حسبنا الضحك ونعم الوكيل
الساعة السادسة والنصف مساء· مطعم (إلدواردو) هادئ· مائدة شكري خالية· لم نتواعد على لقاء· قال النادل:
"اجلس تسناه· دابا وهو جَا"·
كنت أحمل معي "سبعون دقيقة حكايات " لعبد السلام العُجيلي، استغرقت في القراءة·
ــ ماذا تقرأ؟
ألتف إلى الصوت الآتي من خلفي· إنه محمد شكري·
ــ أقرأ محاضرات عبد السلام العجيلي·
نضا عنه سترته وألقاها جانبا· جلس:
ــ إنه كا تب قصة جيد· قرأت روايته "قلوب على الأسلاك" ولم تعجبني· يبدو لي أن مواطنه حنا مينه أفضل منه روائيا· هل يعجبك؟
ــ لم أقرأ له من قبل· أعجبني أسلوبه الساخر في هذا الكتاب· قبل أن تأتي، كنت أقرأ وأضحك، حتى ظن بي النادل الظنون·
التقط شكري الكتاب من فوق المائدة، تصفحه·
ناولنيه:
ــ إقرأ عليَّ لأشاركك الضحك·
فتحت الكتاب حيث توقف بي الضحك· وقرأت :
"يحكون أن الرئيس فلان عاد مرة منتشيا إلى منزله آخر الليل· حياه حارس الحي ووقف يلاحظه وهو يحاول أن يدخل المفتاح في ثقب الباب فلا يتمكن· لرعشة يديه· قال له الحارس: اسمح لي سيدي أفتح لك· فأجابه الرئيس: لا تتعب نفسك· امسك لي أنت بالبناية حتى لا تميل· وأنا أدخل المفتاح في موضعه!"·
انفجر ضحكاتنا ممزقة صمت المكان· علق شكري:
ــ يبدو أن الرئيس الظريف كان يشرب وهو يتذكر قول أبي نواس: "اسقني حتى تراني أحسب الديك حمارا!"·
هاها·· هاها·· هاها·
ذاك مساء لا ينسى·
الضحك فيه كان حسبنا ونعم الوكيل·
قسوة بيضاء كالطفولة
في مساء الغد· وصل إلى (إلدواردو)· السابعة والربع حسب الموعد· كان شكري جالسا صحبة شخص لا أعرفه· قدمه لي: "الشاعر العراقي علي جعفر العلاق"·
كان شكري مزكوما، كثير السعال· لكنه بدا رائعا، مدهشا، وهو يتحدث عن السفر، الكتابة، الحياة، وذكريات الطفولة المعذبة· كنت صامتا في الغالب· بينما تبدَّى العلاق محدثا بارعا "يقيم في الكلام ويكبر فيه"· بتعبير الشاعر عباس بيضون·
لم أمكث إلا قليلا· تركتهما لذكرياتهما المشتركة· غادرت وفي الدخيلاء إعجاب بالنضارة التي ينبض بها كيان هذا العراقي المولد الإماراتي الإقامة·
فيما بعد، سينشر علي جعفر العلاق مقالة في صحيفة (الاتحاد الاشتراكي) بعنوان: "محمد شكري: قمر يبزغ من أسمال طفولته"· يقول فيها: "كل شيء في طنجة يدلك على شكري: رائحة البحر، والباعة المتجولون، رواد المكتبات، وماسحو الأحذية، طراوة الليل وضجيج المارة· تأسرني في محمد شكري رقة لا تخلو من عنف· وقسوة بيضاء كالطفولة· وكأنه الأضداد مجتمعة في جوار غريب، الحلم والعناد، الدفء والصرامة· الحماقة والأسى"·
برج الحمل:
لم أتعمد يوما استفزاز محمد شكري· لكني ـ كسواي من جلسائه ـ لم أفلت من (الغضب الشكري)· ونالني منه ما يستحق أن أستعيده من مخزون الذاكرة·
ذات صباح في (الريتز)، كان شكري يحدثني عن ولعه بتربية الحيوانات (كلب، طائر، سلحفاة)· قال: "أحرص على تغذيتها بنفسي غالبا· وأحيانا تقوم بذلك فتحية· وجود هذه الكائنات في باحة الشرفة يشعرني بنبض الحياة"·
أقول له بتلقائية، غير قاصد إثارة انفعاله:
ــ ولعك بالحيوانات هل يعوضك عن غياب المرأة في حياتك، وبالتالي يسعفك على الانفلات من وحدتك؟
انقبضت ملامح وجهه· قال بانزعاج:
ــ سؤالك تافه! لا يثير إلا جوابا تافها! إنك تذكرني بالإعلامية فاطمة التواتي· جاءت إلى بيتي لتسجل معي حوارا للقناة الأولى· سألتني: "إن بيتك يمتلئ بالدمى المعطوبة· فهل المرأة، في رأيك، معطوبة؟!"· مثل هذه الاستنتاجات المتعجّلة تدل على غباء!
أردت أن أقول شيئا أوضِّح به خلفية سؤالي· يقاطعني في حسم:
ــ من فضلك· لنحدث في موضوع آخر·
فكر : إذا ما استثير محمد شكري يصبح عنيف التعبير·
إنه برج الحمل!
حكاية (الباب والمفتاح)
حين يكون مزاج محمد شكري رائقا، وتستهويه الجلسة، يسهر حتى منتصف الليل، أو حتى ساعات الصباح الأولى·
نتهيأ للمغادرة، يطلب مني أن أبقى معه: "انتظر حتى ترافقني إلى باب العمارة· ثم انصرف"· نصل إلى باب العمارة· أهم بوداعه· يستوقفني بإشارة من يده: "لا تنصرف، ياحسن، حتى أفتح الباب وأحكم غلقه"·
أظل رابضا حيث أنا، لا أغادر حتى أسمع عبارته الوداعية المألوفة، الآتية من وراء الباب الزجاجي المغلق:
"حيَّاك الله"·
ألتقيه في اليوم الموالي· أذكره بحكاية (الباب والمفتاح)·
أسأله بفضول:
ــ هل تخشى شيئا السي محمد؟
يقول بصراحته المعهودة:
ــ لم يعد ثمة أمان في هذه المدينة· كل يوم نسمع ونقرأ عن حدوث جرائم قتل بشعة·
توتره يتصاعد، في نبرة ذات توجس غامض يواصل:
ــ هناك أوغاد كثيرون يترصدون خطوات أمثالي· وهم مستعدون للسلب والنهب، وحتى القتل، من أجل المال! لكني مستعد لمواجهة كل الاحتمالات ·
قال ذلك وأخرج من جيبه سكينا حادا!!
تذكرت شكري الشاب، الذي كان يخوض معاركه، في أحياء تطوان وطنجة، متسلحا بشفرات الحلاقة·
اللاَّمكتمل أجمل
في زيارتي الأولى لشقته (صيف 1998)، أطلعني محمد شكري على مقتنياته· تجول بي بين ممرات البيت وغرفه الثلاث· المفتوحة على بعضها البعض: "هذا البساط من تصميم جان جنيه· الرسوم الكاريكاتورية التي أمامك أنجزها أحمد الشنتوف· عبد السلام عباد، خبالي، وآخرون· هنا صورة شيخنا الريفي عبد الكريم الخطابي، ثم صورة لي عندما كان عمري ثمانية عشر عاما· في الجهة الأخرى لوحات تشكيلية لرسامين مغاربة وأجانب تساوي الآن الملايين· انظر إلى خزانة الأسطوانات · إنها تضم أغاني نادرة جدا لحسيبة رشدي، صبيحة التونسية، نعيمة سميح، عالية الأطرش، الدكالي، الشيخ العنقة، سليمة مراد، محمد الحياني، ولور دكاش· هذا الشريط (يشير إليه بيده) يتضمن أغنية نادرة لمحمد عبد الوهاب عندما كان عمره سبعة أعوام، إسمها "ألفيتها ساهرة"· وعندي أيضا أسطوانات للموسيقى الأندلسية، وموسيقى الشعوب"·
أنظر إلى الجدران المكسوة بما يستهوي البصر· أقترب من ساعة حائطية عتيقة· يلفت انتباهي توقف عقاربها عن (التكتكة)· يعلق شكري:
ــ هذه الساعة عمرها أكثر من مائة سنة· إنها تحفة لا تقدر بثمن·
ــ ألاحظ أنها لا تعمل· عقاربها متوقفة·
ــ هذا لا يهم· يكفي أن أنظر إليها· عندي ساعات أخرى تعمل جيدا· حتى الساعات المعطوبة لها جمالها الخاص·
ثمة هنا وهناك دمى تنقصها أعين، أذرع، أرجل، ورؤوس· يستوقفني عطبها· أتساءل في سريرتي:
" ُترى ما الذي أغرى شكري باقتنائها؟"· يستشعر هو فضولي· يقول ضاحكا:
ــ إنها هكذا، دمى معوقة· لو لم تكن معوقة لما احتفظ بها!
ــ هل يستهويك اللامكتمل!
ــ أوه· كثيرا جدا· الكمال ينعدم في الأشياء والكائنات· اللامكتمل دائما أجمل·
ينشق قلبه عما تحته
يتبدَّى محمد شكري لمن سمع ولم ير: ذلك الكاتب المتجهم· المتعالي· المتطاوس· ذلك الرجل الذي صاغته الجدية، فأنكر الفكاهة· ورأى فيها نقيضا·
القريبون منه، درجة الصداقة، هم وحدهم يدركون كنهه: طفل يمتشق النكتة· خفة دم تتدافق، تنشحن ضحكا يغسل أحزان القلب· تعليقات مكثفة· منحوتة من غبار السخرية، وعبق العيش في القاع·
كنا جالسين في مطعم (إلدورادو)· دخلت سيدة ثلاثينية· ترتدي قميصا بنفسجيا يخبئ صدرا نافرا· وبنطلون دجنز ضيقا، مشدودا، يبرز مؤخرتها الهائلة·
تأملها شكري بحواسه الخمس (هل حركت في نفسه أوتارا؟!)· قال منكتا:
ــ انظر· مؤخرتان في سروال!!
نضحك بصوت عال يلف انتباه الجالسين حولنا·
يضيف شكري بصوت خفيض:
ــ إننا نعيش زمن المؤخرات المسرولة!!
ذات جلسة لا تنسى، وقف بنا الحديث عند أكثر النكات شيوعا في طنجة· رويت النكتة التالية:
"مذيعة عندها عطب في مخارج الحروف· أرادت يوما أن تقول: (نهوض المرأة)، فسمع الناس: (نهود المرأة)!"·
ضحك شكري ملء فيه· قال في مرح: "عندي نكتة أجمل، وأكثر إضحاكا، ديك اعتاد أن يلتقي صديقته الدجاجة كل أسبوع· في اليوم الموعود يتعرض الديك لهجوم من طرف أطفال أشقياء، يخرج منه منتوف الريش· في حالته تلك يذهب الديك إلى الدجاجة· يقول لها: أخي يعتذر عن عدم مجيئه اليوم!"
نضحك حتى يختلط ضحكنا بالسعال·
هذا ما كانه محمد شكري: رجل يعلو فوق التحفظات· يعلن مرحه بشتى الوسائل· ينشق قلبه عما تحته ـ برغم أنف المتنبي!
سقيا لك يا عهد ورعيا·
لنستمع إلى الموسيقى
"ما أقضيه داخل بيتي ضعف ما أقضيه خارجه· لم تعد الأمكنة تغريني· قبل عشرين عاما لم يكن بيتي يسع نزواتي· كان مكانا للنوم فقط· الآن يمكن أن أمضي ساعات متتالية في هذه الغرفة (جزء من السطيحة) دون أن أصاب بملل· إنني أعرف جيدا كيف أتآلف مع ما حولي"·
هكذا يقول محمد شكري معلقا على ما لاحظته من أنه لم يعد يسهر خارج بيته كما السابق·
كنت ضيفا عليه· وكنا نجلس في الغرفة الصغيرة، التي فيها يتناول طعامه، يستقبل ضيوفه· يكتب· وأحيانا ينام· أقول له:
ــ استضفت الكثير من الكتاب والفنانين في بيتك·
ــ نعم، نادرا ما كان البيت يخلو من الزوار· أحيانا كان هذا المكان يكتظ بهم· فلا أستطيع التحرك بسهولة بين غرفه·
ــ في حديث لك مع إحدى المجلات ، قلت َ إن شقتك كانت مثل "ملجأ" فأصبحت الآن "مكانا مقدسا لا يدخله إلا المطهرون"!
يضحك· يقول في تؤدة وهو يبحث عن كلماته:
ــ لم أعد أطيق الإزعاج· كثير من زواري كانوا يتصرفون بطريقة سيئة· وبعضهم كان يسرقني· بين فترة وأخرى، كن أكتشف اختفاء كتب، قمصان، منفضات، شرائط موسيقية، علب سجائر، وأشيائي الأخرى!
ــ هل كن تعرف صاحب الفعلة؟؟
ــ من أين لي أن أعرف؟ لقد كانوا كثرا· أوفَْ! لقد ضقت بهذا الحديث· أنت فضولي أكثر من اللازم!
نهض· "لنستمع إلى الموسيقى· هذا أفضل من الثرثرة"·
ضغط زر آلة التسجيل· تهادى صوت لور دكاش في الغرفة: "آمنت بالله· نورك آية"·
كاتب سبق سنه
غالبا ما نكون· شكري وأنا، وحيدين في الركن الشمالي من مطعم (الريتز)، أحيانا يشاركنا الجلسة الكاتب المسرحي الزبير بن بوشتى، بدعوة تليفونية ملحة من شكري، إنه يكن له تقديرا خاصا، ويحب الحديث معه·
كثيرا ما ألتزم الصمت· وأصغي لنقاشاتهما الرائعة حول الكتابة والقراءة· وبقدر ما يتفق الزبير وشكري حول أشياء، ينشب بينهما، وفيهما، الاختلاف حول أخرى· لكنهما يعرفان جيدا كيف يحافظان على الكثير المشترك بينهما: يتمسكان بالمتفق عليه (وهو كثير)· ويدعان المختلف عنه (وهو كثير أيضا) إلى الخلف يتوارى·
"قرأت ما كتبته عن الزبير بن بوشتى في عمودك (هؤلاء عرفتهم) بجريدة (الشمال)"·
يقول لي شكري، ذات ثلاثاء، وهو يستقبلني في شقته·
أسأله:
ـ ما رأيك فيما كتبت؟
ـ جيد·
ـ كيف ترى الزبير؟
ـ كاتب مسرحي سبق سنه·
ـ أيام الخصاص المادي:
كنت وشكري في طريقنا إلى (الريتز)، كان يحدثني عن أيام بؤسه المادي· فيضحك عاليا ويقول: "كنت أسرع في قراءة الكتاب لأبيعه وأستفيد من ثمنه"·
بالقرب من سينما (موريطانيا)، توقف عن السير· أشار بيده إلى أحد المحلات التجارية: "هنا كانت مكتبة تستقطب الكثير من مثقفي طنجة· أذكر أن المرحوم عبد اللطيف الفؤادي عرفني على صاحبها· وبسبب من خصاص مادي قاهر، بعت له حقوق طبع ونشر "الخبر الحافي" بمبلغ قدره 15000درهم· سلمني 500 درهم عند توقيع العقد· والتزم بسداد الباقي خلال شهر واحد، وعندما تماطل في الآراء، أرجعت له ما دفعه لي، ومزقت العقد!"·
8/13/2005
الساعة السادسة والنصف مساء· مطعم (إلدواردو) هادئ· مائدة شكري خالية· لم نتواعد على لقاء· قال النادل:
"اجلس تسناه· دابا وهو جَا"·
كنت أحمل معي "سبعون دقيقة حكايات " لعبد السلام العُجيلي، استغرقت في القراءة·
ــ ماذا تقرأ؟
ألتف إلى الصوت الآتي من خلفي· إنه محمد شكري·
ــ أقرأ محاضرات عبد السلام العجيلي·
نضا عنه سترته وألقاها جانبا· جلس:
ــ إنه كا تب قصة جيد· قرأت روايته "قلوب على الأسلاك" ولم تعجبني· يبدو لي أن مواطنه حنا مينه أفضل منه روائيا· هل يعجبك؟
ــ لم أقرأ له من قبل· أعجبني أسلوبه الساخر في هذا الكتاب· قبل أن تأتي، كنت أقرأ وأضحك، حتى ظن بي النادل الظنون·
التقط شكري الكتاب من فوق المائدة، تصفحه·
ناولنيه:
ــ إقرأ عليَّ لأشاركك الضحك·
فتحت الكتاب حيث توقف بي الضحك· وقرأت :
"يحكون أن الرئيس فلان عاد مرة منتشيا إلى منزله آخر الليل· حياه حارس الحي ووقف يلاحظه وهو يحاول أن يدخل المفتاح في ثقب الباب فلا يتمكن· لرعشة يديه· قال له الحارس: اسمح لي سيدي أفتح لك· فأجابه الرئيس: لا تتعب نفسك· امسك لي أنت بالبناية حتى لا تميل· وأنا أدخل المفتاح في موضعه!"·
انفجر ضحكاتنا ممزقة صمت المكان· علق شكري:
ــ يبدو أن الرئيس الظريف كان يشرب وهو يتذكر قول أبي نواس: "اسقني حتى تراني أحسب الديك حمارا!"·
هاها·· هاها·· هاها·
ذاك مساء لا ينسى·
الضحك فيه كان حسبنا ونعم الوكيل·
قسوة بيضاء كالطفولة
في مساء الغد· وصل إلى (إلدواردو)· السابعة والربع حسب الموعد· كان شكري جالسا صحبة شخص لا أعرفه· قدمه لي: "الشاعر العراقي علي جعفر العلاق"·
كان شكري مزكوما، كثير السعال· لكنه بدا رائعا، مدهشا، وهو يتحدث عن السفر، الكتابة، الحياة، وذكريات الطفولة المعذبة· كنت صامتا في الغالب· بينما تبدَّى العلاق محدثا بارعا "يقيم في الكلام ويكبر فيه"· بتعبير الشاعر عباس بيضون·
لم أمكث إلا قليلا· تركتهما لذكرياتهما المشتركة· غادرت وفي الدخيلاء إعجاب بالنضارة التي ينبض بها كيان هذا العراقي المولد الإماراتي الإقامة·
فيما بعد، سينشر علي جعفر العلاق مقالة في صحيفة (الاتحاد الاشتراكي) بعنوان: "محمد شكري: قمر يبزغ من أسمال طفولته"· يقول فيها: "كل شيء في طنجة يدلك على شكري: رائحة البحر، والباعة المتجولون، رواد المكتبات، وماسحو الأحذية، طراوة الليل وضجيج المارة· تأسرني في محمد شكري رقة لا تخلو من عنف· وقسوة بيضاء كالطفولة· وكأنه الأضداد مجتمعة في جوار غريب، الحلم والعناد، الدفء والصرامة· الحماقة والأسى"·
برج الحمل:
لم أتعمد يوما استفزاز محمد شكري· لكني ـ كسواي من جلسائه ـ لم أفلت من (الغضب الشكري)· ونالني منه ما يستحق أن أستعيده من مخزون الذاكرة·
ذات صباح في (الريتز)، كان شكري يحدثني عن ولعه بتربية الحيوانات (كلب، طائر، سلحفاة)· قال: "أحرص على تغذيتها بنفسي غالبا· وأحيانا تقوم بذلك فتحية· وجود هذه الكائنات في باحة الشرفة يشعرني بنبض الحياة"·
أقول له بتلقائية، غير قاصد إثارة انفعاله:
ــ ولعك بالحيوانات هل يعوضك عن غياب المرأة في حياتك، وبالتالي يسعفك على الانفلات من وحدتك؟
انقبضت ملامح وجهه· قال بانزعاج:
ــ سؤالك تافه! لا يثير إلا جوابا تافها! إنك تذكرني بالإعلامية فاطمة التواتي· جاءت إلى بيتي لتسجل معي حوارا للقناة الأولى· سألتني: "إن بيتك يمتلئ بالدمى المعطوبة· فهل المرأة، في رأيك، معطوبة؟!"· مثل هذه الاستنتاجات المتعجّلة تدل على غباء!
أردت أن أقول شيئا أوضِّح به خلفية سؤالي· يقاطعني في حسم:
ــ من فضلك· لنحدث في موضوع آخر·
فكر : إذا ما استثير محمد شكري يصبح عنيف التعبير·
إنه برج الحمل!
حكاية (الباب والمفتاح)
حين يكون مزاج محمد شكري رائقا، وتستهويه الجلسة، يسهر حتى منتصف الليل، أو حتى ساعات الصباح الأولى·
نتهيأ للمغادرة، يطلب مني أن أبقى معه: "انتظر حتى ترافقني إلى باب العمارة· ثم انصرف"· نصل إلى باب العمارة· أهم بوداعه· يستوقفني بإشارة من يده: "لا تنصرف، ياحسن، حتى أفتح الباب وأحكم غلقه"·
أظل رابضا حيث أنا، لا أغادر حتى أسمع عبارته الوداعية المألوفة، الآتية من وراء الباب الزجاجي المغلق:
"حيَّاك الله"·
ألتقيه في اليوم الموالي· أذكره بحكاية (الباب والمفتاح)·
أسأله بفضول:
ــ هل تخشى شيئا السي محمد؟
يقول بصراحته المعهودة:
ــ لم يعد ثمة أمان في هذه المدينة· كل يوم نسمع ونقرأ عن حدوث جرائم قتل بشعة·
توتره يتصاعد، في نبرة ذات توجس غامض يواصل:
ــ هناك أوغاد كثيرون يترصدون خطوات أمثالي· وهم مستعدون للسلب والنهب، وحتى القتل، من أجل المال! لكني مستعد لمواجهة كل الاحتمالات ·
قال ذلك وأخرج من جيبه سكينا حادا!!
تذكرت شكري الشاب، الذي كان يخوض معاركه، في أحياء تطوان وطنجة، متسلحا بشفرات الحلاقة·
اللاَّمكتمل أجمل
في زيارتي الأولى لشقته (صيف 1998)، أطلعني محمد شكري على مقتنياته· تجول بي بين ممرات البيت وغرفه الثلاث· المفتوحة على بعضها البعض: "هذا البساط من تصميم جان جنيه· الرسوم الكاريكاتورية التي أمامك أنجزها أحمد الشنتوف· عبد السلام عباد، خبالي، وآخرون· هنا صورة شيخنا الريفي عبد الكريم الخطابي، ثم صورة لي عندما كان عمري ثمانية عشر عاما· في الجهة الأخرى لوحات تشكيلية لرسامين مغاربة وأجانب تساوي الآن الملايين· انظر إلى خزانة الأسطوانات · إنها تضم أغاني نادرة جدا لحسيبة رشدي، صبيحة التونسية، نعيمة سميح، عالية الأطرش، الدكالي، الشيخ العنقة، سليمة مراد، محمد الحياني، ولور دكاش· هذا الشريط (يشير إليه بيده) يتضمن أغنية نادرة لمحمد عبد الوهاب عندما كان عمره سبعة أعوام، إسمها "ألفيتها ساهرة"· وعندي أيضا أسطوانات للموسيقى الأندلسية، وموسيقى الشعوب"·
أنظر إلى الجدران المكسوة بما يستهوي البصر· أقترب من ساعة حائطية عتيقة· يلفت انتباهي توقف عقاربها عن (التكتكة)· يعلق شكري:
ــ هذه الساعة عمرها أكثر من مائة سنة· إنها تحفة لا تقدر بثمن·
ــ ألاحظ أنها لا تعمل· عقاربها متوقفة·
ــ هذا لا يهم· يكفي أن أنظر إليها· عندي ساعات أخرى تعمل جيدا· حتى الساعات المعطوبة لها جمالها الخاص·
ثمة هنا وهناك دمى تنقصها أعين، أذرع، أرجل، ورؤوس· يستوقفني عطبها· أتساءل في سريرتي:
" ُترى ما الذي أغرى شكري باقتنائها؟"· يستشعر هو فضولي· يقول ضاحكا:
ــ إنها هكذا، دمى معوقة· لو لم تكن معوقة لما احتفظ بها!
ــ هل يستهويك اللامكتمل!
ــ أوه· كثيرا جدا· الكمال ينعدم في الأشياء والكائنات· اللامكتمل دائما أجمل·
ينشق قلبه عما تحته
يتبدَّى محمد شكري لمن سمع ولم ير: ذلك الكاتب المتجهم· المتعالي· المتطاوس· ذلك الرجل الذي صاغته الجدية، فأنكر الفكاهة· ورأى فيها نقيضا·
القريبون منه، درجة الصداقة، هم وحدهم يدركون كنهه: طفل يمتشق النكتة· خفة دم تتدافق، تنشحن ضحكا يغسل أحزان القلب· تعليقات مكثفة· منحوتة من غبار السخرية، وعبق العيش في القاع·
كنا جالسين في مطعم (إلدورادو)· دخلت سيدة ثلاثينية· ترتدي قميصا بنفسجيا يخبئ صدرا نافرا· وبنطلون دجنز ضيقا، مشدودا، يبرز مؤخرتها الهائلة·
تأملها شكري بحواسه الخمس (هل حركت في نفسه أوتارا؟!)· قال منكتا:
ــ انظر· مؤخرتان في سروال!!
نضحك بصوت عال يلف انتباه الجالسين حولنا·
يضيف شكري بصوت خفيض:
ــ إننا نعيش زمن المؤخرات المسرولة!!
ذات جلسة لا تنسى، وقف بنا الحديث عند أكثر النكات شيوعا في طنجة· رويت النكتة التالية:
"مذيعة عندها عطب في مخارج الحروف· أرادت يوما أن تقول: (نهوض المرأة)، فسمع الناس: (نهود المرأة)!"·
ضحك شكري ملء فيه· قال في مرح: "عندي نكتة أجمل، وأكثر إضحاكا، ديك اعتاد أن يلتقي صديقته الدجاجة كل أسبوع· في اليوم الموعود يتعرض الديك لهجوم من طرف أطفال أشقياء، يخرج منه منتوف الريش· في حالته تلك يذهب الديك إلى الدجاجة· يقول لها: أخي يعتذر عن عدم مجيئه اليوم!"
نضحك حتى يختلط ضحكنا بالسعال·
هذا ما كانه محمد شكري: رجل يعلو فوق التحفظات· يعلن مرحه بشتى الوسائل· ينشق قلبه عما تحته ـ برغم أنف المتنبي!
سقيا لك يا عهد ورعيا·
لنستمع إلى الموسيقى
"ما أقضيه داخل بيتي ضعف ما أقضيه خارجه· لم تعد الأمكنة تغريني· قبل عشرين عاما لم يكن بيتي يسع نزواتي· كان مكانا للنوم فقط· الآن يمكن أن أمضي ساعات متتالية في هذه الغرفة (جزء من السطيحة) دون أن أصاب بملل· إنني أعرف جيدا كيف أتآلف مع ما حولي"·
هكذا يقول محمد شكري معلقا على ما لاحظته من أنه لم يعد يسهر خارج بيته كما السابق·
كنت ضيفا عليه· وكنا نجلس في الغرفة الصغيرة، التي فيها يتناول طعامه، يستقبل ضيوفه· يكتب· وأحيانا ينام· أقول له:
ــ استضفت الكثير من الكتاب والفنانين في بيتك·
ــ نعم، نادرا ما كان البيت يخلو من الزوار· أحيانا كان هذا المكان يكتظ بهم· فلا أستطيع التحرك بسهولة بين غرفه·
ــ في حديث لك مع إحدى المجلات ، قلت َ إن شقتك كانت مثل "ملجأ" فأصبحت الآن "مكانا مقدسا لا يدخله إلا المطهرون"!
يضحك· يقول في تؤدة وهو يبحث عن كلماته:
ــ لم أعد أطيق الإزعاج· كثير من زواري كانوا يتصرفون بطريقة سيئة· وبعضهم كان يسرقني· بين فترة وأخرى، كن أكتشف اختفاء كتب، قمصان، منفضات، شرائط موسيقية، علب سجائر، وأشيائي الأخرى!
ــ هل كن تعرف صاحب الفعلة؟؟
ــ من أين لي أن أعرف؟ لقد كانوا كثرا· أوفَْ! لقد ضقت بهذا الحديث· أنت فضولي أكثر من اللازم!
نهض· "لنستمع إلى الموسيقى· هذا أفضل من الثرثرة"·
ضغط زر آلة التسجيل· تهادى صوت لور دكاش في الغرفة: "آمنت بالله· نورك آية"·
كاتب سبق سنه
غالبا ما نكون· شكري وأنا، وحيدين في الركن الشمالي من مطعم (الريتز)، أحيانا يشاركنا الجلسة الكاتب المسرحي الزبير بن بوشتى، بدعوة تليفونية ملحة من شكري، إنه يكن له تقديرا خاصا، ويحب الحديث معه·
كثيرا ما ألتزم الصمت· وأصغي لنقاشاتهما الرائعة حول الكتابة والقراءة· وبقدر ما يتفق الزبير وشكري حول أشياء، ينشب بينهما، وفيهما، الاختلاف حول أخرى· لكنهما يعرفان جيدا كيف يحافظان على الكثير المشترك بينهما: يتمسكان بالمتفق عليه (وهو كثير)· ويدعان المختلف عنه (وهو كثير أيضا) إلى الخلف يتوارى·
"قرأت ما كتبته عن الزبير بن بوشتى في عمودك (هؤلاء عرفتهم) بجريدة (الشمال)"·
يقول لي شكري، ذات ثلاثاء، وهو يستقبلني في شقته·
أسأله:
ـ ما رأيك فيما كتبت؟
ـ جيد·
ـ كيف ترى الزبير؟
ـ كاتب مسرحي سبق سنه·
ـ أيام الخصاص المادي:
كنت وشكري في طريقنا إلى (الريتز)، كان يحدثني عن أيام بؤسه المادي· فيضحك عاليا ويقول: "كنت أسرع في قراءة الكتاب لأبيعه وأستفيد من ثمنه"·
بالقرب من سينما (موريطانيا)، توقف عن السير· أشار بيده إلى أحد المحلات التجارية: "هنا كانت مكتبة تستقطب الكثير من مثقفي طنجة· أذكر أن المرحوم عبد اللطيف الفؤادي عرفني على صاحبها· وبسبب من خصاص مادي قاهر، بعت له حقوق طبع ونشر "الخبر الحافي" بمبلغ قدره 15000درهم· سلمني 500 درهم عند توقيع العقد· والتزم بسداد الباقي خلال شهر واحد، وعندما تماطل في الآراء، أرجعت له ما دفعه لي، ومزقت العقد!"·
8/13/2005