كنانة عيسى - الأنساق الثقافية المضمرة في نص (السجين رقم (٦) للأديب الفلسطيني جمال الخطيب

سجين رقم 6... بقلم جمال الخطيب



‏اسمه قاسم أو عبد الكريم ، وربما زكريا، وقيل ان اسمه محمود ، طارده الكابتن (بلاك ) الإنجليزي على طول الجليل في قرى ترشيحا وشِعب حتى مشارف يعبد، يقال انه احب زينب ابنة الشيخ سلمان بالتبني، ولم يشعر بلسع الجمر تحت قدميه الحافيتين حين مشى فوق رماد الموقد صبيحة ذلك اليوم، وعندما أخبر الشيخ معلم المدرسة بالقصة سماه ( العاشق )*..تركه غسان كنفاني ينتظر في إحدى زنازين سجن عكا ..ولم يكمل الحكاية.

‏ تسكن الأسماء حيطان الزنازين الإسمنتية الشرسة، ولا تكترث بالزمن، يحفرها اصحابها غائرة بملعقة طعام أخفوها في ثيابهم، تراقب من يدخل، تقول له اطمئن، نحن هنا، تقفز أمامك فجأة، وهكذا أصبح قاسم سجين الزنزانة السادس، هو يعرف المكان والجذور في التراب أكثر، ويعرف رمل البحر القديم، وكان باطن الارض متواطئا يفتح قلبه الصلد .

الأرض بكر في الخارج حتى حدود البحر ومرج ابن عامر، يتسلق العوسج شقوق الصخور العنيدة، وتنتشر رائحة الزعتر الحارق على جنبات دروب الماعز الضيقة في شعاب جلبوع حين تدوسها حوافر فرسه المتيقظة سنين المطاردة الثلاث، تواطأت الأرض معهم وفتحت لهم في بلاط الزنزانة ثقبا.
قفز قاسم او عبد الكريم او محمود او زكريا - أياً كان- عبر الثقب ..كانت زينب تهم بالهروب من أمامه خجلا حين رأى وجهها، وكانت جميلة، وكان الشيخ سلمان ما يزال واقفا على عتبة الدوار يراقب قدميه الحافيتين وهي تدوس رماد الجمر المختبيء، ترنو اليه الفرس بحب، تهمهم: أن الوقت لم يحن بعد .

‏تطاول العوسج في الشقوق، وامتلأ الجو برائحة الزعتر الحارق، أخبرته أن الكابتن (بلاك) ما زال يبحث عنه، وأن الطرق الجبلية الضيقة الى الجليل وحتى جنين تحت العيون، وان عليه ان يكون حذرا.
‏يقف الزمن على صهوة حصان، يملأ رئتيه هواء البحر الرطب القادم من الغرب، ينحني بجسده على عنق الفرس في الظلام، يصبحان جسدا واحدا، يبدوان كائنا خرافيا يخب على أربع، تسكن الأسطورة مخيلة الناس، يتوجس أعوان الإنجليز عند سماعها.
‏يهمهم، لم يحن الوقت بعد، ينزله عن ظهره، يشم شعره، يداعب عنقه بأنفه، يدفعه برأسه بين كتفيه إلى الأمام، ويودعه .
‏يحدق قاسم في الأسماء الغائرة على جدار الزنزانة، كانت خمسة، ما تزال محفورة هناك.
‏يترك كنفاني قاسم في سجن عكا، يخبره ان الكابتن بلاك لن يبقى طويلا .
‏يغمض عينيه ويعود إلى الجدار .
......................
* العاشق : رواية غير مكتملة للشهيد غسان كنفاني .
الأنساق الثقافية المضمرة في نص (السجين رقم ٦)
‏هل يوجد في نصوص المبدع جمال الخطيب إلا الإذهال؟ إن نصا مثل نص السجين رقم ٦ هو ،تجربة فردية محدودة خالية من آليات الضبط القدري في مآسي الحياة؟فهي قد حدثت وما تزال تحدث وستحدث. هذا النص هو اعتبار مختلف ل زمان ومكان عائمين في ذاكرة جماعية تذوب فيها التجربة الفردية، هل سيساعدنا ذلك على استيعاب حجم الموهبة السردية؟، إن اللحظة التي نلج فيها العالم السردي الموازي ، هي لحظة فارقة تفرض علينا وعيًا شموليًا، يجبرنا على تلبسه، وعلى الانتماء لثقافته المغايره لمنطق فهمنا و على الحقيقة المؤلمة التي تترصد بنا حين تحاصرنا رائحة العوسج، وتتدفق من جلودنا حرقة الزعتر الأخضر، و نضيع بين القرى المجهولة الحالمة في الأرض المقدسة ، محشورين مع أسماء السجناء المنسيين في جدار رطب لم يتنكر لأناملهم المدماة التي تلاشت منذ أمد بعيد، متتبعين عالمًا تخيليَا يستند لقوانين الكاتب وحده، عالمَا عشقيًا فوضويًا تتعاقب عليه وجوه زينب و زكريا وقاسم يتسرب من ثقب زنزانة تتنفس.يحرسه كائن خرافي يرعب الطغاة... واسمه الزمن…
فما هي أنساق النص الثقافية المضمرة التي سنتناولها أثناء قراءتنا النقدية لهذاالنص؟
النسق الثقافي الأول
إحياء أدب خاص من خلال شخصية روائية
يبدأ الاستهلال ببداية خبرية... بسيطة، تبدو كحكاية ١- قديمة نعرفها جميعًا لكنها المدخل الذي سيقود المتلقي إلى عالم موازي تستيقظ فيه شخصية روائية في سرد قصصي ناسجة أنساقًا رمزية غير معلنة.فماهي هذه الانساق؟وكيف يمكن لشخصية روائية أن تعود من صفحات كتاب لم يكتمل ،لتخلق وجودًا بهذا الصخب و حضورًا حيًا يتكئ على الماضي ليقرأ الحاضر و يخبرنا عن المستقبل.
النسق الثقافي الثاني
المقطعية البنيوية القصدية (هندسة السياق) وسحر الراوي العليم
نرى أنَّ الكاتب خلق تجديداً محورياً في بعث الحياة في شخصية (قاسم أو محمود أو زكريا) ،فقد تقصد الانتقال من الرواية إلى حاضر الراوي العليم الذي نثق به و نتكامل برؤيته . والذي يجعلنا بدوره نتورط في فضاءه السردي ونغدو جزءً منه
الانتقال من الرواية إلى حاضر الراوي العليم، لم يسئ لبنية عناصر النص الحداثي بل أعطاها استلهاماً خاصًا
المقطعية المتناوبة بين الخبر والفعل تسوق النص للاختلاف بين الظاهر المعلن و بين الباطن المضمر بين السارد الذي عاش التجربة و ربما لازال يعيشهاو بين قاسم البطل الروائي الذي يتقمص الحواس واللامكتوب لينقل لنا معاناة الإنسان العربي الفلسطيني المحاصر.الشخصية الروائية اللامكتملة يكسوها اللحم والدم و تنقل لنا الحاضر بنبوءات المستقبل.
فكلما أردنا التكلم عن الحاضر بدأ السياق بجملة فعلية وكلما أراد الكاتب التحدث عن ماضي الشخصية الروائية بدأ السياق بجملة خبرية.
.
النسق الثقافي الثالث
خلق خريطة جغرافية مبهمة
خريطة للمناضل العربي المحاصر( جغرافية المكان ) تكرر نفسها
هرب قاسم من نفس الطرق، كما هرب السجناء الستة
النسق الثقافي الرابع
أنسنة الزمكان
تعمد الكاتب أن يجعل من جدران الزنزانة شخصية واعية تجمع الابطال وتكرمهم و تحتفي بآثارهم ،فهم مندمجون فيها بأسمائهم بعد رحيلهم المادي وبمعاناتهم الصامتة وهم سجناء يحاولون الفرار من قدرهم وكشخصيات روائية ما زالت عالقة في حدث مبهم يطل علينا من رواية قديمة لا تنتهي.
ومن الزمن بطلا اسطوريا يطوع المستحيل يتحول لخرافة أسطورية طاغية تهدد المحتل الغاشم بأن النهايات قادمة ولا ريب
كما ورد في النص
يقف الزمن على صهوة حصان، يملأ رئتيه هواء البحر الرطب القادم من الغرب، ينحني بجسده على عنق الفرس في الظلام
ومالهدف من إعادة
إعادة خلق شخصية المناضل العربي من ثلاثينيات القرن الماضي إلا نوع من الاتكاء على الماضي لقراءة الحاضر ، هو نوع من العودة لأدب المناضل الشهيد غسان كنفاني من خلال رمزية
الأسماء المحفورة على الجدران في الزنزانة
النسق الثقافي الخامس
رمزية الأسماء
كما ورد في النص
يحدق قاسم في الأسماء الغائرة على جدار الزنزانة، كانت خمسة، ما تزال محفورة هناك.
‏يترك كنفاني قاسم في سجن عكا، يخبره ان الكابتن بلاك لن يبقى طويلا .
‏يغمض عينيه ويعود إلى الجدار .
......................
وكما ورد في النص
تواطأت الأرض معهم وفتحت لهم في بلاط الزنزانة ثقبا
التقى قاسم بالسجناء الخمسة وتلبس أحدهم، هو مازال في ذات الزنزانة ينتظر فرسه الأصيلة التي لا تزالت تهمهم: بأن الوقت لم يحن بعد
في النهاية
سيبقى قاسم سجينا ْ……. لأن القضية ما لم تنتهي بعد، غسان كنفاني علم ذلك،وكاتبنا علم ذلك
أيضًا.

إذهال يتحدى كل قارئ. / كنانة عيسى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى