محمد لغويبي - القصة القصيرة في مجموعة "امرأة تقرع باب الله " لمحمد العتروس

في البداية:
قد تبدو بعض القصص القصيرة و كأنها ندم فني على فشل تجربة أو تجارب أجناسية أخرى، كالشعر و المسرح و بخاصة الرواية...إنها بصيغة ما هروب من الفشل بدل مواجهته، تماما كالهارب من الذكريات إليها و لو بمنطق تصفية حسابات قديمة.
كتابة القصة القصيرة بهذه الخلفية تكشف واحدة من أزماتها الفكرية و الإبداعية، كما تفضح تجارب أخرى تسرب إليها هم التفجير الأجناسي القائم على الرغبة في التثوير، أو التخلص من بلاغة قديمة إلى بلاغة قصصية جديدة، يتوارى فيها الندم الفني لصالح يقين إبداعي يتوسل بإواليات القصة القصيرة و بخلفيات مختلفة و متباينة أحيانا لغير صالح هذا الجنس الذي يصبح هولاميا يصعب تحديد هويته.
و في مجموعته "امرأة تقرع باب الله " يقدم القاص محمد العتروس كوكتيلا من القصص التي يمكن نمذجتها، لكن هذه القراءة لا تروم هذا الأفق، إنها قراءة حددت اشتغالها على ثلاث قصص فقط ،و هي: غواية/كوة/أعلى قليلا، و هذا الاختيار تدفع إليه الرغبة في الكشف عن اللاندم الفني، و كيف تخلصت من نقيضه هذه القصص ،دون أن تسقط في ذلك اليقين الإبداعي الذي يجعل جنس القصة القصيرة هولاميا يصعب تحديد هويته! ما يرومه إذن هذا الاشتغال هو إبراز قدرة القاص على إبداع قصته القصيرة متخطيا الأمرين:
الندم ..و اليقين.
■كوة
تنطلق قصة "كوة " لتستثمر الرؤية في سرد يوهم بتواضعه "كان يختلس النظر من خلال كوة في سطح البيت الذي يطل بدوره على شارع .."ص 32، "كانت الأسطح خالية إلا من اعشاش حمام و من ملابس منشورة على حبال الغسيل و دراجة خضراء للأطفال و ربطتي بصل و ربطة ثوم معلقات على جدار جارتهم (عناق)"ص32، "كانت الشمس تميل إلى المغيب...و كانت هناك شرفة ...شرفة بعيدة يفصل جدارها البيت عن الشارع.."ص32 و "يد حريرية تستند على جدار ...كانت المرأة تطل على الشارع "ص32، "وجهها عين تنظر إلى البعيد "ص32
تسمح لنا هذه الرؤية/الاختلاس من خلال كوة في سطح البيت التعرف على شخصيات عدة :الجارة عناق،العم سلوم ،و الخالة هينة ..و بذلك يوهم السرد بامتداده و ربما باحتمال أفعال الشخصيات لكنه سرعان ما يترك الأسطح ليقف عند امرأة بالذات:"امتدت عيناه إلى القدمين ...المرأة فستان بهي غطى على بهاء القدمين و على بهاء الوجه ،مطرز بأجمل تطريزة في الكون.."ص33، "التطريزة تذكره بأمه الذي أهدته إياه مع مفتاح بيتهم ،و جعلتهما جهازا لعروسه.."ص33، "امتدت عيناه إلى خصلة الشعر ..انتقلت إلى عينيها و توقفت عندهما ...لم يستطع أن يرى ما كانت تنظر إليه.."ص33، "حين فعل أصبح المرأة التي تنظر إلى البعيد و خلفها ذئب فوق سطح قريب"ص33
لقد اعتمدت القصة على الوصف لكنه ليس وصفا خالصا ،إنه وصف يسرد حكاية متوارية بإتقان و دراية عالية بمقصديته، وصف يوهم بالتوقف عن الحكي ،لكنه في القصة لا يعبر عن تلك الوقفات الوصفية ،إنه بالضبط حكي عبر الصورة و التصوير و كأن السارد يقدم شريطا سينمائيا قصيرا تحكي فيه الصورة و هنا اللغة القصصية بطريقتها الخاصة. لقد جعلت القصة الوصف ينهض بالحكي ،و هو استثمار في الوصف يجعل المتلقي ساردا و متلقيا في نفس الآن، فيتورط في حكي تأويلي لما تقدمه القصة من تصوير ،لكن التصوير و قد حقق الهدف من إدماج المتلقي في الحكاية التي لم تبدأ إلا في ذهن القارىء سينتهي مع فعل (أصبح)،لقد كسب القاص الرهان و لا بد لسارده أو واصفه (هما معا واحد) من استعادة زمام الحكي بل و الوصول إلى ذروته دفعة واحدة ،لقد أصبح السارد/الواصف هو نفسه امرأة تختلس النظر إلى البعيد و خلفها ذئب فوق سطح قريب ،لقد تحول فعلا السارد/الواصف إلى موصوف، و هو الأمر الذي قد يحصل للقارىء/المتلقي المندمج في تتبع الوصف و اختلاق الأفعال /الحكي ،حسب مزاجه و ذائقته و رغباته و...،و عليه يحتاج إلى الانتقال من المتعة و التخيل و...إلى الإنتاج و التأويل.
هكذا نجحت القصة في استثمار بلاغة الوصف لإنتاج بلاغتها الخاصة ،و الدفع بهذه التقنية إلى البحث و الإبداع.
●غواية
السرد غواية و الصورة غواية أيضا، من قال غير ذلك فقد كفر،تلك بداهة الفكرة التي شكلت قصة غواية ،و عبر تصوير يشبه الحلم و سرد يتلمس السر تنطلق تساؤلات الشخصية القصصية "عباس " عن أصل الغواية و عن المرأة و الجاذبية و من ثم يبدأ الرسم ."حين بدأ يرسم تفاحته لم يكن يعرف بعد الشكل و لا الحجم الذي ستأخذهما، كل ما كان يشغله هو هذه الأفكار و المشاعر و الهواجس و المتناقضات..."ص5. حيرة عباس التي ابتدأت مع "أن أصل الغواية امرأة "ص4 و "أن المذكر غرر بالمذكر و لا علاقة لحواء بالغواية "ص4 جعلته على يقين أن الشيطان غرر بآدم، و أن أصل الحكاية هو غواية المذكر للمذكر، أما التفاحة فهي فاكهة السقوط المنذورة للهاوية عن طريق الجاذبية (جاذبية نيوتن) و جاذبية اليد الممتدة إلى الشجرة المحرمة. من هنا انطلق يرسم تفاحته الخاصة أي بمعنى ما جاذبيته الخاصة كما يرسمها الآن، تفاحة "لم تكن تفاحة بالمعنى الحقيقي "ص5. و من هنا يأتي تصويرها "لم تكن حمراء تماما..كانت تقترب من البرتقالي أكثر..و كانت متدلية من الفضاء .."ص5 "تفاحة معلقة في الهواء يحيط بها بياض قاتل "ص6.يريد السرد أن يصل إلى الهاوية عبر تقابل غريب بين البياض و القتل ،و لأنه سرد مخاتل محتال يضيف الوصف عناصر أخرى إلى التفاحة التي ستتدلى من سقف هلامي ...مشدود إلى جدار متآكل بمحاذاة دار شبابيكها من حديد...و خلفك ست نخلات عقيمات و أنت فاكهتها السابعة...انت فاكهتها الوحيدة "ص6. تصبح التفاحة مركزا لكن العالم "يخرج لي الآن لسانه الطويل و يهزأ مني " "أنا اليوم اهزا منك كما لم يهزا منك أحد "ص6
يبدو عباس في مواجهة العالم /التفاحة فيضيف إلى اللوحة أرضية رقعة الشطرنج بمربعات بيضاء و سوداء لا متناهية ."سأجعل لعبتك ممتدة إلى الأبد"ص6. بهذه الإضافات التكتيكية التي تشبه أكسسوارات عرض مسرحي تتغير القصة و تتبدل الحكاية أيضا ،لكن الحكاية التي كانت منطلقا فحسب توارت أمام القصة التي تنكتب الآن على نار هادئة، الحكاية ملكية مشتركة أما القصة فملكية خاصة ،و ها هو عباس يضيف عناصر جديدة إلى اللوحة "الطاووسان لا يشبهان باقي الطواويس..."ص7 طاووسان و تفاحة في لوحة ينقصها شيء يجهله عباس "ربما ينقص رجل ...ربما امرأة متسمرة إلى جدار البيت.."ص8 في النهاية "رسم امرأة دون ملامح "ص9 أما الطاووس فتركه يحاول أن يقطف التفاحة على ظهر ركبة الجسد الذي بلا ملامح ..لكن عباس و قد استلقى على الأريكة في وسط الغرفة سيحتاج إلى رسم جسد آخر بلا ملامح ممددا على كفن وردي فوق سطح السقف الذي تدلت منه التفاحة...كان الطبيب يفتح باب العنبر الواسع و يدخل و كان عباس يرى أن لوحته الناقصة ينقصها هو /فقط،عباس.
هكذا تنتهي القصة بالعودة إلى البداية المحذوفة المتوارية، غرفة في أحد المستشفيات للعلاجات العقلية و النفسية حيث عباس يقضي وقته في التفكير و التأمل، و كأن هذا النوع من التجارب هو الذي يطلق التفكير و يحرر الإبداع، و كأن خارجها مجانين يثقون في البديهات التي ورثوها عن قراءات و حكايات و معتقدات ،يتحرر عباس و يغادر اسوار محبسه /مشفاه بطاقة الفكر و الإبداع فتتغير الحكاية لتظهر القصة و كأن كاتبها "محمد العتروس "ينظر للقصة نفسها لكن من خلال كتابتها أو تركها تنكتب بالتقسيط الجذاب ،و لا عجب أن يكون موضوعها الجاذبية ،علما و سرد و معتقدا، فلكل إنسان جاذبيته الخاصة التي تدفعه إلى مواجهة العالم و البياض و القتل و اللذة و الهاوية و ربما الجنون /العقل الذي يدخل صاحبه مصحة المختلين عقليا ...أما القصة فقد جاءت لتنظر إلى العالم من جديد لا لتسرده كآلة خياطة بل لتعيد معه النظر في المسلمات...اي تلك اليقينيات القاتلة.
●أعلى قليلا
"لا أخطر من طائرة محلقة "،لكن رجلا و امرأة يحلقان طويلا فوق المدينة "التي لا تكترث إلا لضوضائها و لا تنظر إلى أعلى إلا حين تمر طائرة نفاثة أو حين تمطر أو حين يحل الظلام"ص12
رجل أخضر و امرأة زرقاء في الفراغ ،رجل عيناه شاردتان هلعتان و امرأة وجهها اصفر جامد ص12 كلاهما مستسلمان لحركة متجهة إلى الأمام، في السماء ..حيث تطوق يد الرجل خصر امرأة مادة يدها في الفراغ ص12
لوحة السماء تقابلها لوحة الأرض حيث كل شيء ينظر إلى "الأعلى ليرى الرجل و المرأة ينزلون دما "ص13 و على الأرض "كان صراخ الطفل ينبع حادا من الكراسي الخلفية للسيارة الرمادية التي انغرس نصفها الأمامي في الوادي و النصف الآخر استقر على اليابسة "ص13
بين السماء و الأرض تنبت القصة على شكل تقابل بين التحليق و الطيران و حتى الفراغ و الأرض حيث "دور أخرى من طين و عرعر و قش و خشب و رجال و نساء و أطفال كثر "ص13عندما التفت المحلقان لأول مرة إلى اسفل الربوة..كان صراخ الطفل ص13 ثم بدآ ينزفان دما فرأتهما "عنزة تعتلي الربوة و تنظر إلى الأعلى ص13
تحدث الرؤية مرتين:تنظر العنزة إلى الأعلى فترى رجلا و امرأة ينزفان و ينظر الرجل و المرأة إلى أسفل الربوة فيريا الطفل يصرخ ...لكن الرؤيتين متفاوتتان زمنيا فرؤية الطفل أدت إلى رؤية المحلقين و هما ينزفان دما ،بذلك التقديم و التأخير تنفضح حقيقة ،ما يجري على الأرض يؤثر على السماء ..و ما يدفعنا إلى التحليق هو ما يحدث على الأرض، فيندفع الرجل و المرأة إلى المجهول، هل كان فرارا!؟ أم كانا روحين حلقتا بعد أن فارقتا الحياة في حادثة السيارة و تركتا الطفل وحيدا يواجه قدره المحتوم؟
لا تقول القصة كل شيء ،بلاغتها ليست في التقابل فقط ،بلاغتها في الحذف و التقتير و الهدوء المحايد البارد الذي يسبق العاصفة أما السرد و الوصف فيكادان يكونان جدا و روحا لا ينفصلان ."دور و سحب رمادية و دخان ،و أسقف قرميدية حمراء و جدران صخرية ،و أسفلت و حقول ثم دور أخرى من طين و عرعار و قش و خشب ،و رجال و نساء و أطفال كثر ...ثم ربوة و عنزة تعتلي الربوة و تنظر إلى الأعلى لترى الرجل و المراة ينزفان دما "ص13
في النهاية:
إن التحفيز على قراءة قصة قصيرة لا يشبه التأثير الذي يروم الانصياع للحكاية مهما كانت جميلة أو غريبة ،فمفهوم الغرابة يرقى في التحفيز الأول ليمس الشكل المبتكر و قد صارت فيه الحكاية حقلا للاشتغال و مادة للصناعة /البلاغة القصصية ،في حين يروم التاثير الثاني جعل الحكاية مادة منتهية الصلاحية، تتوقف بمجرد تحقق الأثر الذي تحدثه لدى المتلقي، الفرق بين فعلي التحفيز و التاثير هو ما يمكنه تمييز القصة القصيرة ،و هو ما يمكنه أن يحدد هويتها كجنس اشكالي يبحث في هويته عن هويته التي هي مدار اشتغال النقد البلاغي القصصي، و لعل ما تقدمه النماذج السابقة لمحمد العتروس و غيرها من الإبداعات ما يحفز على هذا الطريق.
-"امراة تقرع باب الله "قصص،محمد العتروس ،ط1، 2015،منشورات الموكب الأدبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى