خالد محمد مندور - التطور الاجتماعي وذكرى أبي... مؤنس

بالقطع فهي ليست تجديد ذكرى ابى العلاء، بل تجديد ذكرى طه حسين، الذي لا تحتاج ذكراه الى التجديد، فما زال حاضرا بقوة في الحياة الفكرية والثقافية، ولكن هذا التجديد لذكري مختلفة له، ذكري علاقة تطور طه حسين مع التطور الاجتماعي والثقافي المصري.
فحياة طه حسين الفكرية والاجتماعية، بل والسياسية، تقدم لنا مزيدا من الوضوح عن تطور مصر الاجتماعي والثقافي، كما تقدمها حياة القطبين الكبيرين الأخريين، سلامة موسى والعقاد.
فطه حسين يلتحق بالجامعة المصرية عند تأسيسها سنة 1908 ، في نفس الوقت الذي يستمر على المداومة على دروسه الأزهرية متململا من تخلف دراستها ، وهى نفسها اللحظة التاريخية التي كانت فيه الحركة الوطنية المصرية تتطور محاولة الخروج من أسر الارتباط الفكري بالدولة العثمانية بعد أن انتكست بهزيمة ثورة 1882 ، لحظة شهدت البدايات الأولى لتأسيس الرأسمالية المصرية الحديثة ، لحظة بدايات تأسيس التيارات الثقافية المصرية الحديثة على يد حزب كبار الملاك ، حزب الأمة ، وليس على أيدى الحزب الوطني المتمرد على الاحتلال الأجنبي والاعلى نفوذا بين الجماهير الشعبية ، حزب مصطفى كامل ومحمد فريد .
ويكون الصدام الأول بين الجامعة والأزهر، بين التيارات الفكرية الحديثة والتيار التقليدي الرتيب، فالجامعة تمنحه شهادة الدكتوراه عن ذكرى أبى العلاء والأزهر يتهمه بالكفر والزندقة ويرفض منحه شهادة العالمية ولا يلقى التأييد إلا من جريدة السياسة التي يقف على رأسها أحمد لطفي السيد الملقب بأستاذ الأجيال.
وتكشف لحظة الصدام الثانية حول كتاب " في الشعر الجاهلي " في منتصف العشرينات مستوى نضج وتطور النهوض الرأسمالي وتبني القيم الاجتماعية والثقافية الحديثة، فالحزب الشعبي الأول، حزب الوفد، يقود الثورة ويصل الى السلطة بتأسيس ما اصطلح على تسميته بحكومة الشعب الأولى، يتخذ موقفا سلبيا من طه حسين وكتابه وهو نفس موقفها من كتاب " الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق.
ولا يبقى العميد إلا أياما معدودة عميدا لكلية الآداب عام 1928 ويضطر الى الاستقالة تحت ضغط الوفديين الذين لم يستطيعوا التفرقة بين الدور الأدبي والفكري الرائد للعميد وارتباطاته السياسية مع حزب الأحرار الدستوريين، خليفة حزب الأمة القديم، في نفس الوقت الذي كان العقاد الكاتب الأول لحزب الوفد.
ومنذ تلك اللحظة الفارقة تبدأ في التشكل ملامح مفارقة طه حسين للارتباط الفكري مع حزب الأحرار الدستوريين، ليس لأن طه حسين كان يتجنب الصدام مع التيارات الأكثر شعبية، فحياة طه حسين هي سلسلة متتابعة من الصدامات الفكرية، ولكن لأسباب أخرى متعلقة بتطور الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي جعلت هذه التيارات يزداد اقترابها منه وليس العكس ، الأمر الذى ساهم فى اقترابه منها.
وعندما عين عميدا لكلية الآداب عام 1930 أثناء حكومة الأحرار الدستوريين، حكومة القبضة الحديدية لمحمد محمود، يضطر الى الاستقالة و يحال الى التقاعد عام 1932 أثناء حكومة إسماعيل صدقي الاستبدادية احتجاجا للاستخدام السياسي للجامعة بمنح الجامعة للدكتوراه الفخرية للبعض ومن ضمنهم عبد العزيز فهمي أحد أقطاب حزب الأحرار الدستوريين.
ونزداد مفارقته للأحرار الدستوريين وصداماته معهم أثناء توليهم رئاسة الوزراء ويتزايد اقتراب الحركة الوطنية منة ويصدر كتابه مستقبل الثقافة في مصر مشكلا جانبا هاما من برنامج الحركة الوطنية المصرية ويعين عام 1942 عميدا لجامعة الإسكندرية وسط ترحيب عام من الحركة الوطنية، ويخرج كبار تلاميذه الى الحياة العامة دفاعا عن العدل والحرية والديمقراطية والعقل والحداثة والاستقلال الوطني.
ويتم التلاحم بينة وبين الحزب الشعبي الأول عندما تطلبه وزيرا للمعارف في حكومة الوفد سنة 1950 وسط اعتراض القصر بدعوى انه شيوعي ، ويا لها من تهمة مثيرة للسخرية برغم ديمومة استخدامها الى الآن على أيدى بصاصين أنظمة الحكم الرشيدة التي تداولت على بلادنا ، ولكنه يصر على ضرورة توسيع مجانية التعليم وسط معارضة بعض تيارات الوفد الأكثر يمينية وارتباطا بكبار ملاك الأرض ، وتنتهى المساومة بتوسيع مجانية التعليم إلى المستوى الثانوي مع وعد بإكماله إلى المستوى الجامعي ، ويضطر القصر على الموافقة ويمنحه رتبة الباشوية التي كان قد نالها شعبيا منذ زمان بعيد .
لقد رحب طه حسين بحركة يوليو 1952، وكان هو أول من اسماها ثورة في إدراك صحيح بأنها تشكل البداية الثانية الكبيرة للتطور الاجتماعي المصري، وبرغم ترحيبه بها وحسن العلاقة مع النظام الجديد ورئاسته لمجمع اللغة العربية، إلا أنه يتعرض للفصل من جديد من جريدة الجمهورية عام 1964 بدعوى الجمع بين وظيفتين، فصلا لم يكن قصرا علية، بل امتد ليشمل أبرز تلاميذه، محمد مندور، وأخرون، وهي علامة فارقة لنظام الحكم الوطني الدكتاتوري المعادي للديمقراطية.
لعلني قد نجحت في تبيان كيف نضجت وتطورت التغييرات الاجتماعية المصرية التي قادتها إلى الاقتراب والاندماج مع هذا الرائد الكبير وابتعادها عنه كذلك بأقبح الأشكال.
ولعلنا في حاجة الى التوقف أمام المزيد من أبناء رفاعة كما اسمتهم غى سورمان في كتابها ، وكما أسماهم بهاء طاهر في كتابه الشهير ، لكن وفق منطق يرى ظهور وتطور أبناء رفاعة في علاقته بالتطور الاجتماعي والثقافي العام، بالتطور الطبقي والصراعات السياسية، فالناس أبناء زمانهم حتى ولو كانوا ينظرون ويطمحون الى المستقبل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى