(مهداة إلى روح أبي العلاء مؤلف رسالة الغفران)
مقدمة
(سودت هذه الصحائف يد ميت. كتبها بعد أن فارق الحياة واطمأن إلى مضجعه الأخير. ويبدو هذا - أول وهلة - غريبا لا يصدق؛ ولكنه يغدو لا غرابة فيه إذا تذكرنا حكمة قدماء المصريين التي أملت عليهم أن يودعوا قبر الميت آثاره وما كان يحبه أو ينتفع به في دنياه، كي تتمتع روحه - إذا زارت القبر وعاودت الجسد ليلة بعد أخرى - بما كانت تتمتع به في دنياه من مسرات الحياة. فان كان الميت كاتبا أو دعوا قبره - بطبيعة الحال - كتبه وأوراقه، وربما تسلت روحه بالكتابة كما كانت تفعل في الدنيا. وهذا ما يبدو أنه كان الواقع في الحال التي نحن بصددها فقد اكتشفت في العهد الأخير مقبرة لكاتب اسمه توتي من كتاب الأسرة التاسعة عشرة، عثر بها على مخطوط من البردي تدل القرائن على أن صاحب المقبرة - أو روحه على الأصح - كتبه على أثر الدفن مباشرة. وه يحوي حقائق غريبة لا يدري الحي عن أكثرها شيئا، ولا يمكن أن توضع موضع الاختبار والتجربة. وقد أثارت من الدهشة ما هز الأفئدة جميعاً. ويقتصر عملي على ترجمة هذا المخطوط العجيب دون تعرض للتفسيرات التي أثيرت حوله، ولا للجدل الذي اكتنف هذه التفسيرات. وللقارئ أن يري فيما جاء به رأيه، بيد أنه ينبغي أن نذكر دائما أنها خطرات ميت. وإليك ترجمة هذا المخطوط).
ترجمة المخطوط الهيرغليفي
يا إلهي! ماذا يعوز هذا القبر من طيبات الحياة الفانية؟! إنه قطعة من صميم الحياة حافلة بما لذ وطاب. لقد حليت جدرانه بصور الجواري والخدم، وفرش بأفخر الأثاث، وأجمل الرياش. وبه ما أشاء من أدوات الزينة والعطور والحلي؛ وفيه مخزن مفعم بالحبوب والبقول والفاكهة. وهاهي ذي مكتبتي حملت إليه بمجلداتها الحكيمة، وما يحتاجه الكاتب من الأوراق والأقلام. هي الدنيا كما عهدتها. ولكن هل ثمة طعم للدنيا في حواسي الآن؟! أبي حاجة إلى متعة من متعها؟! جهد ضائع ذلك الذي بذله الذين هيئوا هذه المقبرة. بيد أني لا أستطيع أن أنكر أمراً غريباً هو أنه ما فتئت نفسي تنازعني إلى القلم. يا عجبا! ما لهذه الأوراق تناديني بسحرها المحبوب؟! ألا يزال بي موضع لم يمح منه الموت منازع الضعف والهوى؟ أقضي علينا - معشر الكتاب - أن تشقى بضاعتنا في الحياتين؟! على أية حال لا يزال أمامي فترة انتظار أبدأ بعدها رحلتي الأبدية. فلأشغل هذا الفراغ بالقلم. فلطالما دان القلم الفراغ بالجميل.
رباه! ألا زلت أذكر ذاك اليوم الذي فصل بين الحياة والموت من عمري؟! بلى. في ذلك اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.
يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي اثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. وأغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقاً متأوهاً. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزوناً مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحضور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هئ الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه. فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.
يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي أثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. واغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقا متأوها. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزونا مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحظور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هيئي الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه، فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني التي تهواني على صدرها. وجاء الحكيم فجرعني الدواء وأشار بإصبعه إلى السماء وقال لي: (توتي. . . أيها الكاتب الكبير! يا خادم الأمير الجليل! أنت في حاجة لرحمة الرب. فادعه من أعماق قلبك). ورقدت لا حول لي ولا قوة. يا آمون المعبود جلت حكمتك! ألم أصحب سيدي الأمير إلى الشمال في جيوش فرعون؟ ألم أشهد القتال في صحاري زاهي؟ ألم أحضر قادش مع الغزاة البواسل؛ بلى أيها الرب. ونجوت من الرماة والعجلات والمعارك. فكيف يتهددني الموت في قريتي المحبوبة الآمنة بين أحضان زوجي وأمي وأبنائي؟! وغرقت في أبخرة الحمى. واشتد الدوار برأسي، وسال بلساني الهذيان، وشعرت بيد الموت ترتاد قلبي. ما أقساك أيها الموت! أراك تتقدم إلى هدفك بقدمين ثابتتين وقلب صخري، لا تتعب ولا تسأم ولا ترحم، لا تهزك الدموع، ولا تستعطفك الآمال. تدوس حبات القلوب، وتتخطى الأماني والأحلام. ثم لا تبدل سنتك ولو كان الفريسة في ربيع العمر الزاهر. توتي في السادسة والعشرين ذو بنين وبنات، ألا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت أنفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما أشبع من هذه الحياة الجميلة المحبوبة. إنها لم تسؤني قط ولم أزهد فيها أبداً. أحببتها من أعماق الفؤاد ولا أزال على العهد. كانت الصحة طيبة والمال موفورا والآمال كباراً. ألم تحط بكل أولئك خبراً؟ ومن حولي قلوب محبة ونفوس والهة، أفلا تنظر إلى الأعين الدامعة؟ كأني لم أعش ساعة واحدة في هذه الحياة الجميلة المحبوبة. ماذا رأيت من مشاهدها؟ ماذا سمعت من أصواتها؟ ماذا أدركت من معارفها؟ ماذا ذقت من فنونها؟ ماذا جربت من ألوانها؟ أي فرص ستضيع غداً؟ أي نشوات ستخمد! أي عواطف ستهمد! أي مسرات ستبيد! ذكرت ذلك جميعه. ودارت بخلدي أشياء أخرى لا حصر لها ولا حد، ما بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر وأماني المستقبل. وجرت أمام حواسي الورود والحقول والمياه والسحاب والمآكل والمشارب والألحان والأفكار والحب والأبناء وقصر الأمير وحفلات فرعون والرتب والنياشين والألقاب والفخر والجاه وتساءلت: أيمضي كل هذا إلى الفناء؟ وانقبض صدري أيما انقباض وامتلأت حزناً وكمداً، وهتفت كل جارحة لي (لا أريد أن أموت). وتتابعت جحافل الليل. فغلب النوم الصغار. ولبثت زوجي عند رأسي وأمي عند قدمي، وانتصف الليل ونحن على حالنا. ثم استدار وأوغل في الرحيل، ثم بهتت ذوائبه بزرقة الفجر. هنالك داخلني شعور غريب بالرهبة وتولاني إحساس بالخوف. وأطبق السكون وأنذر بشيء خطير. ثم شعرت بيد أمي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج (بني. . . بني!) وهتفت زوجي المحبوبة (توتي ماذا تجد؟) ولكني لم أستطع جوابا. لا شك أن أمراً استثار جزعها. ترى ماذا يكون؟ هل لاح في وجهي النذير؟ وتحولت عيناي على غير إرادة مني نحو مدخل الحجرة. كان الباب مغلقاً بيد أن الرسول دخل، دخل دون حاجة إلى فتح الباب. فعرفته دون سابق معرفة فهو رسول الفناء دون سواه. واقترب مني في خطى غير مسموعة: كان مهيباً صامتاً مبتسماً ذا جمال لا يقاوم سحره فلم تتحول عنه عيناي. ولم أعد أرى من شئ سواه. وأردت أن أضرع إليه ولكن لم يطاوعني اللسان. وكأني به قد أدرك نيتي الخفية. فازدادت ابتسامته اتساعا. فآنست منه رفقاً. ولم أعد أبالي شيئاً. انجابت عني وساوس الليل وأحزانه وحسراته. وغفلت عن دموع من حولي. ووجدت نفسي في حال من الاستهانة والطمأنينة لم اعهدها من قبل. سلمت في محبة لا نهائية وتركت جسمي في المعركة وحيداً! رأيت - دون مبالاة ألبته - دمي يقاوم في عروقي، وقلبي يدق ما وسعه الجهد، وعضلاتي تنقبض وتنبسط، وأنفاسي تتردد من الأعماق، وصدري يعلو وينخفض. وشعرت بالأيدي الحنون تسند ظهري وتحيط بي. رأيت ظاهري وباطني رؤية العين بغير مبالاة ولا اكتراث. وقد تحول الرسول عني إلى جسمي وأخذ في مباشرة مهمته في ثقة وطمأنينة والابتسامة لا تفارق شفتيه الجملتين. وشاهدت نسمة الحياة المقدسة تذعن لمشيئته فتفارق القدمين والساقين والفخذين والبطن والصدر، والدم من ورائها يجمد والأعضاء تهمد والقلب يسكت، حتى غادرت الفم المفغور في زفرة عميقة. سكن جسمي وصمت إلى الأبد. وذهب الرسول كما جاء دون أن يشعر به أحد. وغمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة. وأني لم أعد من أهل الدنيا. . .
للكلام بقية
نجيب محفوظ
مقدمة
(سودت هذه الصحائف يد ميت. كتبها بعد أن فارق الحياة واطمأن إلى مضجعه الأخير. ويبدو هذا - أول وهلة - غريبا لا يصدق؛ ولكنه يغدو لا غرابة فيه إذا تذكرنا حكمة قدماء المصريين التي أملت عليهم أن يودعوا قبر الميت آثاره وما كان يحبه أو ينتفع به في دنياه، كي تتمتع روحه - إذا زارت القبر وعاودت الجسد ليلة بعد أخرى - بما كانت تتمتع به في دنياه من مسرات الحياة. فان كان الميت كاتبا أو دعوا قبره - بطبيعة الحال - كتبه وأوراقه، وربما تسلت روحه بالكتابة كما كانت تفعل في الدنيا. وهذا ما يبدو أنه كان الواقع في الحال التي نحن بصددها فقد اكتشفت في العهد الأخير مقبرة لكاتب اسمه توتي من كتاب الأسرة التاسعة عشرة، عثر بها على مخطوط من البردي تدل القرائن على أن صاحب المقبرة - أو روحه على الأصح - كتبه على أثر الدفن مباشرة. وه يحوي حقائق غريبة لا يدري الحي عن أكثرها شيئا، ولا يمكن أن توضع موضع الاختبار والتجربة. وقد أثارت من الدهشة ما هز الأفئدة جميعاً. ويقتصر عملي على ترجمة هذا المخطوط العجيب دون تعرض للتفسيرات التي أثيرت حوله، ولا للجدل الذي اكتنف هذه التفسيرات. وللقارئ أن يري فيما جاء به رأيه، بيد أنه ينبغي أن نذكر دائما أنها خطرات ميت. وإليك ترجمة هذا المخطوط).
ترجمة المخطوط الهيرغليفي
يا إلهي! ماذا يعوز هذا القبر من طيبات الحياة الفانية؟! إنه قطعة من صميم الحياة حافلة بما لذ وطاب. لقد حليت جدرانه بصور الجواري والخدم، وفرش بأفخر الأثاث، وأجمل الرياش. وبه ما أشاء من أدوات الزينة والعطور والحلي؛ وفيه مخزن مفعم بالحبوب والبقول والفاكهة. وهاهي ذي مكتبتي حملت إليه بمجلداتها الحكيمة، وما يحتاجه الكاتب من الأوراق والأقلام. هي الدنيا كما عهدتها. ولكن هل ثمة طعم للدنيا في حواسي الآن؟! أبي حاجة إلى متعة من متعها؟! جهد ضائع ذلك الذي بذله الذين هيئوا هذه المقبرة. بيد أني لا أستطيع أن أنكر أمراً غريباً هو أنه ما فتئت نفسي تنازعني إلى القلم. يا عجبا! ما لهذه الأوراق تناديني بسحرها المحبوب؟! ألا يزال بي موضع لم يمح منه الموت منازع الضعف والهوى؟ أقضي علينا - معشر الكتاب - أن تشقى بضاعتنا في الحياتين؟! على أية حال لا يزال أمامي فترة انتظار أبدأ بعدها رحلتي الأبدية. فلأشغل هذا الفراغ بالقلم. فلطالما دان القلم الفراغ بالجميل.
رباه! ألا زلت أذكر ذاك اليوم الذي فصل بين الحياة والموت من عمري؟! بلى. في ذلك اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.
يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي اثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. وأغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقاً متأوهاً. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزوناً مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحضور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هئ الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه. فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني اليوم غادرت قصر الأمير قبيل الغروب، بعد عمل شاق، تعناني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير (توتي. . . كف عن العمل. ولا تشق على نفسك). وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود. فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.
يا آمون المعبود. ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي أثر من جهد العمل فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع. ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد، امتلأت منه رعباً. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتى يورده التهلكة؟ انطويا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك. واغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك، وأخذت في الطريق قلقا متأوها. وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي. فهتفت بي (توتي أيها المسكين. مالك تنتفض. ما لعينيك مظلمتين. . .؟!) فقلت لها محزونا مكتئباً (يا أختاه. . وقع المحظور. . . وحل الخبيث بجسم زوجك. هيئي الفراش ودثريني. ونادي الحكيم والأبناء والأحباب: قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه، فاضرعوا معه. واسألوا له الشفاء!) وحملتني التي تهواني على صدرها. وجاء الحكيم فجرعني الدواء وأشار بإصبعه إلى السماء وقال لي: (توتي. . . أيها الكاتب الكبير! يا خادم الأمير الجليل! أنت في حاجة لرحمة الرب. فادعه من أعماق قلبك). ورقدت لا حول لي ولا قوة. يا آمون المعبود جلت حكمتك! ألم أصحب سيدي الأمير إلى الشمال في جيوش فرعون؟ ألم أشهد القتال في صحاري زاهي؟ ألم أحضر قادش مع الغزاة البواسل؛ بلى أيها الرب. ونجوت من الرماة والعجلات والمعارك. فكيف يتهددني الموت في قريتي المحبوبة الآمنة بين أحضان زوجي وأمي وأبنائي؟! وغرقت في أبخرة الحمى. واشتد الدوار برأسي، وسال بلساني الهذيان، وشعرت بيد الموت ترتاد قلبي. ما أقساك أيها الموت! أراك تتقدم إلى هدفك بقدمين ثابتتين وقلب صخري، لا تتعب ولا تسأم ولا ترحم، لا تهزك الدموع، ولا تستعطفك الآمال. تدوس حبات القلوب، وتتخطى الأماني والأحلام. ثم لا تبدل سنتك ولو كان الفريسة في ربيع العمر الزاهر. توتي في السادسة والعشرين ذو بنين وبنات، ألا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت أنفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما أشبع من هذه الحياة الجميلة المحبوبة. إنها لم تسؤني قط ولم أزهد فيها أبداً. أحببتها من أعماق الفؤاد ولا أزال على العهد. كانت الصحة طيبة والمال موفورا والآمال كباراً. ألم تحط بكل أولئك خبراً؟ ومن حولي قلوب محبة ونفوس والهة، أفلا تنظر إلى الأعين الدامعة؟ كأني لم أعش ساعة واحدة في هذه الحياة الجميلة المحبوبة. ماذا رأيت من مشاهدها؟ ماذا سمعت من أصواتها؟ ماذا أدركت من معارفها؟ ماذا ذقت من فنونها؟ ماذا جربت من ألوانها؟ أي فرص ستضيع غداً؟ أي نشوات ستخمد! أي عواطف ستهمد! أي مسرات ستبيد! ذكرت ذلك جميعه. ودارت بخلدي أشياء أخرى لا حصر لها ولا حد، ما بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر وأماني المستقبل. وجرت أمام حواسي الورود والحقول والمياه والسحاب والمآكل والمشارب والألحان والأفكار والحب والأبناء وقصر الأمير وحفلات فرعون والرتب والنياشين والألقاب والفخر والجاه وتساءلت: أيمضي كل هذا إلى الفناء؟ وانقبض صدري أيما انقباض وامتلأت حزناً وكمداً، وهتفت كل جارحة لي (لا أريد أن أموت). وتتابعت جحافل الليل. فغلب النوم الصغار. ولبثت زوجي عند رأسي وأمي عند قدمي، وانتصف الليل ونحن على حالنا. ثم استدار وأوغل في الرحيل، ثم بهتت ذوائبه بزرقة الفجر. هنالك داخلني شعور غريب بالرهبة وتولاني إحساس بالخوف. وأطبق السكون وأنذر بشيء خطير. ثم شعرت بيد أمي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج (بني. . . بني!) وهتفت زوجي المحبوبة (توتي ماذا تجد؟) ولكني لم أستطع جوابا. لا شك أن أمراً استثار جزعها. ترى ماذا يكون؟ هل لاح في وجهي النذير؟ وتحولت عيناي على غير إرادة مني نحو مدخل الحجرة. كان الباب مغلقاً بيد أن الرسول دخل، دخل دون حاجة إلى فتح الباب. فعرفته دون سابق معرفة فهو رسول الفناء دون سواه. واقترب مني في خطى غير مسموعة: كان مهيباً صامتاً مبتسماً ذا جمال لا يقاوم سحره فلم تتحول عنه عيناي. ولم أعد أرى من شئ سواه. وأردت أن أضرع إليه ولكن لم يطاوعني اللسان. وكأني به قد أدرك نيتي الخفية. فازدادت ابتسامته اتساعا. فآنست منه رفقاً. ولم أعد أبالي شيئاً. انجابت عني وساوس الليل وأحزانه وحسراته. وغفلت عن دموع من حولي. ووجدت نفسي في حال من الاستهانة والطمأنينة لم اعهدها من قبل. سلمت في محبة لا نهائية وتركت جسمي في المعركة وحيداً! رأيت - دون مبالاة ألبته - دمي يقاوم في عروقي، وقلبي يدق ما وسعه الجهد، وعضلاتي تنقبض وتنبسط، وأنفاسي تتردد من الأعماق، وصدري يعلو وينخفض. وشعرت بالأيدي الحنون تسند ظهري وتحيط بي. رأيت ظاهري وباطني رؤية العين بغير مبالاة ولا اكتراث. وقد تحول الرسول عني إلى جسمي وأخذ في مباشرة مهمته في ثقة وطمأنينة والابتسامة لا تفارق شفتيه الجملتين. وشاهدت نسمة الحياة المقدسة تذعن لمشيئته فتفارق القدمين والساقين والفخذين والبطن والصدر، والدم من ورائها يجمد والأعضاء تهمد والقلب يسكت، حتى غادرت الفم المفغور في زفرة عميقة. سكن جسمي وصمت إلى الأبد. وذهب الرسول كما جاء دون أن يشعر به أحد. وغمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة. وأني لم أعد من أهل الدنيا. . .
للكلام بقية
نجيب محفوظ