ألف ليلة و ليلة مقدمة الأستاذ سيد إمام، لكتاب "موسوعة ألف ليلة وليلة، أو الليالي العربية"

ما الذي تريد أن تعرفه عن "ألف ليلة وليلة"، أو ("الليالى العربية" كما يطلِق عليها الأوربيون؟)
أصلها وفصلها؟
هندية أم فارسية أم عربية؟
مخطوطاتها؟
تواريخ ظهورها؟
مؤلفها (أو مؤلفيها)، نسّاخها أو جامعيها؟
أطوارها؟
حكاياتها الأصلية أو المنتحَلة، وما جرى عليها من تعديلاتٍ وتحويرات، وما تعرضتْ له من حذوفاتٍ وتهذيبات وإضافات على مَر العصور والأجيال؟
ترجماتها؟
الأثر الذي خلّفته على جمهور المستمعين أو القرّاء فى كل مكانٍ وزمان، وعلى المبدعن من شعراءَ وروائيين، ورسّامين وموسيقيين وكتّاب مسرح فى الشرق والغرب على حدٍ سواء؟
بُناها وطرق تأليفها؟
موضوعاتها المتواترة وموتيفاتها المتكررة؟
سياقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية والنصية؟
تعالقها أو تفاعلها مع نصوصٍ أخرى كثيرة لا حصر لها؟
مكانتها وسط المنتَج الأدبى العالمى؟
لغتها وأساليب تأليفها؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تجيب عليها "موسوعة الليالى العربية" التى ألّفها وجمع مادتها اثنان مِن أبرز المتخصصين فى الدراسات العربية وتاريخِ الحكي العربى، على وجه الخصوص، هُمَا أورليش مارزوف، وريتشارد فان ليفن.
يعمل الأول أستاذاً للدراسات الإسلامية بجامعة جورج أوجست، بجوتنجن بألمانيا، وهو أحد الأعضاء البارزين بلجنة تحرير "موسوعة الخرافات" Enzyklopädie des Märchens، نشرَ أبحاثا عن ثقافة الحكي فى الشرق الأدنى والأوسط، ولا سيما ما يتعلق بالحكايات الفولكلورية الكلاسيكية والحديثة، بالإضافة إلى الدعابات والنوادر فى اللغات الفارسية والعربية والتركية. ويعمل الثانى أستاذاً فى قسم الدراسات الدينية بجامعة أمستردام بهولندا، وتضم أعماله المنشورة الترجمةَ الهولندية لـ "الليالى العربية"، بالإضافة إلى العديد من المقالات حول نفس العمل.
يكفى القول إنّ نص الليالى تبوّأ مكانة متميزة بين روائع الأدب العالمى، وحقق شهرةً عالمية منقطعة النظير، منذ قدّمه (أنطوان جالان) إلى الغرب لأول مرة مترجَماً إلى اللغة الفرنسية ما بين عامَي (1704-1717). لقد استهلت ترجمة جالان موجة "الهوس" بـ الليالى التى اجتاحت أوروبا منذ أوائل القرن الثامن عشر فصاعداً، وهى الموجة التى شملت جمهور القراء والباحثين والمفكرين والكتّاب والفنانين على حدٍ سواء. لقد حققت ترجمة جالان نجاحاً جماهيرياً باهراً فى فرنسا أولاً، ثم فى باقى أنحاء أوروبا بعد ذلك، وأقبل المترجِمون على نقلها إلى شتى اللغات الأوروبية. ولقد تُرجِم نص الليالى إلى الإنجليزية، والألمانية، والروسية، والهولندية، والدانمركية، والبولندية، والإيطالية، والفلمنكية، والرومانية، واليونانية، والسويدية، والهنجارية، وتراوحت طبعاتها بين طبعاتٍ مهذبة، وأخرى صريحةٍ مكشوفة تضرب عرض الحائط بالمعايير الأخلاقية السائدة فى أوروبا وقتذاك؛ وطبعاتٍ أمينةٍ وكاملة، وأخرى مختصرة أو محوّرة؛ حتى تلائم الأذواقَ السائدة، وطبعات للأطفال، وأخرى للبالغين أو الكبار. وفضلاً عن هذا كله ساهمَ نص الليالى فى خلق الصورة الخيالية النمطية عن الشرق، وفتحَ باب الاستشراق على مصراعيه، وساعدَ فى الوقت ذاته فى دفع الحركة الرومانسية الصاعدة فى أوروبا إلى الأمام، ومن ثم شارك فى تحرير الفن والأدب من أسْر القيود الكلاسكية الصارمة التى فرِضت عليهما طيلة عصور، وأصبح منذ ذلك الوقت فصاعداً مصدرَ إلهامٍ بالنسبة للعديد من الفنانين والمفكرين، وكتّاب المسرح والروائيين والشعراء فى الشرق والغرب. لقد صرّح فولتير أنه لم يصبح قاصاً إلا بعد أن قرأ "ألف ليلة وليلة" أربع عشرةَ مرة، وتمنى أن يصاب بفقدان الذاكرة حتى يعيد قراءتها ويستمتع بها مرة أخرى. ويقِر الكاتب الكولومبى جابرييل جارثيا ماركيز بدَينِه لليالى قائلاً: "لولا عثورى مصادفةً فى مكتبة جدّي على كتابٍ مهمل، أوراقه صفراء تكاد تتمزق من فرط قدمِها، بعنوان "ألف ليلة وليلة" ما كان لى أن أصبح أديباً، إنّ هذا الكتاب هو ما صنع منى أديباً بعد أن سحرتنى حكاياته". وعن فضل الليالى على الحركة الرومانسية التى اجتاحت أوروبا منذ أواخر القرن الثامن عشر، وطيلة القرن التاسع عشر، يقول الكاتب الأرجنتينى جورج لويس بورخس: "عندما نَشر جالان مجلده الأول عام 1704 أثار نوعاً من الفضيحة، لكنه فى ذات الوقت سحرَ فرنسا العقلانية التى كان يحكمها لويس الرابع عشر، وعندما نفكر فى الحركة الرومانسية، فإننا نفكر عادةً فى تواريخَ جاءت متأخرة. ويمكن القول إنّ الرومانسية بدأت فى نفس اللحظة التى قرأ فيها شخص ما فى باريس أو النرويج كتاب "ألف ليلة وليلة". ويعلّق المستشرق الدانمركى ج. أويستروب الذى تَرجم العمل إلى اللغة الدانماركية فى معرض تقييمه لـ "ألف ليلة" ومكانتها بين روائع الأدب العالمى بقوله: "فيما عدا الكتاب المقدس، لا توجد سوى كتبٍ قليلة حققت انتشاراً واسعاً وطافت أرجاء العالم مثل مجموعة الليالى االعربية الشهيرة، والتى عرِفت تحت اسم ألف ليلة وليلة. فمن جهة، اكتسبت الليالى أهمية مباشرة لأنه لا يوجد- تقريباً- أحد فى العالم المتحضر لم يقرأ مرة واحدة على الأقل فى حياته هذا الكتاب الممتع بسرورٍ واهتمام، ولم يستوحِ منه عدداً كبيراً من الصور المدهشة التى ظلت عالقة على الدوام فى الذاكرة. ومن جهةٍ أخرى اكتسب هذا الأثر أهمية غير مباشرة لأن أجيالاً متعاقبة من الكُتَّاب والأدباء ظلت تنهل من نبعِه الزاخر الذى لا ينضب بلا انقطاع".
وفى ذات السياق، يتوقف شيخ المستشرقين الفرنسيين سلفستر دى ساسى، الذى رفض صراحةً فرضية الأصل الهندى أو الفارسى لنص الليالى، وشكّك فى صحة الفقرة التى أوردها المسعودي فى "مروج الذهب" حول أصل الكتاب، مؤكداً أن الكتاب مشبعٌ بالأجواء العربية والإسلامية إلى حدٍ يدحض أى ادعاءٍ بأصلٍ غير عربى، عند عناصر الإبداع فى الليالى متأملاً: "يجب أن نعد العربَ معلّمين لنا فى ابتكار الأحداث الشيّقة، وفى العناية والاهتمام بالتنويع المستمر من خلال عالم الأساطير المتألق للسحرة والعجائب، ما يجعل العالم أكثر اتساعاً وثراء، وينمّى القوى الإنسانية، وينقلنا إلى آفاق الروعة، ويثير دهشتنا حيال المفاجآت".
أمّا الكاتب النمساوي الرومانسي هوجو فون هوفمنستال، الذى قرأ الليالى طفلاً وأعاد قراءتها عدة مرات فى سنٍ متأخرة، فيصف العمل بقوله: "هنا، نجد قصيدة شارك في تأليفها أكثر من شخص، ولكنها تبدو كأنها صدرت عن روحٍ واحدة. إنها كلٌ، وعالم بأكمله، وأي عالم! إنّ هوميروس يبدو إذا ما قورن بهذا العمل، شاحباً وزائفاً، هنا يجد المرء ألواناً مشرقة وعمقاً شديداً، واستيهامات مذهلة، وحكمة عملية ثاقبة.. هنا يجد المرء مغامراتٍ لا حدود لها، أحلاماً وأقوالاً مأثورة، فواحشَ وأسراراً.. هنا الروحية الأكثر فسقاً والأغزر حسيِّة في جديلةٍ واحدة.. لا توجد حاسة من حواسنا لم يتم إيقاظها، مِن الداخل ومن الخارج معاً. إنّ كل شئ فينا ينشط، يُبعَث من جديد، ويغدو أكثر تقبّلاً للمتعة".
ويؤكد أمبرتو إيكو "أن الرواياتِ الكبرى فى الثقافة الغربية، مِن دون كيشوت إلى الحرب والسلام، ومن موبى ديك إلى الدكتور فاوست، قد كتِبت بتأثير من ألف ليلة وليلة، وهناك حقيقة فيما يبدو لا بدّ من الاعتراف بها، وهى على الرغم من حضور نص الليالى الطاغى فى الذاكرة، والتداول الواسع الذى حظى به، فإنه لم يحتل المكانةَ اللائقة به التى يسوغها تأثيره الملموس فى دائرة التفكير العربى إبداعاً وموروثاً، ومع ذلك ستظل ألف ليلة وليلة حكاياتٍ تشبه نصاً مفتوحاً، ولغزاً عميقاً وشفافاً، يتشكل معناه فى كل زمن وفى كل عقل".
الغريب أن نص الليالى الذى حظى بكل هذا التقدير والاهتمام، ونال مِن الإطراء ما لم ينله نص من قبل، ظل برغم هذا مهملاً ومستهجَناً بين أصحابه، يتناقله العامة شفاهةً فيما بينهم طيلة قرون دون أن يرقى إلى مرتبة الأدب وفقاً للمعايير التى أقرتها مؤسسة الأدب الرسمية التى تتألف من علماء اللغة العربية ورجال الدين، والتى كانت حريصة على التمييز بين أدبٍ رفيعٍ جادٍ نافعٍ يعلّمنا أساسيات اللغة، وأدبٍ قصصى عابثٍ ذى طابعٍ شعبى يستخدم اللغةَ الدارجة، يهدف إلى التسلية، لا يستحق أن يكون أدباً. لقد تجاهله المسعودى فى "مروج الذهب" بوصفه سمَراً من النوع الرخيص. ويلخص الحكمُ الذى أطلقه ابن النديم فى القرن العاشر الذى ذَكر فى كتابه "الفهرست" أنه رأى الكتاب بتمامه باللغة العربية فى عدة مجلدات، حيث وصف الكتابَ بأنه "غثٌّ بارد الحديث". ويعلق كليفورد بوزوث فى "تراث الإسلام" (عالَم المعرفة-234) على هذا الموقف قائلاً: "إنّ تعليقات ابن النديم التى أوردها فى الفصل الذى ذكر فيه أسماء بعض الكتب حول محتويات وأساليب الكتب القصصية المتنوعة، وحكايات العشاق العرب، والأبطال والظرفاء وحكايات البحّارة (التى يمكن أن تكون قد احتوت منذ وقتٍ مبكر على قصة السندباد البحرى) بالإضافة إلى أساطيرَ قيل إنها مترجَمة عن الروم البيزنطيين والهند وفارس مثل كتاب "ألف خرافة" الذى سَبق كتاب "ألف ليلة وليلة "، لا يدع مجالاً للشك فى أنه لم يكن يرى أن لها قيمةً أدبية كبيرة. والنتائج التى تستخلص من نظرة ابن النديم إلى الأدب واضحة، فهناك أدب جادّ ممتع لا يخلو من فائدة كبيرة، وهذا الأدب يعلّمنا أساسيات اللغة ونواحى جمالها، وكان من وظائفه أن يحافظ على كل القيم الثقافية الموروثة ويجددها باستثناء تلك القيم المتعلقة بالدين والعِلم. وهناك أيضاً نوع من الأدب القصصى العابث للتسلية والمتعة، له طابع شعبى ، ولا يستحق أن يكون أدباً.. ولكن أصحاب العلم الحق كانوا كقاعدةٍ عامة يهملون هذا النوع من الأدب. وكان هذا هو موقف ابن النديم من الأدب، وهو موقف يمكن باطمئنان أن نقول إنه كان موقف جميع المفكرين المسلمين دون استثناءاتٍ تذكَر".
ولم تتوقف موجة الاهمال والاستهجان لكتاب "ألف ليلة و ليلة" فى العالم العربى والإسلامى عند هذا الحد، بل امتدت حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث يدرِجه مصلحٌ دينى كبير مثل الإمام محمد عبده فى مقالٍ نشره بجريدة الوقائع المصرية عام 1881 ضمن ما سمّاه بـ "كتب الأكاذيب الصرفة التى لا يجوز بيعها أو النظر فيها" (هكذا!). ويضيف الإمام سبباً آخر يبرر رفضه للكتاب، وهو أن "عبارته سخيفة ومخِلة بقوانين اللغة"!
ولم يخلُ القرن العشرون من سوء تقدير للكتاب، ففى عام 1985 أصدرت إحدى المحاكم المصرية أمرًا بمصادرته؛ بدعوى أنه يشكل خطراً يهدد قيم الشباب المصرى.
يتضح مما تقدم أن الهاجِسيْن الجامِعين اللذين ظلا يحكمان المشهدَ النقدى العربى والإسلامى فى تقييم الليالى طيلة القرون التى تفصل بين ابن النديم ومحمد عبده، ومَن جاء بعدهما من المتزمتين، هُمَا هاجس اللغة من جهة، وهاجس الأخلاق من جهةٍ أخرى، فضلاًعن عنصرٍ ثالث أفاض فى ذِكره العلماء، هو عنصر الكذب، أو عدم المطابقة مع الواقع، وجنوح القاص الشعبى إلى الغلو والإغراق فى الخيال و"وصف المحال".
وفيما يلى استعراض لبعضٍ مما قاله النقاد العرب الأوائل فى هذا الصدد:
يَذكر أبو طالب المكى فى "قوت القلوب فى معاملة المحبوب"، أن الرسول علية الصلاة والسلام كان يرى القصة عِلماً لا يضر الجهل به، ونَدد الراشدون بالقصة، حتى إن علي بن أبى طالب طردَ من المسجد الجامع بالبصرة كلَّ القاصّين، ما عدا الحسن البصرى الذى كان أحد أصحاب مجالس الذكْر، ومِن هؤلاء جماعة من الزهّاد والنسّاك والعلماء، كعامر ابن قيس، وصلة بن أشيم، ومؤرق العجلى، ومحمد بن واسع، وفرقد السبخى، وعبد الواحد بن زيد، وموسى بن سيار الأسوارى الذى كان يقص القصص القرآنى باللسانيْن العربى والفارسى. ويقول ابن الجوزى فى "القُصَّاص والمذكرين": من الأسباب التى تجعل القص مكروهاً إنّ فى القرآن مِن القصص وفى السّنّة ما يكفى عن غيره مما لا تتيقن صحته". وروَى الخلال عن أبى بكر المروزى قال سمِعت أحمد بن حنبل يقول: يعجبنى أمر القُصَّاص، يذكرون الميزان وعذاب القبر. وسئل سفيان الثورى: نستقبل القُصَّاص بوجوهنا؟ فقال: ولّوا ظهوركم. ويقول ابن الجوزى: "والقُصَّاص لا يُذَمّون من حيث هذا الاسم؛ لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القَصَص دون ذكر العِلم المفيد، ثم غالِبهم يخلِّط فيما يورده، وربما اعتمد على ما أكثره محال". ويَذكر الجاحظ بالتنديد فى ”البيان والتبيين" قُصَّاص العامة والذين يتحلقون حولهم، وفيهم الكثير من السفلة الذين يخالطون النساء والغلمان، ووصَفهم بـ "الغفلة والجهل". ويعلق محمود بن عمر الزمحشرى فى سياق شرحه للآية "ومِن الناس مَن يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذابٌ مهين"، أنّ لهو الحديث كأحاديث السمر التى تحكى الخرافات والأخبار التى تعرى من الصحة، وحكايات الجن والملح والحديث المسهب بعامة.
(القُصَّاص بصفةٍ عامة مذمومون لأنهم: كذابون، مبتدعون، مخلِّطون، مبالغون، وهم ومستمِعوهم "سفلة"، "جاهلون"، "غافلون" يخلُّون بقواعد اللغة، خصوصاً إذا كانوا مِن العوام؛ محمودون إذا كانوا وعّاظاً مذكّرين، صادقبن يتحدثون بلسانٍ عربىّ مبين، والقَصُّ بِدعة، مذموم لأنه تلفيق وكذب، يشغل عما هو أهم مِن تدبر القرآن ورواية الحديث، يستميل العوام فى إفشاء كل غريبٍ وساحرٍ وخلابٍ إلى استحضار القصص والخرافات التى تتجاوز إمّا سُنَن الكون، وإمّا سُنن العقل والمنطق، يصرف عن العلم النافع، ويحرض على اتباع الهوى والبدع، ويلهِي عن ذِكر الله، مقبولٌ إذا كان يمثل وعداً أو وعيداً، يسوق الموعظةَ ويزجِى العبرة والنصح والإرشاد، يذكِّر بعذاب الآخرة وما ينتظر الإنسانَ من ثوابٍ وعقاب.
خلطٌ واضح بين الصدق الدينى والصدق الواقعى، بين الكذب الخلقى والكذب الفنى، بين دور الناقد الأدبى ودور الفقيه أو الواعظ الدينى، ما يبرره نشأة النقد الأدبى العربى القديم وتطوره فى ظل الإيمان بالقرآن كتاباً ينظم حياة البشر، واعتماد الثقافة العربية على الدرس الفقهى واللغوى كحارسٍ لقيم الأمّة الإسلامية، وحفظ القرآن من اللحن.
يعلق حازم القرطاجنى على موقف هؤلاء فى المنهاج" قائلا: "هؤلاء قوم من المتكلمين لم يكن لهم عِلم بالشعر (بالأدب أو الفن!) لا من جهة مزاولته، ولا من جهة الطرق الموصلة إلى معرفته، ولا معرج على ما يقوله فى الشىء مَن لا يعرفه، ولا التفات إلى رأيه فيه؛ فإنما يطلَب الشىء من أهله، وإنما يقبَل رأى المرء فيما يعرفه، وليس هذا جرحة للمتكلمين، ولا قدحاً فى صناعتهم، فإنّ تكليفهم بأن يعلموا من طريقتهم ما ليس منها شطط". ويضيف بصدد تمييزه بين صناعة الشعر وصناعة المنطق: "لأن الشىء يستنبط من معدنه، ويطلَب من مظنته".
---
أمّا بالنسبة إلى غرائبية "ألف ليلة وليلة" وتجاوزها لحدود المعلوم أو المعقول "مما يصعب تصديقه"، أو "تتيقن صحته"، فلا نظن أنها أكثر غرائبيةً وتجاوزاً لا لِسُنن الكون ولا لسُنن العقل والمنطق، مِن بعض القصص القرآنى، مثل قصة يونس الذى ابتلعه الحوت، ومكث فى جوفه أياماً أو أسابيع، حسْب بعض الروايات، أو قصة أهل الكهف الذين مكثوا فى كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين، أو قصة النبى سليمان الذى كان يتمتع بالقدرة على مخاطبة الحيوانات والطير وسائر صنوف المخلوقات، وسَخّر له الله الرياح والجن، حتى أن أحدهم أحضر له عرش بلقيس ملِكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه.
وفى ذات الوقت لم يستبعد النقاد القدامى الكتبَ التى كانت تتناول كرامات الأولياء التى انطوت على قصصٍ أكثر غرابةً وغلواً وإغراقاً فى الخيال أو وصف المحال من قصص "ألف ليلة وليلة"، مثل "الطبقات الكبرى" للشعرانى، و"جامع كرامات الأولياء" لابن اللقن، و"كرامات الأولياء" للنبهانى التى تُحدّثنا عن أناسٍ يجترحون المعجزات، لهم القدرة على الطيران فى الهواء أو السير فوق الماء أو التواجد فى مكانيْن متباعدين فى وقت واحد! أولاً لأنها تتناول أشخاصاً يتميزون بالزهد والصلاح، ثانياً لأنها كُتبت باللغة العربية الكلاسيكية الفصحى المقدسة لغة القرآن الكريم، ولم تلجأ إلى اللغة الدارجة الملحونة التى يتحدث بها العوام، كما فعلت "ألف ليلة وليلة"، بل واستوعبت مؤسسة الأدب ضمن سياقها نصوصاً مثل "الروض العاطر" للنفزاوى التى تحتوى على ألفاظٍ تخدش الحياء، أو أوصافٍ للأعضاء الجنسية للرجل والمرأة وطرق الجماع وكيفيات الإمتاع. ولم تكن بعض القصص التى امتلأت بها كتب السيرة بأقل غرابةً من قصص "ألف ليلة وليلة"، مثل قصة جعفر بن أبى طالب ابنِ عم الرسول الذى لقّب بذى الجناحين، واستشهِد فى غزوة مؤتة بعد أن تَسلّم راية المسلمين مِن زيد بن الحارثة، وظَل يقاتل حتى قطِعت يمينه، فحَمل الراية بشماله، فلما قطِعت هى الأخرى احتضنها بعضديه.
وأعجَب مِن ذلك ما رواه السيوطى فى الخصائص الكبرى (جـ1) منسوباً لابن عباس أنه "كان مِن دلالات حمْل رسول الله أن كل دابة كانت لقريش نطقت تللك الليلة، وقالت حمل برسول الله - ورب الكعبة- وهو إمام الدنيا وسراج أهلها (...) وسرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات وكذلك أهل البحار". وهى روايات يمكن فهمها وفقاً لمنطقها الخاص.
ويضيف ابن هشام عنصراً آخر يفسر معاداة المسلمين للخرافة بانصراف البعض عن القصص القرآنى وإقبالهم على القصص الخيالى الذى يمتلئ بعناصر الدهشة والغرابة، ويَذكر حديث النضر بن الحارث، التاجر الذى كان قد رحل إلى فارس والحِيرة، يطلب قصص الفرس وأساطيرهم ليضاهى ما عند النبى: "فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وذكَّر فيه بالله وحذّر قومه مما أصاب مَن قبْلَهم مِن الأمم مِن نقمة الله، خَلَفه فى مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا واللهِ يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه، فهلمّ إلىّ، فأنا أحدّثكم أحسنَ من حديثه، ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار، ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثاً منى؟
ويضيف الزمخشرى فى الكشّاف عن حقائق التنزيل فقرة أخرى على لسان النضر بن الحارث، يقول فيها "إذا كان محمد يحدثكم بحديث عادٍ وثمودَ فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة. فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن".
الغريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستملح القصص التى كان يرويها "خرافة" عن الجن والشياطين، ويدعوه بـ "الصادق"، وكان خرافة رجلاُ من بنى عُذرةَ ادّعى أن الجن خطفته، وبقى عندهم فترة من الزمن ثم عادَ إلى قومه يروى لهم مغامراتِه مع الجن، وكان يصعب تصديقها لغرابتها وبُعدِها عن المعقول. والخرافةُ هي الحديث المستملَح العجيب، ويراد بها الأخبار الغريبة والقصص العجيبة المنسوجة من الخيال، أو الممتزجة بالواقع، وغالباً تكون موضوعةً جارية على الكذب. يقول ابن حجر: خرافة العذرى هو الذى يُضرَب به المَثل فى الغرابة والأعاجيب، فيقال حديث خرافة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشةَ حين سألته عن حديث خرافة "إنّ أصدق الحديث حديث خرافة، رجلٌ من بنى عُذرة سَبَته الجن، وكان يكون معهم، فإذا استرقوا السمعَ أخبروه فيخبر به الناس فيجدونه كما قال" رواه الطبرانى فى الأوسط.
الغريب أيضاً أن عنصر الكذب، وهو أحد العناصر الذى عِيبت على أساسه "ألف ليلة وليلة"، هو أحد المعايير التى عَدَّها القدماء خصيصة تدل على جودة الشعر من عدمه، حتى قيل إنّ أعذب الشعر أكذبُه، ما يعكس ازدواجية غير مفهومة فى المعايير.
أمّا فيما يتعلق بالعنصر الإباحى فى الليالى، ودعوتِها للفسق والانحلال، وخروجها على الآداب العامة والأخلاق المستقرة، وانتهاكها للأعراف، فلا نظن أنها كانت أكثر إباحيةً أو انحلالاً أو انتهاكاً للأعراف من أشعار أبي نواس، وبشار بن برد- الذى اتهِم بالزندقة- ومطيع بن إياس الذين تباروا فى ذِكر الأعضاء الجنسية والغزل الماجن بالمذكّر، والتغزل الفاضح بالجوارى والغلمان، والفحش فى الألفاظ. وبرغم ذلك لم تستبعدهم مؤسسة الأدب من دائرتها، كما فعلت مع نص "ألف ليلة وليلة"، ولم تمنعهم من تبوّأ مكانتهم الرفيعة بين فحول شعراء العربية، ما دفع عالماً جليلاً مثل عبيد الله بن عائشة إلى القول "مَن طلب الأدب فلم يروِ شِعر أبى نواس فليس بتامّ الأدب"! ووضع الجاحظ بشارًا المتهَم بالزندقة والمجون على رأس الشعراء المحدثين، وقدّمه ابن رشيق على سائر الشعراء، ورآه الأصمعى وهو مِن النقاد المتشددين "خاتمة الشعراء"، واعتُبر بإجماع الرواة أشهرَ شعراء العصريْن الأموى والعباسى وأجلّهم شعراً، رغم ما غلبَ على شِعره من المجون الفاضح والكلمات البذيئة. والأدهى من ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبدِ اعتراضاً من أى نوع حين أقبل عليه كعب بن زهير ينشده قصيدته "بانت سعاد" التى يصف فيها أعضاء جسد المحبوبة وصفاً حسياً مفصلاً فى مقدمته الغزلية؛ جرياً على عادة الشعراء العرب القدامى فى تقديم قصائدهم، ومن بينها قوله هيفاء مقبِلة (أى دقيقة الخصر) عجزاء مدبرة (أى ضخمة العجيزة، أو سمينة المؤخرة، أو عظيمة الأرداف إذا أدبرت) وهى أوصاف تتفق ومقاييس المرأة الأكثر إثارة جنسية للرجل فى هذا العصر، بل يصف أسنان محبوبته عندما تبتسم وما فيها من ريقٍ رطبٍ راوٍ كأنها مسقية بـ "الخمر"، أكثر من مرة حين يقول: تجلو عوارض ذى ظَلْمٍ إذا ابتسمت/ كأنه مُنهلٌ بالراح مَعلولُ. لم يعِر الرسول عليه الصلاة والسلام أوصافَ كعب بمعيار الأخلاق، وإنما فعل كما يفعل النقاد المحدثون، حيث اعتمد فى فهم القصيدة وتقييمها على إدراجها داخل منظومة تقليدها الشعرى الموروث وسياقها الثقافى والفنى الذى تنتمى إليه، ومن هنا جاء تقييمه لها موجباً (لقد خلع الرسول على كعب بردتَه). ما سِر هذه المفارقة إذن؟! اللغة؟! بكل تأكيد.. يقول السيوطى فى المزهر ج2 ص30 "ولا شك أن علم اللغة من الدين؛ لأنه من الفروض الكفايات، وبه تعرف معانى القرآن والسّنّة".
هل مِن سببٍ آخر؟! نعم.. لقد كانت "ألف ليلة وليلة" ضحية التفريق القائم على تحيّز أيديولوجى بين أدبٍ رفيعٍ يخص النخبة، يستخدم اللغةَ العربية الكلاسيكية المتوارثة أداةً للتعبير، وأدبٍ هابطٍ أو مبتذَل يخص العامةَ أو الدهماء، يستخدم اللغةَ العامية أو الدارجة المعبّرة عن همومهم، وهو أحد تجليات التفاوت الطبقى الصارخ الذى كان يقسم المجتمع إلى طبقتين متمايزتين، طبقة أرستقراطية مستبدة حاكمة باطشة متجبرة، تحركها شهواتها الجنسية، وتتحكم فى قراراتها، تتمتع بكل الامتيازات، وتستأثر بكل الخيرات المادية والثروات، وتحتكر كل أسباب السيادة والقوة، تتألف من ملوكٍ وخلفاء وسلاطين، وأمراء ووزراء وعسكر، وقادة جيوش وتجار أثرياء، وعلماء لغة وفقهاء، ورجال بلاط وندماء، ومتملقيهم من شعراءَ وأدباء، فضاءاتها القصور وأروقة البلاط. وطبقة دنيا مهمشة غير متعلمة، تعانى من الفاقة والحرمان، تتألف من الزرّاع والحرفيين والصناع، وصغار التجار والعيارين والشطار، ومَن أطلَق عليهم المؤرخون فى بداية العصر المملوكى الزعرَ والحرافيش ممن يحتلون قاعدة الهرم الاجتماعى، فضاءاتها التى يعبّرون فيها عن فنونهم الشوارع والساحات العامة والمقاهى والأسواق. الطبقة الأولى تتبنى المعاييرَ التقليدية المتوارثة عن الأجداد، تعتمد على المحاكاة وإعادة إنتاج النماذج القديمة، واتباع المواصفات والتصنيفات التى وضع أسسَها القدماء، وتتسم فى عمومها بالتقليد والتكرار والاجترار.
والطبقة الثانية تضرب بالنماذج الجاهزة عرضَ الحائط، تستقى معاييرَها مما يفرضه واقعها الفعلى، تستكْنِه روحَ الجماعة الشعبية، وتتسم بالديمومة والتغير المستمر، تخلق مواضعاتِها الخاصة بها وفنونَها المعبّرة عن خصوصيتها الثقافية والتاريخية والجغرافية، وعن طموحاتها فى عالمٍ تسوده قيم العدل والحق والمساواة، تناهض الظلمَ والبغى، وتقاوم كل أشكال القهر والتسلط والاستبداد، تَسخر من حكامها الطغاة عن طريق النكتة وشتى ضروب التورية، وتعبّر عن كل ذلك شفاهةً بلغتها الخاصة الدارجة غير المصنوعة أو المتكلفة.
ومن هنا ظهرت السيَر الشعبية التى تمجد الأبطالَ الشعبيين، وقصص الشطار والعيارين، وكافة فنون الرقص الشعبى والحِكم والأهازيج الشعبية، والمآثر والأمثال المستمدة من الموروث الجمعى، ولم تكن "ألف ليلة و ليلة" بمنأىً عن هذا كله.
لكل هذا وذاك ظَل نص الليالى غريباً مستبعداً ومهمشاً، منبوذاً ومستهجناً من قِبل النخبة الثقافية، يرويه القُصَّاص الشعبيون للجمهور ويضيفون عليه من عندياتهم جيلاً بعد جيل.. ويرجع الفضل للمستشرقين فى رد الاعتبار لهذا الأثر العظيم، وإبرازِ ما ينطوى عليه من سحرٍ وجمال، وكان على رأس هؤلاء المستشرق الفرنسى أنطوان جالان الذى قام لأول مرةٍ فى تاريخ أوروبا الأدبى بترجمة الكتاب إلى اللغة الفرنسية، ما بين عامَى 1704 و1717 فى اثنى عشر مجلداً. وكان جالان قد عثر على مخطوطةٍ عربية تحوى حكايات السندباد، فشرع فى ترجمتها عام 1701 ولكنه سرعان ما تبين أنها جزء من مجموعة أشمل، فقام بترجمتها على الفور فى سبعة مجلدات بعد أن أضاف إليها حكايات السندباد التى عثر عليها فى بداية الأمر، ولاقت الترجمة انتشاراً واسعاً، وذاع أمرها فى كل أنحاء أوروبا، وسرعان ما ترجِمت إلى العديد من اللغات، وعنها استمد الغرب صورته عن الشرق بوصفه موطن السحر والخيال، والحريم والكنوز والجمال.
وفى أوائل القرن التاسع عشر طبِعت "ألف ليلة وليلة" لأول مرة إلى اللغة العربية فى كلكتا بالهند عام 1814 تحت رعاية أحمد بن محمود شيروانى، ثم ظهرت الطبعة الثانية عام 1818، وطبعة برسلاو التى ظهر الجزء الأول منها عام 1824 والأخير عام 1843 وقام بنشر الأجزاء الثمانية الأولى منها مكسمليان هابيشت مِن مخطوطةٍ تونسية، وأكمل الأجزاءَ الأربعة الأخيرة بعد وفاته هاينرش فلاش، أستاذ اللغات الشرقية فى الجامعة الملكية بمدينة لايبزش. وفى عام 1835 ظهرت طبعة بولاق، وهى أول طبعة للمخطوط المصرى، وتَبعتها طبعة بولاق الثانية بعد ذلك بثمانية وعشرين عاماً، ثم استكملت طبعة كلكتا الثانية ما بين عامَى 1838-1842 فى أربعة مجلدات، وما بين عام 1888 وعام 1890 أصدرت مطبعة الآباء اليسوعيين الكتابَ فى خمسة مجلدات. ومِن أشهر طبعات الليالى طبعة صبيح المزودة بالرسوم الشعبية، وهى الطبعة التى تمت مصادرتها فى مصر عام 1985.
ولفتت ترجمة جالان الانتباهَ إلى الأصل العربى، فاتجه المترجِمون إلى هذا الأصل ينقلون عنه، ومِن بين هؤلاء المستشرق الإنجليزى إدوارد لين الذى ظهرت ترجمته ما بين عامَى 1839 و1841 ومع ظهور الحركة الرومانسية فى أوائل القرن التاسع عشر وثورتِها على القواعد الكلاسيكية الصارمة، وفصلِها الصارم بين الفن والأخلاق، واحتفائها بقيمة الخيال فى الإبداع، وإعادة الاعتبار إلى فنون الشعب، بدأ التنقيب فى العالم العربى عن تللك الآثار المهمَلة، والاعترافُ بقيمتها بوصفها التعبير الحقيقى عن روح الجماعة الشعبية التى أهملتها مؤسسات الأدب الرسمية طويلاً، وكان مِن نتيجة ذلك أن بدأ الاهتمام بالمأثورات الشعبية من شعرٍ وغناء وموسيقى ورقصٍ، وأمثالٍ وأساطيرَ وسِير وحكاياتٍ تجرى على ألسنة العامة من الناس، وشمل هذا الاهتمام العنايةَ بمجموعة "ألف ليلة وليلة" التى أصبحت مصدر إلهام بالنسبة للعديد من الكتّاب العرب فى مجالات القصة والمسرح والشعر والرقص، وسائر الفنون.
ويعلق أحمد حسن الزيات فى محاضرةٍ ألقاها فى سوريا عام 1933 بعنوان "ألف ليلة وليلة وتاريخ حياتها"، على أسباب هذا التحول فى النظرة إلى كتاب ألف ليلة وليلة: "ولقد الذي رآه محمد بن إسحاق المعروف بابن النديم فقال إنه غثٌّ بارد لأنه نظر إلى الأدب الأرستقراطى الذى يصور ترف الخيال وجمال الصنعة، فلما حقق العصر الحديث تغلّب الديموقراطية، وسيادةَ الشعوب، واستتبع ذلك عناية أصحاب المذهب الإبداعى (الرومانتيكيين) فى الغرب بحياة السوقة والدهماء عنايتَهم بحياة الملوك والنبلاء، وهبّ رواد الاستعمار وعشاق الآثار ينقبون عن فولكلور الشرق، أخذ أدباؤنا بحكم التقليد والعدوى يعطفون على أدب السواد، فدوّنوا اللغةَ العامية وجمعوا الأغانى الشعبية". ويضيف الزيات: "ألف ليلة وليلة يا سادة كتابٌ شعبى تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته، وتراءت من خلاله ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه أساليبه ولهجاته، فهو كالشعب وكل شىء للشعب، قد لقى من جفوة الخاصة وترفّع العلية أذىً طويلاً، أغفله الأدب فلم يتحدث عنه، واحتقره الأدباء فلم يبحثوا فيه".
غير أن الالتفات الحقيقى إلى "ألف ليلة وليلة" فى الدراسات العربية لم يبدأ إلا مع رسالة الدكتوراه التى تقدمت بها سهير القلماوى إلى كلية الآداب جامعة القاهرة بتشجيع من طه حسين عام 1941 وهى أول دراسة باللغة العربية حول "ألف ليلة وليلة"، أعقبتها مجموعة من الدراسات قام بها عدد من الدارسين الكبار ممن اهتموا بالأدب الشعبى وفنونه، مِن بينهم الدكتور عبد الحميد يونس، وأحمد رشدى صالح، وفوزى العنتيل، وفاروق خورشيد مِن بين آخرين.
لقد استطاعت "ألف ليلة وليلة" بالرغم من كل أسباب الإهمال والتهميش التى قوبلت بها مِن جانب المؤسسة النقدية القديمة، أن تحافظ على وجودها بين الطبقات الدنيا الكادحة على مدى قرون عديدة؛ لأنها تمثل فضاء يعبّر عن مكنوناتها، ويكشف فى الوقت ذاته عن لاوعيها ورؤيتها لعالمٍ يسوده القهر والتسلط والاضطهاد؛ فضاء يجسد فى الوقت ذاته أحلام هذه الطبقات وتطلعاتها إلى عالم يسوده العدل والمساواة، تذوب فيه كل التمييزات الثقافية المصطنَعة التى تقوم على أساس اللون أو العرق أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية، حيت أمكن للعبد الأسود مجامعةَ زوجة الملك أو الأمير (البيضاء)، ولجامعِ القمامة مضاجعة بنات الأكابر، وللصعلوك أن يرتقى عرش الملوك، وللمرأة أن تصبح سلطانةً ومحارِبة لا يشَق لها غبار، تبزّ الرجالَ حكمةً وذكاء ودهاء، وحيث تُرفَع الحدود بين عالم الجن وعالم الإنس، عالم اليابسة وعالم البحار، عالم الأرض وعالم الفضاء، عالم الإنسان وعالم الحيوان، الحلال والحرام، الفيزيقى والميتافيزيقى، المنظور وغير المنظور، الوعى واللاوعى؛ يتزوج الصعلوك من أميرة، أو يتزوج الأمير فتاة من عامة الناس؛ الجنى من إنسية أو الإنسى من بنات الجن؛ تتكلم الطيور، وتنطق الأشجار، وتنبت للإنسان أجنحة تعينه على التحليق مثل الطيور فى الفضاء؛ يتحول الذهب إلى قصدير، والمعدن الرخيص إلى ذهب... يتمرد "الهو" على سلطة الـ "أنا الأعلى"، ويعصف بكل أوامره ونواهيه، يجامع الإبن زوجاتِ أبيه، ويغتصب الأب معشوقةَ الإبن، وتتحرش الزوجة بابن زوجها؛ يواقع الرجال الغلمانَ، ويعاشر الأشقاء شقيقاتِهم. يتجاوز القاص الشعبى حدودَ المعلوم والمعقول فيخلق طيوراً فى حجم الفيلة، وبشراً يمكنهم الحياة تحت الماء، وأسماكاً فى حجم الجزر، وبيوضاً فى حجم القباب، وفتيات يرتدين لباس الريش، وأفراساً من الأبنوس، وأشجاراً تحمل ثماراً من نساء، وأسماكاً ضخمة تموت لتوّها لدى سماعها صيحة إنسان، ومَرَدة عماليق يتغذون على لحم البشر.
لقد فَجّر عالم الليالى الغرائبى وما ينطوى عليه من آيات السحر والجمال طاقاتِ الإبداع لدى الكثير من الكتّاب والفنانين الأوربيين، إن إنو ليتمان يشير إلى أننا نستطيع تتبع بداية دخول "ألف ليلة و ليلة" إلى أوروبا مع منتصف القرن الرابع عشر فى كتابات جيوفانى سركامبى، وبوكاشيو، وتشوسر... وامتد هذا الأثر إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر فى أعمال جيامباتستا باسيل، وموليير، كما ساهم فى دفع الحركة الرومانسية الناشئة فى أوروبا فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. لقد فتحت "ألف ليلة وليلة" آفاقاً جديدة للتخيل لدى مبدعين مثل كولريدج، وبايرون، وكيتس، وتنيسون، وجوتة، ولشتنبيرج، وفولتير، وجول فيرن، وجوتييه، ودو نرفال، وشاتوبريان، وفلوبير، وأندرسون، ومونتسكيو، وليسنج، وبومارشيه، والأخوين جريم وموزارت، وريمسكى كورساكوف مِن بين آخرين.
وفى القرن العشرين تجلى أثر الليالى فى أعمال كتّاب مثل جون بارث، وبورخيس، وأمبرتو إيكو، وسلمان رشدى، وجارثيا ماركيز. لقد سبقت الليالى كل التنظيرات الحداثية وما بعد الحداثية فى فن السرد، وكانت الأساسَ الذى قامت عليه تيارات عديدة مثل تيار الواقعية السحرية الذى نشأ فى أمريكا اللاتينية فى الخمسينيات من القرن الماضى، ثم انتشر بعد ذلك فى كل أنحاء أوروبا، وكان أهم ممثليه الكاتب الكولومبى الشهير جابرييل حارثيا ماركيز، وماريو بارجاس يوسا مِن بيرو، وخوليو كورثار من الأرجنتين، وكارلوس فوينتس من المكسيك، الذين تختلط فى أعمالهم عناصر الخيال بالواقع، وتزول فيها الحدود بين الوهم والحقيقة، الزمان والمكان، المتخيل والتاريخى، المنظور وغير المنظور، المألوف والخارق، الاعتيادى والعجائبى... إلخ. كما تتقاطع مع ما أطلقت عليه ليندا هتشيون "الميتارواية التاريخية" Historiographic metafiction من حيث تناصها مع الشخصيات التاريخية وتأويلها، إعادة بناء التاريخ وأسطرته أو تأويله، نسبيته، الخلط بين ما هو واقعى أو حقيقى factual وما هو قصصى أو خيالى fictional، تخييل الواقعى وتأريخ الخيالى، المزج المتعمد بين الواقع والأسطورة، الوهم والحقيقة، بين دور المؤرخ ودور القاص أو الراوى.. إلخ. (أطفال منتصف الليل لسلمان رشدى، اسم الوردة لإمبرتو إيكو، مائة عام من العزلة، والجنرال فى متاهته لجارثيا ماركيز) .
لقد قدمت "ألف ليلة وليلة" تاريخًا خيالياً لشخصياتٍ تاريخية، مثل هارون الرشيد، المأمون، زبيدة زوجة هارون، جعفر البرمكى، الحَجاج، النبى سليمان، الظاهر بيبرس، إسحاق وابراهيم الموصلى ، إلخ. وهى شخصيات يصعب الفصل فيها بين حقيقتها التاريخية وصورتها الخيالية على الطريقة التى قدمها بها الراوى الشعبى. إنّ الصور الخيالية التى قدمها الراوى الشعبى لهذه الشخصيات يمثل اسقاطاً لوعى الطبقات الدنيا المضطهدة أو المقموعة على طبقة الحكام الذين يتصورنهم أحياناً كحمقى أو مهرجين أو شهوانيين، تدفعهم نزواتهم لارتكاب أفظع الحماقات (فى حكاية "جعفر البرمكى والشيخ البدوى" يكافئ الخليفة هارون الرشيد الشيخَ البدوى على "ضرطة" أطلقها فى حضوره اعتراضاً على جعفر، وفى حكاية "على نور الدين وأنيس الجليس" يصمم الخليفة هارون الرشيد على أن يصلب خولى بستانه الشيخ أبراهيم، وعلي نور الدين، وأنيس الجليس، إن لم تحسن أنيس الغناءَ والضرب على العود، وإن أحسنت عفا عنهم وصَلب بدلاً منهم وزيره جعفر البرمكى . يقول الرشيد لوزيره جعفر : "واللهِ إن غنت الجارية ولم تحسن الغناء صلبتهم كلهم، وإن غنت وأحسنت الغناء فإنى أعفو عنهم وأصلبك أنت).
والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن: ما ذنب علي نور الدين والشيخ إبراهيم إنْ لم تحسن أنيس الغناء؟ وما ذنب جعفر إذا أحسنت الغناء؟! يبدون ميالين دائمًا لإراقة الدماء، نرجسيين، مجبولين على الأثرة وحب الذات، متكالبين على متع الدنيا وتكديس الثروات، أو مِن ذوى القدرات الخارقة، يتحكمون فى ممالك الجن، قادرين على اجتراح المعجزات.
إنّ القاص الشعبى يرسم عالماً، أو بالأحرى تاريخا خيالياً (روائياً) موازيأ للتاريخ الرسمى الذى كتبه المؤرخون الرسميون من أصحاب الحظوة والمقربين من دوائر السلطة وصنع القرار.. هكذا نعثر فى الليالى على تاريخيْن: تاريخ واقعى (لا يخلو هو الآخر من المبالغات وعناصر الخيال) وتاريخ خيالى أو روائى أملاه الوعى الشعبى (لا يخلو من بعض عناصر الواقع أو التاريخ) بحيث يدفعنا نحن القراء للتساؤل: أين الواقع فيما نقرأ؟ وأين التاريخ؟ ويحملنا من ثم على الشك فيما يسمى بموضوعية التاريخ ومصداقية المؤرخين، والنظر إلى التاريخ بوصفه حكياً أو متخيلاً ليس إلا.
.........
ولم يقتصر أثر الليالى على الآداب والفنون، بل امتد إلى الحركة النسوية فى الغرب والشرق على حدٍ سواء. لقد أصبحت شهرزاد أيقونةً نسوية عالمية، ورمزاً لنضال المرأة ضد القيود والمواضعات الاجتماعية الظالمة التى فرِضت عليها على مدى أجيال من قِبل ثقافةٍ ذكورية تنحاز انحيازاً كاملاً للرجل (انظر Lahy Hollebeque: Le Feminisme de Schéhérazade "نسوية شهرزاد") وارتبطت على وجه الخصوص بحركات تحرير المرأة فى العالم الإسلامى.. لقد واجهت شهرزاد سلطةَ البطش الذكورية الممثلة فى شهريار، وتمكنت عبْر علمها وذكائها وسعة اطلاعها وقوة خيالها من ترويضه والانتصار عليه، وتحريرِه من استحواذاته المَرضية والشهوانية، وبذا حررت بناتِ جنسها وأنقذتهن من الفناء.. لقد فعلت كل هذا بفضل إصرارها وقوة إرادتها وتفوقها الذهنى، وقد تمردت على سلطة الأب الذى نصحها بعدم المخاطرة بحياتها، وأصرت على خوض المعركة حتى النهاية، ومن ثم اعتبِرت رمزاً لنضال المرأة ضد كل ألوان القهر والاستبداد الذكورى، وكفاحها من أجل التحرر من سلطة التقاليد البالية، وسعيها للحصول على كافة حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى حرِمت منها طيلة عصور. لقد أصبحت شهرزاد مصدر إلهامٍ للمرأة المسلِمة ضد موجة المد الأصولى التى اجتاحت المجتمعات العرببة والإسلامية التى أرادت أن تعود بها إلى عصر الجوارى والحريم.
لم يتوقف نضال المرأة العربية ضد التمييز الذى أقامته الثقافة التقليدية بين المرأة والرجل، بل واصلت حفيدات شهرزاد، هدى شعراوى، وصفية زغلول، ودرية شفيق، وفاطمة موسى، وعائشة عبد الرحمن، وسهير القلماوى، وأمينة السعيد، ونوال السعداوى، ولطيفة الزيات، مِن بين أخرياتٍ، نضالَهن من أجل تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، وخُضن معاركَ ثقافية واجتماعية طاحنة ضد المجتمع الذكورى التقليدى، وحَققن نجاحاتٍ باهرةً فى مجالات العلوم والطب والفنون والآداب، بل أبدين تفوقهن على الرجال فى العديد من المجالات.
........
عودة إلى الموسوعة:
تتألف موسوعة "ألف ليلة وليلة" أو "الليالى العربية" من مجلديْن، المجلد الأول الذى يتألف من مقدمة كَتبها أولريش مارزوف، وقِسميْن، يضم القسم الأول مجموعة من المقالات التمهيدية كَتبها عدد من الباحثين المتخصصين فى الدراسات الإسلامية و"ألف ليلة و ليلة"، من أمثال دانيال بومون، وأبو بكر الشرايبى، وحسن الشامى، وجيرت يان فان جيلدر، وهاينس جروزفلد، وروبرت إروين، وكازو كوباياشى، وفدوى مالطى دوجلاس.. وآخرين، وتتناول موضوعات مثل: الأسلوب الأدبى والتقنية السردية فى "الليالى العربية"، الروابط الشفاهية فى "الليالى العربية"، الشعر و"ألف ليلة وليلة"، "المثلية الاجتماعية وعلاقات المغايرة الجنسية وشهرزاد، "الليالى العربية واليهود"، صور الذكورة فى "الليالى العربية"، الحياة الاجتماعية والثقافة الشعبية فى "الليالى العربية"، الأدب العربى الحديث و"الليالى العربية"... إلخ.
ويضم القسم الثانى الذى جاء تحت عنوان "ظاهرة الليالى العربية" استعراضاً لـ 551 حكاية متضمَنة فى العديد من المخطوطات والنسخ المطبوعة والترجمات الأوروبية لـ "الليالى العربية"، يشمل ملخصاً لكل حكاية، بالإضافة إلى التاريخ النصى والسياق الأدبى والمعالجات التى تأسست عليها، وخلفياتها الفولكلورية فضلاً عن السياقات التى تتجذر فيها فى إطار حكائى تشترك فيه الشعوب الهندو- أوروبية والسامية.
ويتألف المجلد الثانى من قسميْن: الثالث والرابع، يقع القسم الثالث تحت عنوان"عالم الليالى العربية" ويضم 270 مدخلاً تتعلق بالأصل والشخصيات الرئيسية، والطبعات والترجمات، ومظاهر التاريخ النصى والمعالجات والأعمال المستوحاة، وكافة المعلومات التى يحتاج إليها القارئ لاستيعابها وتذوق معانيها.
أمّا القسم الرابع فيضم مجموعة من الملاحق (ستة ملاحق) تتناول النصوص التى ورد ذكرها فى الموسوعة، والحكايات وثيقة التماثل، وفهرساً باقتباسات شوفان، ونماذج الحكايات العالمية التى تتفق ونظام نماذج الحكاية الفولكلورية، والموتيفات الحكائية المتضمنة فى فهرس الموتيفات عند ستيث طومسون، فضلاً عن فهرس بالاقتباسات المستمَدة من "الطرائف الفكاهية العربية القصيرة" Arabia ridens لأولريش مارزوف، وببلوغرافيا شاملة بالمَراجع المنشورة باللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات.
وبعد....
لم أشأ أن ألتزم بالترجمة الحرفية لعنوان الموسوعة "الليالى العربية" وهو الاسم الذى عرِف به نص الليالى فى أوروبا، وإنما أردت أن أعود إلى الاسم الذى اشتهر به فى العالم العربى والإسلامى "ألف ليلة وليلة"، والذى يتفق والاسم الذى أطلقه جالان على أول ترجمة للكتاب إلى إحدى اللغات الأوروبية. لم أرِد ان أغفل الرقم ألف الذى كان لصيقاً بالنواة الأصلية لكتاب "هزار أفسان"- "ألف خرافة " وهو رقم يدل على الكثرة، واستقر فى أذهان النقاد وجمهور القراء طيلة عصور بدلالاته المختلفة.
ثانياً ارتبط الرقم "ألف" بالعديد من المعارضات الأدبية للكتاب أو النصوص التى عمدت إلى التناص معه أو محاكاته ("ألف يوم ويوم" لـ بتي دي لاكروا، "ألف ليلة وليلتان" لـ إدجار ألان بو، "ألف حماقة وحماقة" لـ كازوت، "ألف ساعة وربع الساعة" لـ جوليت ، "ألف ليلة وليلتان" لـ هانى الراهب، إلخ) بالإضافة إلى أن العديد من الترجمات الأوروبية اعتمدت التسمية الأصلية بالأساس . كذلك لم أعمد إلى ترجمة عناوين الحكايات المنقولة أصلاً من الأصل العربى ترجمة حرفية، بل عمدتُ إلى الأصل المنقول عنه، سواء فى طبعة كلكتا الثانية أم طبعة بولاق المنقولة عنها وهو ذات النهج الذى اعتمدته فى ترجمة المقتطفات المأخوذة عن المسعودى وابن النديم، أو من رواية "سعيد أبى النحس المتشائل" لـ إميل حبيبى وغيرها من نصوص عربية الأصل؛ حتى لا تكون ترجمة فوق ترجمة فوق ترجمة ويذهب الأصل المنقول عنه أدراج الرياح.
أمّا بالنسبة لبعض عناوين الحكايات المنتحَلة التى لم يحتوِها أى نص عربى، والتى يصعب ردّها إلى أصل عربى أو هندى أو فارسى، فقد أوردناها كما هي، مثل حكاية "ساتيلاطليس وحمامة تلواه".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى