أمل الكردفاني- المثقف، من الثرثرة إلى المثقف التنسيقي المركزي

ثرثرة المثقفين مضحكة دائماً، إنهم يتحدثون في أي شيء وكل شيء. فهم عبارة قوقل صوتي ولكنهم اقل دقة منه. في عالم ال BIG DATA فإن الدرجة الأدبية الرفيعة التي كان يتمتع بها المثقف فقدت بريقها. وانتقلنا إلى وظيفة أكثر أهمية، ولكنها لا تحتاج لمثقف ثرثار بل تحتاج لمثقف تنسيقي مركزي. وهي وظيفة -خلافاً للمثقف التقليدي- لا تحتاج لجمع المعلومات بقدر ما تحتاج لتفكيك وربط آلاف المعلومات بحيث يتشكل نسق يفضي لنتيجة مفيدة. المثقف هنا يمكن أن يكون متخصصاً، وليس كما كان عليه المثقف سابقاً الذي كان يعرف شيء من كل شيء. فلا يوجد ما يسمى كل شيء اليوم. ففي السابق كانت معلوماتنا عن العالم قليلة، أما اليوم فإنه لا أحد يستطيع أن يعرف كل شيء حتى في علم واحد. ففي القانون هناك تخصصات، قانون عام وخاص، وداخل كل من القسمين فروع كالجنائي والمدني والتجاري، وداخل الفرع الواحد غصون أكثر وأكثر. المثقف القانوني هنا هو ذلك الذي يمتلك قدرة الربط بين الغصون المختلفة داخل الفرع الواحد، وبين الفروع داخل القسم وبين القانون والحقول المعرفية الأخرى كالجغرافيا والتكنولوجيا..الخ. وهكذا انتقلنا من الأبحاث التقليدية للابحاث متعددة التخصصات multidisciplinary research، بل هناك توجه آخر هو البحوث التقاربية Convergence Research والتي تعمل على حل مشاكل شديدة التعقيد.
هنا ستتحول أدوات المثقف من عارف ثرثار إلى عارف تنسيقي مركزي. سأوضح الأمر بمثال بسيط فيما يلي:
هناك مشكلة تواجهنا جميعنا، وهي أننا في عالم الانترنت والتكنولوجيا الرقمية نواجه بتهديدات حقيقية لأسرارنا ولحقوقنا اللصيقة بشخصيتنا كالاسم والصورة، وكذلك لحقوقنا المالية كالحسابات البنكية..الخ. إننا نتعرض يومياً لانتهاكات رقمية، وهي انتهاكات معاقب عليها في القانون الجنائي، ولكن هناك مشكلة كبيرة تجعل القانون الجنائي عاجزاً عن توفير الحماية للضحايا وعن ردع المجرمين، وهي أن القانون الجنائي يعمل داخل الدولة الواحدة، أي داخل حدود ولاية قضائية صغيرة، في حين أن جرائم الانترنت لا تحدها حدود. إذا يمكن للص في فيتنام أن يسرق مالك وأنت في جنوب أفريقيا، ويمكن لشخص في الإكوادور أن يبتزك ويسرق صورك وملفاتك ويطالبك بفدية. بالتأكيد نحن كأفراد لا نملك القدرة بمفردنا على مواجهة هذه الجرائم، كما أن مؤسسات إنفاذ القانون في دولنا لن تهتم كثيراً بتتبع المجرم عبر العالم لتعرف مكانه وتلقي القبض عليه، لأن الحكومات لا تهتم بالجرائم الصغيرة، في حين أن الجريمة بالنسبة لك ليست صغيرة. لكن الحكومة تراها كذلك وترى ان الجريمة ستكون كبيرة إذا وقعت على مؤسسة مالية كبيرة كالبنوك او شركة اتصالات..الخ بما يجعلها تتتبع وتلاحق المجرم وتقبض عليه وتعاقبه وتسترد أموال المؤسسة. فكيف نواجه نحن الأفراد هذه الجرائم أو التهديدات؟
إن مهمة المثقف التنسيقي المركزي هو إيجاد حل عبر البحث في عدة تخصصات، تكنولوجية وقانونية ودبلوماسية..الخ. وتقديم توصيات للجهات المختصة لمعالجة هذه المشكلة. غير أن المثقف هنا ليس باحثاً بل هو مثقف بحيث يستطيع خلق بيئة بحثية للأبحاث التقاربية أو متعددة التخصصات. مثلاً؛ تفكر شركة في عمل برنامج software متعلق بالنجوم. إن هذا البرنامج يحتاج لعدة تخصصات، بعضها تكنولوجي وبعضها يتعلق بعلم الفلك، وبعضها بفنون التصميم، بل وبعضها يتعلق بعلم النفس لكي يكون البرنامج جاذباً، كما تفعل بعض شركات الألعاب التي تصنع ألعاباً تؤدي إلى إدمانها.. هنا على الشركة أن تستعين بمثقف تنسيقي مركزي Central Coordinating Intellectual، لديه معرفة من كل تلك التخصصات ولكن بالإضافة إلى ذلك لديه الخيال اللازم الذي يجعله يتمكن من الربط بين كل تلك المعارف، عبر توجيه الباحثين، بعد مناقشتهم والتداول معهم. المثقف التنسيقي المركزي، يجب أن تكون وظيفة، وبمرتب عالٍ أيضاً، ولكي تكون كذلك فيجب أن يكون لها أصول علمية، ولكي تتمتع بذلك القدر من الموثوقية، يجب أن يتم إيجاد مرتكزات أولية للإنطلاق في دراستها والترويج لها.. ويمكن أن يبدأ ذلك من وظيفة تحليل البيانات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى