رايفين فرجاني - الأخلاق

الأخلاق هو نظام نتبناه كي نتبين من خلاله التمييز بين الخير والشرّ.

الخير يأتي بمعناه كل ما هو جيد للحياة أو المعيشة البشرية. والشرّ كل ما هو غير جيد. ولكن ماهية الشرّ,أي ذلك الأمر الغير جيد,هي ماهية مبنية على معرفة نسبية عند البشر حيث لا يتحدد الشرّ إلا بدرجة تعيين ما هو مقبول (إذن فهو خير) وما هو غير مقبول (إذن فهو شرّ) عند البشر. وتتفاوت درجات القبول بين فئة من الناس وفئة أخرى,وبين فرد وآخر كما هو ثابت في مختلف الدراسات التاريخية والإجتماعية والنفسية.

ولهذا فإن غاية علم الأخلاق الأساسية,ومن خلفه ثلة من الفلاسفة وعلماء الأخلاق هي الوصول لمعيار رئيسي (مثل المبادئ الإنسانية الشخصية) شبه ثابت للتفريق بين هذا الخير وذاك الشرّ.

والظاهر لنا,أن البرنامج الأخلاقي الأكثر تكاملا هو مزيج بين المنفعة,ثم القوة,فالفضيلة المثالية. الفضيلة المثالية,هي ما يسمى بـ الضمير. حيث الدعوة إلى تبني الأخلاقيات بوصفها مسألة فردية يتحدد عليها مدى صحة الفعل الإنساني (وهي النافذة التي انطلقت منها الفلسفات الوجودية,التي ألقت بنا إلى هوة من الفلسفات العدمية). لكن يسهل على الناظر إدراك أن الإنسان لا يعيش وحده. وأن ما يراه هو (فعلا أخلاقيا) قد يتعارض تماما مع رؤى وآراء الأخرين. لهذا قال المفكر المصري الكبير أحمد لطفي السيد مقولته الشهيرة (الإختلاف في الآراء لا يفسد للود قضية). الذي يصفها العقاد بأنه أفلاطون الأدب العربي. ولكن مقولته هذه وإن كانت بلغت من الحكمة مبلغا,إلا أنه تفسد تماما في إطار أي قضية أخلاقية لأن القول يتبعه فعل. وهنا يجب أن نأخذ بالحسبان أن الإختلاف لا يؤدي بالضرورة إلى خلاف إلا في حالة تصادم المصالح. أي في حالة الفعل. فالرأي إذا ظل رأيا,يمكن أن يؤيده آخرين, ويمكنهم حتى أن يطبقوه على أنفسهم طالما المتضرر الأول والأخير هم أنفسهم ولا أحد غيرهم. هذا إنطلاقا من فلسفة وجودية لا ننكر أهميتها. أما فيما عدا ذلك,أي لما تخرج تأثيرات الرأي / القول عن حدود نفس القائل. يلزمنا هنا وقفة. والمقام الأول يكون للمنفعة. ولأن النفعية تنشد المنفعة للجميع,فإنها هي الأصلح حاليا,وإن كان ذلك يتعارض بشكل صارخ مع مبدأ (تقديس الحياة) هو حق الإنسان الطبيعي بالحياة.

لذا وهنا يأتي دور القوة,والموضح أكثر عند تناول العلوم الخمسة التي تبنت الأخلاق قضية أولى لها. إن الإنسان,لن يهتم بأقوال إنسان آخر,ولا حتى بأفعال الآخرين. قد يرفض السرقة,ولكن إذا جاع,سرق. إلا من رحم ربي بالطبع. هنا ينبثق الصراع الذي يحتاج إلى تنظيم ينفي الموت. والموت هو القاعدة الراسخة التي يمكننا الإنطلاق منها نحو أي إتجاه أو مذهب فلسفي لتناول قضايانا وفصل الغث عن السمين في كل ما قيل فيها. إن الموت يحتم علينا البحث وراء قيم أخلاقية,لأن الإنسان إذا جاع,ولم يأكل,اشتد جوعه حتى مات. لهذا قد يسرق. ولكن صاحب المال المسروق,هو إنسان آخر يخاف من خطر الجوع,لذا قد يدافع عن ماله. ربما يُقتل أحدهما. وكل منهما يدافع عن بقاءه. لا أحد يريد أن يموت. ولكن هذا الصراع قد يتطور بإختلاف الأسباب والظروف وعدد الأفراد والوسائل والأدوات,وخلاف ذلك من نواحي أخرى. وقد يؤدي بنا الصراع إلى الفناء. الذي يعني موت أكثر من فرد. أو حتى موت جميع الأفراد كما ينذرنا الخطر النووي. لذلك فالقضية الأخلاقية,والقيمة الأخلاقية مطروحة منذ نشأة البشرية. التعاون ضد أخطار الطبيعة الوحشية من أوائل الفضائل التي تبناها الإنسان. والبحث عن المعرفة,هي القيمة الثانية التي لازال الجدل حولها قائما إن كانت جاءت قبل أو بعد الأخلاق. ثم هناك الجمال,الذي يتوج كلاهما,ومقدر مجيئه بعدهما.

بحسب المرويات الإبراهيمية,فإن الأنبياء هم فئة من البشر وُجدت منذ فجر التاريخ,أولهم هو آدم نفسه,أبو البشرية جمعاء إلى يوم يجمعون. الوظيفة الأولى للأنبياء هي (الدعوة لتبني برنامج أخلاقي ينبثق عن نظام أيديولوجي يسمى الدين). يتكون هذا البرنامج حسب ظروف كل عصر وسمات كل أمة يبعث إليها نبي مكملا لدعوة النبي الذي قبله. أول قاعدة أخلاقية عرفها البشر هي (لا تقتل). وهو نهي عن فعل القتل,اعقبه طقسية الموت,وإحترام الموتى الذي لازال مستمرا حتى يومنا هذا. حيث يتم التعامل مع الجثث بطرق مختلفة للتخلص منها. (ودوما يتم التخلص من الجثث عدا عند بعض المختلين عقليا). ولهذا عرف الإنسان الدفن كرد فعل لرؤيته غرابا يفعل ذلك. والكثير من الدراسات العلمية لا تنكر أن الإنسان البدائي تعلم الكثير عن طريق محاكاة الحيوانات.

هذا القتل,الذي حدث بسبب صراع بين أخوين,كان حول إمرأة,إمرأة تم تقديمها بشكل رمزي لتكون هي أصل البلاء والشرّ والفتنة بين الشقيقين,مثلما كانت أمها هي السبب في طرد الإنسان من نعيم السماء إلى جحيم الأرض.

هذا النظام المؤسس منذ فجر البشرية,راجع لحاجة الإنسان الدائمة إلى السيادة,لذا نجد الذات تسود على الآخر,والقبيلة تغلب قبائل أخرى,والدول تتصارع من أجل بقاءها. لذا لا عجب وأن الرجل,انتزع سريعا,بسبب أو لآخر,أو بشكل ظرفي راجع للصدفة البحتة,انتزع مكانته تلك في فترة مبكرة صبغت جميع العصور اللاحقة بصبغة ذكورية يبدوا أنها لن تنتهي إلا بزوال البشرية.

هذا يبين لنا,كما سنتأكد لاحقا,أن السلطة سردية كبرى,فهي تولد المعنى على الصعيد الجمالي والمعرفي والأخلاقي. على سبيل المثال,ولفترات طويلة لم تنتهي حتى في عصرنا هذا,اعتبر قتل النساء أمرا مباحا وغير مستنكر بالمرة. وإذا كان ميشيل فوكو قد نجح في زعزعة بعض مراكز السلطة,وإعطاء أهمية للأطفال والمجانين والمساجين والمختلفين. لم ينجح هو,ولا نصف فلاسفة فرنسا منذ عصر النهضة في تغيير الوضع القائم حاليا ضد النساء بالعديد من بلاد العالم.

وإذا سلمنا بأن الأخلاق هي مجموعة من المبادئ التي ينتهجها الإنسان. ويعتمد عليها في إتخاذ قراراته حول ما يقوم به من أفعال,حيث هذه المبادئ / المعايير / القيم هي التي تحدد مدى صحة الفعل / السلوك الإنساني. كما بينا في التعريف أعلاه.

فإن إعادة النظر إلى هذه الحقيقة عبر عدسة السلطة,تنفي تماما الفكرة القائلة بأن (الأخلاقيات مسألة فردية تقترن بالضمير).

بل إن ذلك هو خيار واحد مطروح أو مقترح ضمن خيارات عديدة,لا يتخذ الإنسان في كلها قراراته بموجب وازع إختياري منه هو. من ذاته,أو ما يسمى ضميره. بل لدينا خمس مستويات ينطلق من أحدهما,أو منهم جميع برنامجنا الأخلاقي.

مع الأخذ في الإعتبار أن جميع الأخلاق لا تخرج عن صورتين؛إما المنظومة المثالية للأخلاق,وهي ما تدعو لها الفلسفات الوجودية والإنسانية. ونؤيدها في بعض المناحي والمواقف ولكن نحمل عليها إبتعادها عن الواقعية,وأن ما يحصل بعيد كثيرا عن تطلب. وإما نظام الثواب والعقاب,الذي سنحاول تعميمه على المستويات الخمس

-الأخلاق؛حيث الذات / الضمير هو مصدر أفعالنا,أو لامصدرها عند غفلة الضمير أو موته. العقاب هنا يكون ذاتي صرف,حيث العقاب هو كرب وتعكر صفو الذهن,بدلا من راحة البال. وينقسم الفعل هنا إلى فضيلة ورذيلة.

-التربية؛حيث تمارس العائلة / المجتمع سلطتها الأبوية في بذر الأخلاق بشكل يتصف بأنه شبه إختياري,وحيادي إلى حد ما,وإن كان إجباري,فهو أقل نظم السلطة لجوءا إلى العنف أو الضغط. غالبا يكون سلوك الترغيب متمثلا في (الإقناع). ويتمثل الترهيب في (الخوف من أن تتسبب في حزن شخص تحبه). وينقسم الفعل هنا إلى سلوك محبب,وآخر مباح,و ثالث مكروه.

-الأعراف؛التي تمثل سلطة إجتماعية تفرض على الفرد منظومتها الأخلاقية. وهذا المستوى يختلط بالسياسة. وينقسم الفعل هنا إلى عيب,ومقبول. ويكون العقاب متمثلا في النفي أو الإقصاء النفسي من المجتمع بإعتبار أن ما فعلته هو كبيرة من الكبائر التي يستنكرها القوم. والإنسان كائن إجتماعي,فلك أن تتخيل. مع ذلك يظل الفعل في المستوى العرفي فعلا إختياريا كما في المستوى الأخلاقي أو التربوي.

-القانون؛وهو أصل السياسة الداخلية لأي مجتمع,وفيه يتم تبني منظومة أخلاقية تفرض على الفرد بشكل مادي ملموس. حيث يتمثل العقاب غالبا في أذى يلحق بالجسد مثل الضرب أو السجن أو الإعدام,أو حتى في سلب المال الذي يعود بالنفع على هذا الجسد,وسلبه معناه ضرر لهذا الجسد. يظل القانون هو البرنامج الأنجع في تطبيق قيم أخلاقية سامية. لأن عقابه مقترن بالجسد الإنساني. أي أن الإنسان الذي لا يدرك أن فعله اللاخلاقي يهدد الإنسانية بالفناء على المدى البعيد,يصبح هو نفسها مهددا بالموت والفناء على المدى القريب. هذا التهديد الذي يمنع الفرد قبلا من فعل الفعل الذي يسمى قبيحه بـ (جريمة) خوفا من أن يطاله العقاب. أو يمنعه بعدا من الفعل,أو محاولة الفعل في حال الفشل المرة الفائتة,إما خوفا من العقاب ثانية,وإما بإفتراض أن السجين عاجز عن أذية شخص حرّ,وأن الميت بطبيعة الحال عاجز عن أذية شخص حيّ.

-الدين؛الذي يمثل سلطة غيبية عليا,تفرض على الفرد منظومتها الأخلاقية,وينقسم الفعل هنا إلى حلال وحرام. وعبر التاريخ,تعاقبت الديانات السماوية وغير سماوية,ويرجع بعض الباحثين الديانات الوضعية إلى نشأة الديانات الإبراهيمية نفسها. واتسمت هذه الديانات ببرنامج ديني. يرى بعض الباحثين المحدثين [انظر مثلا دراسات وائل حلاق] أن الإسلام كان أول منهج أخلاقي ديني على مستوى الدين والدنيا. أي أنه أول من أدخل السياسة بإعتبارها مركبا حيويا وركيزة من ركائز الدين نفسه. وهو قول اختلف معه قليلا,لأن التوراة سبقت القرآن إلى تحقيق ذلك,ولو بشكل جزئي لا يضاهي البناء الشامخ للإسلام السياسي,هذا النظام الذي أسيئ استخدامه منذ بواكر صعوده,وصولا إلى عصورنا المتأخرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى