات زمنية جارفة بلا شفقة. كان حجر الكيلومتر رقم 13، المنتصب كشاهدة قبر، مترصدا لك. تطايرت الغربان الكئيبة من حوله في هيجان، فلم يبق منك إلاّ الغبار والرماد والدخان. قالوا إن ما نزف من ثقب في جبهتك، كان مزيجا من فوسفاط وحوامض وبنزين وخمر ودولار، وليس دما. وكنت أقول دائما: إن وحشا رديئا يتأكلك يوميا، ويجب أن أوطن نفسي على قبول موتك، تحسبا للصدمة في أية لحظة. فلست طبعة نادرة من كتاب الصعود والسقوط.
هل أنا أركب أوتوبيسا أم صاروخا؟. السنة شهر. الشهر أسبوع. الأسبوع يوم. اليوم ساعة. الساعة دقيقة. الدقيقة ثانية. الثانية ومضة. وفي لحظة أبدية خارج الزمان، دب الدفء في النفس، فشرعت روحي تتسرب من جسمي، ثم تتسلل منجذبة من خلال أشباح الأيدي المعلقة والرؤوس المنكسة، نحو المرآة. انغرست في رحمها. أين العيون المغناطسية؟. لا شئ سوى صحراء محتشدة من الرغوة والإسفنج، وضباب الليل، وعصافة من فقاقيع ثلجية تنغمس بينها فجوات من سراب رمادي. فضاء عائم لا تستطيع أن تمسك منه بشيء محدد. كون يتأمل ذاته، مترنما بكورال جنائزي حامل لعباءة سوداء تغطي المشهد، يترجّع صداه في الآفاق الرغوية رقيقا شفافا، وغليظا خشنا، يعلو هديره إلى حد الاحتداد، ويخفت حفيفه إلى مستوى الاختفاء. يستطيل ويتمدد حتى يظن أنه لن ينقطع، وينعطف فيتلولب، ثم يعود إلى الاستطالة والامتداد والعلو والخفوت. عالم مدوخ، لا أكاد أتماسك فيه إلاّ بتشغيل كل الحواس في وقت واحد. أرأيت يامختار؟ لقد باعتنا الدنيا قردا وضحكت علينا. فأي قوة حولت طينك ذهبا؟. وأية مصادفة أطالت أجنحتي أكثر من اللازم؟. الآن أحسني يتيما أهمل، فهوى إلى أسفل سافلين. أظلم الفضاء . لم يعد هناك وجود للمدينة بأشيائها المتسارعة نحو الخلف. إنما هو خلاء في خلاء، يتكفن بوحشة مستحكمة، كوحشة القبر. الأوتوبيس الطويل العريض، بات خاليا من الركاب سواي. توقف، فتوقف محركه عن السعال الرتيب. عاد الزمان يتثاءب. حط على العالم صمت مثخن بالرهبة، أيقظني منه السائق بصوت يابس: ماذا تنتظر؟ انزل، إنها المحطة الأخيرة.
الأوتوبيس شارد في طيرانه كما لو كان في رحلته المكوكية الأخيرة. ما فارقت الغصة نفسي ربع قرن كامل دونك. اليوم تضخمت مضغة الغصة كالغدة الدرقية، مع رجي بنعيك في حادث سير عبثي بطريق العاصمة، لم تعصمك منه سيارتك المصفحة. ناسنا لم يصدقوا أن تنطفئ جذوتك وأنت أبعد قوسين أو أقصى من الموت. لقد كنت كالدينامو المذهل الذي لا يتوقف عن الحركة، تعيش تبارك الله، مائة ساعة في اليوم حتى الثمالة. أما أنا فلم أكن مثلهم. فقد صدقت أنك مت قبل سن الموت. كنت قد تطيرت منذ رمقتك تحلق شاربك، وتتلقح بنخاع إبليس، ثم تجنح عن طيننا. قل بالله عليك، هل كان الحادث مصادفة؟ أم أنك فعلتها عن سابق إصرار وترصد؟ (ملحوظة: أؤكد أنني لا أشمت فيك يا مختار، حتى أقطع الطريق على هواة النميمة، فأنت تعرف في مماتك كما في حياتك أنني لا أتقن فن المناورة).
العمارات والمحلات التجارية والمقاهي وأعمدة النور والهاتف، والدراجات النارية وغير النارية، والشمس الغاربة، تتلاطم وتتوالج فيما بينها راكدة إلى الوراء. أي سائق مجنون هذا؟ صه، يا مختار. إنها حواء مقبلة تستفز تخوم المراهقة. توقظ نزق الفارس داخلك. أعرف النتيجة كالعادة عندما تفاجأ بأية حواء تحمل شيئا من حوريات البحر، أو شيئا من جدها الشمبانزي، فأنواع حواء كالخضراوات لديك، لكل منهن طعم خاص. ها ما أعطاك الله من موهبة الدخول والخروج في الثرثرة، شمرعن حريره ويواقيته ورياحينه، وبدأ يشتغل في حذلقة. خرير خبرة الترويض المشحون ينشط في تفحصها: كم أنت جميلة. ولا جمال الوردة المنداة فجر صباح ربيعي. نموذج الأنثى أنت كإلهة يونانية. إنني لا أتصور امرأة أفتن منك. ما رأيك بالسينما؟. ولا تعبأ بالفيلم. إن يدك المدسوسة، مطلقة العنان لمشاكسة ما تحت السرة، من أجل المراودة، شرف الله قدرك، تنوب عن حاسة البصر. ومع ذلك تحكم بعد انتهاء العرض بأن الفيلم تافه. أترغبين في جولة بالحديقة؟. وأنت يا مختار ألا استمتعت بهذا المساء الرائع؟. فالحديقة زاهية بخضرتها، منعشة بنداها، بارقة بألوان نوارها، رشيقة ببجعها، وأكثر بخلوتها. للأسف إن مراهقتك يا مختار لا تتجاوب مع كل هذا الصنع البديع. فهي منشغلة باستباحة ما تشتهي السفن، خصوصا وأن الصيد وقع في الفخ وأذعن. أخيرا تغلق خبرتك المطرزة بما لذ وطاب من مباهج الجنة والنار، باب حجرة نومك، من غير أن تصمت موهبة الثرثرة المدرجة بشتى التزاويق، بينما قلبك في عطلة. وليس قلبي كذلك، (ملحوظة ثانية: أبعد عن دماغك اتهامي بالحسد. فأنت ميت، ومجنون هو من يحسد الموتى) فأنا مشغول دوما بصباح بنت قمر الزمان بن وضاح بن شمس. سهلة وممتنعة. تمني النفس، وتقطع الرجاء. إذا بحّ الخيال في استحضار مخايلها، تفصد القلب التياعا وخشوعا ((إنني كلما أخذت القلم لأكتب إليك ياملاكي، شرع من فرط التلعثم يفرخ على الورق أسرابا من طيور قزحية الأجنحة، ويرفض أن يتحول إلى وصلة من وصلات الإعلانات التجارية التلفزية كما تشائين. فما ذنبي إذا كان لا يحسن سوى الزقزقة؟. إنني أدرك جيدا أنه يضايقك ألاّ بديل لي عنه، فتتظاهرين بالصدود، حسنا تفعلين، فأنا أخشى أن تكف الطيور القزحية عن التغريد وعن الظهور أصلا)).
الأشياء مفرطة في انخطافها. وكلما حاولت النظر إليها اصطك في دماغي دوار مدوخ. ها قد اقتحمنا زمن تقرير المصير. إنني لأتعجب في انبهار كيف تهيئ ملفك بسرعة قياسية. لا تجد صعوبة في الحصول على أية وثيقة. حركة لسانك وجيبك تفتح لك جميع الأبواب. أي طقس سيئ هذا الذي يسمح لك أن تنفخ في الحبة فتصير قبة؟. اخترقت الطريق غير الممهد نحو عربة القطار الأولى، في غفلة من إشارة المرور الحمراء، لتصير اسما على مسمى. فالعربة الأولى كما يلوك لسانك دوما جامعة مانعة، تستجيب لشهوة المال والجاه والنفوذ، والنوم في السمن والعسل!. وتتوهم أنني أقتنع بصوتك النسوي: ((دع عنك الأحلام، يا صاحب الأحلام. فهي أحلام ولا تتحقق. هل رأيت يوما حلما يتحقق؟. أما الواقع، فهو إسمنت مسلح. شئ ملموس ومتحقق. أستطيع أن أمتص ما يفرزه من رحيق في فمي، كقطعة حلوى لذيذة. فاستقل من عربة الدرجة الرابعة، والتحق بنا في الدرجة الأولى، ما دامت إشارات المرور معطلة، حتى لا تندم في عصر الجفاف الآتي. أما وهمك بأن عملك الحالي يترجم حبك لأداء رسالتك إلي خدمة حقيقية للبراعم وزهور المستقبل، فبلّله واشربه، لقد طلقه الوقت طلاق الثلاث منذ زمان)). لن تفهم يا مختار بن حسن الجبلي الثعالبي. وهذا هو المقتل السري فيك. فهل حلمت أنت ذات ليلة حلما حقيقيا؟.
هذه الأشياء اللعينة، لا تكف عن السرعة الجنونية إلى الخلف. لقد نسبتني إلى النفاثات في العقد، ونسبتك إلى قوم عاد. دشنت أنت فك الارتباط بيننا، وكرست أنا حظر التجول على علاقتنا. فانتصبت بيننا صحراء سيبريا محدودة بسور الصين العظيم. أضحى لقاؤنا غريب الوجه واليد واللسان. وكأننا لم نقض معا جذع العمر وغصنه وزهرته. حتى حينما أزف زمن الزواج، لم آسف لغيابك عن حفل زفافي إشفاقا من النشاز، وارتحت أنت لغيابي عن مهرجان عرسك في أكبر فندق بالبلد، احتراما للإتكيت . فلربما أحرجتك أمام من اخترتهم أصهارا نافذين لتحصين نفسك، عملا بقولة (ما من عظيم إلاّ ووراءه امرأة)، فلاموك على دعوة من خفت موازينه، إن لم يسحبوا منك مباركتهم، أو أمام زملائك، فتغامزوا على فصيلة الطين التي تنتمي إليها أصالة عن نفسك ونيابة عنا. أعترف لك أنني لم أكف عن متابعة ارتفاع معدلات أسعار أسهمك، وتضاعف منسوب عوائدها، لأعلم إلى أي حد اتسعت بقعة البنزين السوداء، دون أن أعجب بذلك ، ربما لأنه لم يكن بعيدا عن الشبه بأرباح اليانصيب، ليس فيه رائحة عرق. (ملحوظة ثالثة: اعلم رحمك الله، أنني لم أكن أتعامى عن المقارنة بين عرقي ومردوده وما أنت فيه. والله غالب).
جنون السرعة الذي يأخذ الأشياء إلى الخلف، يتفاقم كلما انتقل الأوتوبيس إلى شوارع أقل ازدحاما. انتبه ياهذا! أهو ذهول الشيخوخة؟ أم أنك مخدر؟ أم هو تعب الحياة والممات؟ أم ترى النعاس كلّسك واقفا؟. انظر هناك. دع عنك قليلا مختار بن حسن الجبلي الثعالبي. إنها تطل عليّ من مرآة السائق. ناصية صافية ناعمة كصباح صيفي. عينان ريتان، تومضان بالماء والخضرة، تشرق منهما ابتسامة موردة، تبدد حلكة ما بين الضلوع، تشعل في النفس صهيلا مخنوقا، وتنشط زمن الدورة الحيوية في الروح، وتدعوها إلى قابلية استثنائية. انذلق إلى أنفي شذا عطر مغر، طـرد رائحة العرق الملوث بفقر الدم من خيشومي. لقد لعقت يا مختار بن حسن الجبلي الثعالبي أيامك بسرعة نهمة، مثل سرعة هذا الأوتوبيس المجنون. استحلبت مائة عام من الشره خلال حياتك القصيرة. كان لابد أن تموت مبكرا بطريقة أو بأخرى. فقد اعتصرت حيويتك في كثافة. أربعون عاما من النهش والنخر، كانت كافية لتمشيط حلاوة عمرك. إذ لا يمكن لبشر، أن يعيش مائة ساعة كل يوم بلا كلل، ويطول عمره. قد تفيض خميرته، ويكثر زرعه وضرعه، أما عمره فلا يطول. بعد أن رابطت من مهبط الليل حتى مطلع الفجر بين حانات الكرنيش وعلبه، مصطليا بالحمى الحمراء في حلقك وبين فخذيك، لم تنتظر إلى أن تستعيد وعيك. بل ترنحت وأنت في كامل غيبوبتك. ركب عنادك المنقطع النظير، رأسك المستطيلة وسيارة الجيب العالية، ثم انقذف في سرعة نفاثة . دارت رأسك نشوة، ودارت صهوة العالم دورات زمنية جارفة بلا شفقة. كان حجر الكيلومتر رقم 13، المنتصب كشاهدة قبر، مترصدا لك. تطايرت الغربان الكئيبة من حوله في هيجان، فلم يبق منك إلاّ الغبار والرماد والدخان. قالوا إن ما نزف من ثقب في جبهتك، كان مزيجا من فوسفاط وحوامض وبنزين وخمر ودولار، وليس دما. وكنت أقول دائما: إن وحشا رديئا يتأكلك يوميا، ويجب أن أوطن نفسي على قبول موتك، تحسبا للصدمة في أية لحظة. فلست طبعة نادرة من كتاب الصعود والسقوط.
هل أنا أركب أوتوبيسا أم صاروخا؟. السنة شهر. الشهر أسبوع. الأسبوع يوم. اليوم ساعة. الساعة دقيقة. الدقيقة ثانية. الثانية ومضة. وفي لحظة أبدية خارج الزمان، دب الدفء في النفس، فشرعت روحي تتسرب من جسمي، ثم تتسلل منجذبة من خلال أشباح الأيدي المعلقة والرؤوس المنكسة، نحو المرآة. انغرست في رحمها. أين العيون المغناطسية؟. لا شئ سوى صحراء محتشدة من الرغوة والإسفنج، وضباب الليل، وعصافة من فقاقيع ثلجية تنغمس بينها فجوات من سراب رمادي. فضاء عائم لا تستطيع أن تمسك منه بشيء محدد. كون يتأمل ذاته، مترنما بكورال جنائزي حامل لعباءة سوداء تغطي المشهد، يترجّع صداه في الآفاق الرغوية رقيقا شفافا، وغليظا خشنا، يعلو هديره إلى حد الاحتداد، ويخفت حفيفه إلى مستوى الاختفاء. يستطيل ويتمدد حتى يظن أنه لن ينقطع، وينعطف فيتلولب، ثم يعود إلى الاستطالة والامتداد والعلو والخفوت. عالم مدوخ، لا أكاد أتماسك فيه إلاّ بتشغيل كل الحواس في وقت واحد. أرأيت يامختار؟ لقد باعتنا الدنيا قردا وضحكت علينا. فأي قوة حولت طينك ذهبا؟. وأية مصادفة أطالت أجنحتي أكثر من اللازم؟. الآن أحسني يتيما أهمل، فهوى إلى أسفل سافلين. أظلم الفضاء . لم يعد هناك وجود للمدينة بأشيائها المتسارعة نحو الخلف. إنما هو خلاء في خلاء، يتكفن بوحشة مستحكمة، كوحشة القبر. الأوتوبيس الطويل العريض، بات خاليا من الركاب سواي. توقف، فتوقف محركه عن السعال الرتيب. عاد الزمان يتثاءب. حط على العالم صمت مثخن بالرهبة، أيقظني منه السائق بصوت يابس: ماذا تنتظر؟ انزل، إنها المحطة الأخيرة.