خالد جهاد - الأرمن الفلسطينيون.. عناق الألم والحضارة والإبداع

لطالما كان الأرمن من الشعوب الخلاقة المبدعة التي ساهمت في إثراء ونهضة البلدان التي استقروا فيها بعيداً عن موطنهم الأم أرمينيا، وكانت تلك النجاحات التي أنجزوها على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال مقرونةً ببصمتهم الخاصة، فجمعوا بين المحافظة على ثقافتهم وخصوصيتهم كما نجحوا أيضاً في الإندماج والتعاطي مع مختلف الثقافات التي عاشوا معها بشكلٍ يحسب لهم من حيث القدرة على خلق هذا التوازن الذي لا يأتي به سوى شعب متميز وفريد قادر على الإسهام في الحضارة البشرية..

وطبعاً بعد الإبادة الجماعية المؤلمة التي تعرضوا لها في مطلع القرن الماضي نزح على أثرها أعدادٌ كبيرة منهم إلى العديد من البلدان، وكان من ضمنها عدة دول عربية أضافوا إليها الكثير بوجودهم وأحدها فلسطين، ولكن هذه العلاقة الخاصة جداً بين البلدين ليست حديثة بل تعود إلى قرابة ١٧٠٠ عام، حيث جاءوا في القرن الثالث الميلادي إلى القدس واستقروا فيها مشيدين لاحقاً (في القرن السابع الميلادي) بطريركيةً خاصة بهم أصبحت على مر العصور مقصداً للحجاج الأرمن، وتنتمي الكنيسة الأرمنية لعائلة الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والتي تشمل كنائس الأقباط والأحباش والسريان، وتعد الطائفة الأرمينية في فلسطين الثالثة بعد الروم الأرثوذكس واللاتين من حيث العدد والأهمية، وكانوا أول الحجاج الذين أسسوا مراكز الضيافة والخانات في فلسطين لإستقبال الحجيج، وكانت القدس تشكل مركز الثقل والتواجد الأرميني فيها وكانت أعدادهم فيها الأكبر رغم تواجدهم في مدنٍ فلسطينية أخرى كيافا وبيت لحم وعكا والناصرة وغزة، ولكن مع توالي الحروب والأحداث التي عاشتها المدن الفلسطينية تحت الإحتلال الصهيوني على مدار السنوات تقلص عدد الأرمن الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية وهاجر عدد منهم إلى الخارج فيما ظل جزءٌ منهم حتى يومنا هذا هناك لأن لديهم مجتمعاً متكاملاً ومكاناً خاصاً بهم صنعوه بكل ذكاءٍ وحب، وظلت القدس في الصدارة من حيث التعداد ليليها حي وادي النسناس في حيفا ويتوزع البقية الباقية منهم في بقية المدن الفلسطينية..

وتعتبر حارة الأرمن من أهم المعالم التي وثقت وجودهم وأشهرها هناك، حيث توجد جنوب غربي البلدة القديمة في القدس على مساحة قدرها ٣٠٠ دونماً، أي ما يعادل سدس مساحة البلدة القديمة في القدس، وتتكون حارة الأرمن من مجموعة من البيوت كانت في السابق مأوى للحجاج وأصبحت لاحقاً بيوتا مؤجرة للأرمن، إضافة إلى المستشفى الأرمني الذي تأسس عام ١٩٥١، ودير القديس يعقوب الكبير المكون من كنيسة الرسول يعقوب الكبير التي شيّدت عام ١١٦٥ مكان مقتله، ويعتقد الأرمن أن رأس القديس يعقوب قطعت هناك عام ٤٤ م بأمر من الملك هيرودس الأول بإيعاز من اليهود، وتوجد في هذا الدير عدة أبنية ملحقة به أهمها: مطبعة الدير، منزل لضيافة الغرباء، مدارس للبنين والبنات، مسكن خاص بطلبة اللاهوت، دير الزيتونة للراهبات الأرمينيات، كنيسة الملائكة القديسين. وفي الدير يوجد دهليز ينتهي إلى أحد أبواب السور الجنوبي للقدس، والمعروف باسم باب النبي داود..
كما يحتوي الدير على مكتبةٍ تأسست عام ١٩٢٩ بأموال ٍ تبرع بها الثري الأرميني غولبنكيان، وتضم أكبر مجموعة من الوثائق الأرمينية القديمة في العالم، حيث تضم حوالي ١٦٠,٠٠٠ مجلد و ٣٧٠٠ مخطوط بالإضافة لوثائق أرمنية قديمة تعود للقرون المسيحية الأولى، وقد ترجم عدد محدود من الوثائق العربية إلى اللغة الأرمينية في كتابين:
الأول بعنوان (التاريخ المتسلسل للقدس) للمؤرخ الأرميني هوفانيسيان، وصدر في القدس عام١٨٤٠، والثاني بعنوان (تاريخ القدس) للمؤرخ الأرميني سافلانيان، كما ويضم متحفاً أفتتح عام ١٩٧٨ في إحدى المباني القديمة بالدير التي كانت سابقاً معهداً لاهوتياً.
عدا عن مدرسةٍ خاصة بهم تدعى (تركمانشاتس) والتي أنشأت عام ١٩٢٤ وتهتم بتعليم الأطفال الأرمن منذ الصف الأول حتى إنهاء التعليم الثانوي إلى جانب مدرسة أخرى لتخريج الرهبان وتدريس التعاليم المسيحية..
وقد بنى الأرمن في مدينة القدس العديد من الكنائس والأديرة في القدس ومنها:
دير الزيتونة للراهبات الأرمنيات، كنيسة حبس المسيح، كنيسة أوجاع العذراء، كنيسة مار كريكور لوسكا، نصف كنيسة مار يوحنا في ساحة كنيسة القيامة، هيكل بجوار قبر العذراء في الجتسماني.. إلى جانب الكثير من الأديرة والكنائس في عكا والناصرة وغزة ويافا ومناطق المدن الفلسطينية المحتلة حالياً ومن أشهرها جزء من كنيسة المهد في بيت لحم..

كما أن علاقة الأرمن بالثقافة والفنون علاقة وطيدة فقد كانوا أول من أنشأ ورشةً للتصوير في فلسطين وتتلمذ على أيديهم رائدا التصوير الفوتوغرافي العربي من الرجال والنساء خليل رعد وكريمة عبود، كما كانوا ثاني من ادخل الطباعة إلى فلسطين عام ١٨٣٣ بعد مطبعة (نسيم باق) وهي مطبعة دينية يهودية تأسست عام ١٨٣٠، وليتم لاحقاً تأسيس (مطبعة الأرمن الغريغوريون) في القدس عام ١٨٤٨، وتم من خلاله اصدار عددٍ من الكتب بالحرف الأرميني والتي تناولت موضوعات دينية..
وقد ارتبط دخول الطباعة بشكلٍ عام إلى العالم العربي بالكتب الدينية المسيحية بدءاً من لبنان ثم كانت المطبعة الثانية في مدينة حلب السورية ثم تم افتتاح مطبعتين من جديد في لبنان أيضاً، لتكون مطبعة الإسكندرية هي الخامسة قبل أن تصل الطباعة إلى فلسطين، كما كانوا أول من أسس مصنعاً للسيراميك في فلسطين عام ١٩١٩ على يد داوود أوهانسيان وأيضاً عائلة باليان الأرمنية، إلى جانب اتقانهم فن الخزف والقيشاني والخياطة وصياغة المجوهرات وصناعة آنية النحاس وزخرفتها، عدا عن صناعة الأحذية والكثير من المجالات الأخرى، ويملك الكثير منهم متاجر لبيع الهدايا للسياح الوافدين إلى الأراضي المقدسة..
فضلا عن ذلك كله ثمة أندية رياضية مثل (الهومنتمن) وأخرى ثقافية تهتم بالثقافة واللغة الأرمنية مثل نادي (أراكس) الكاثوليكي..

ومن خلال هذه النظرة الخاطفة والإضاءة المتواضعة على الوجود الأرمني في فلسطين والقدس نجد بصماتهم حاضرة واسهاماتهم تتحدث عنهم وعن محبتهم وصدق انتمائهم وحجم العلاقة التاريخية التي ربطت البلدين والشعبين اللذين تجمعهما الكثير من الصفات المشتركة، والتي تجعل فلسطين وأهلها يفخرون بهم وبكل ما قدموه تماماً كما تفخر بكل انسان وبكل مكون ثقافي ساهم في نهضتها وساندها في شدتها وأثبت بشكلٍ فعلي تعددية الثقافة الفلسطينية القادرة على احتضان الجميع وتحويل هذا التنوع إلى مشهد فسيفسائي متناغم يجسد بصمت معاني الحضارة الحقيقية..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى