أمين الزاوي - هل المبدع العربي مصاب بعقدة أوديب أم الأم جنس ثالث؟

تختزل الثقافة العربية الأم في صورة ملائكية دائماً الأمر الذي يشبه عقدة أوديب ثقافيا وفكريا (أ ف ب)

لا أحد يتجرأ على نقد الأم، تلك ثقافة معمرة ومكرسة في مجتمعاتنا العربية والمغاربية. على خلفية هذه الثقافة وبهذه المنظومة الفكرية تحضر المرأة في الإبداع العربي والمغاربي مختزلة في صورة الأم، وبشكل ضاغط ومهيمن يخفي كل صور النساء الأخريات.
الأم حاضرة وبقوة طهرانية في الأدب، في الشعر وفي الرواية، صورتها أكثر من أية صورة لأية امرأة أخرى، حاضرة وبصورة مثالية لافتة أيضاً في السينما، وفي المسرح، وفي كتب السير، وفي الفن التشكيلي.
وصورة الأم هذه، تغطي على جميع صور الأصناف الاجتماعية للنساء، فهي في الإبداع رمز الأرض، ورمز الخصب، ورمز الحب، ورمز الحنان، ورمز الوفاء، ورمز العفة، ورمز الأخلاق الحسنة، ورمز الجنة، ورمز الشجرة، ورمز الحرية.
في الثقافة العربية تبدو صورة الأم ملائكية دائماً، فوق النقد وفوق الخطأ. في صورة الأم يختصر العالم الأنثوي الإيجابي بكامله، صورة تختصر الخير وفي غيرها من النساء يتجسد الشر والخطيئة والرذيلة والسلوك المشين.
وإذا ما حاولنا مقاربة هذا الوضع الشاذ ثقافياً واجتماعياً وسيكولوجياً، ودققنا النظر في هذا الحضور "الأمومي" المهووس يبدو المبدع العربي، بل والمواطن العربي بشكل عام، وكأنه مصاب بعقدة أوديب على مدى عمره.
في العالم العربي عقدة أوديب هي عقدة جماعية، هي عقدة ثقافية وفكرية. هناك تناقض غريب في السلوك الاجتماعي للفرد والجماعة الاجتماعية في العالم العربي وشمال أفريقيا، انفصام في الشخصية الفردية والجماعية، ففي الوقت الذي تتعرض فيه يومياً المرأة، باسم الدين تارة، وباسم العادات والتقاليد ثانية، وباسم العنصرية الجنسية ثالثة، إلى شتى أنواع الإقصاء والعنف والتحرش، تصل حد الفيمينيسيت (القتل أو الحرق) الذي أصبح ظاهرة اجتماعية مستفحلة وليست من الحوادث الاجتماعية Faits divers، على رغم كل هذا الجحيم اليومي فمكانة فالأم تبدو منزهة عن هذا التوصيف، ولو إلى حين.
في مجتمعاتنا الذكورية المرأة هي المصدر الأول للفتنة وللخطيئة الأبدية، على المستوى الأسطوري والديني، إلا الأم فهي "جنس ثالث". فالمرأة إذا خرجت إلى الشارع فهي تقوم بذلك من أجل الفجور، وإذا لبست بهذه الطريقة أو تلك فهي تعبير عن الإثارة، وإذا ضحكت فضحكتها مصدر الفسق، إلا الأم فهي خارج الخروج، وبعيدة من كل تهمة وضحكتها هي نور رباني.
والمرأة إذا تكلمت فكلامها من قلة الحياء، وكلامها عورة وهي ناقصة عقل إلا الأم فلها مطلق اللسان ولها الحكمة. وإذا ابتسمت المرأة زوجة كانت أم بنتاً أم زميلة، فهي تقوم بذلك لإثارة قبيلة الذكور إلا الأم فهي لا تغري ولا تحيد عن سواء السبيل.
أمام هذا الاختلال السيكولوجي والاجتماعي والثقافي والإبداعي تبدو الأم وكأنها ليست من فصيلة النساء، ليست من فصيلة البشر، إنها من فصيلة الملائكة، هي جنس ثالث، جنس آخر.
هناك خلل ثقافي فكري مركب وعريق يسكن المخيال العربي والمغاربي في باب علاقة الرجل بالمرأة، فكيف لرجل لا يحترم زوجته لكنه يقدس أمه، كيف لرجل يقسو على ابنته ولكنه يعبد أمه، كيف لرجل لا يحسن معاملة زميلته في العمل يقدر أمه؟
المرأة هي واحد، أماً كانت أم زوجة أم بنتاً أم أختاً أم عمة أم خالة أم زميلة. إن المرأة واحدة مهما تعددت مواقعها الاجتماعية، هي الأم وهي الزوجة والأخت والبنت والزميلة والعشيقة والخطيبة والجارة، فلا يمكن أن نميز بينهن إلا من حيث النجاح أو الإخفاق، الذكاء أو الغباء، الاستقامة أو التفسخ.
الأخت هي أم أو ستصبح أماً ذات يوم، والحبيبة أم، أو ستصبح كذلك، والخالة والعمة وزميلة العمل وسائقة الحافلة أو قائدة الطائرة أو الشرطية كلهن أمهات أو مشاريع أمهات، بهذا المعنى "فالجنة تحت أقدامهن جميعاً".
ليست كل الأمهات قديسات، كما ليس جميع الآباء قديسين، كل شخص نسبي في الخير والشر. مع ذلك على المستوى الاجتماعي لا توجد أم قديسة، فالصورة التي تضع فيها الثقافة العربية الأم هي صورة غير تاريخية وغير صادقة.
هناك أمهات مجرمات، وقد بينت لنا ملفات المحاكم الكثيرة كيف أصبحت الأم قاتلة، وباترة أعضاء ضحاياها، قضايا قتل رهيبة ووحشية تقف وراءها أمهات في كل مجتمع وفي كل زمن وفي كل ثقافة وفي كل دين.
والأم قد تكون عاهرة أيضاً، حالها مثل حال النساء الأخريات حين لا يرحم المجتمع ويرمي بهن في سوق الرذيلة. والأم قد تكون فاسدة في إدارة الشأن العام شأنها شأن النساء الأخريات والرجال الآخرين أيضاً كل في منصبه ومسؤوليته.
في ثقافتنا، المرأة كائن مخيف على رغم من هشاشته، نخاف عليه ونخاف منه في الوقت نفسه. في ثقافتنا المرأة كائن مرغوب فيه ومكروه، فهي المنكر وهي المرجو والأخاذ. الأم إنسان يخطئ ويصيب في سلوكه، وحليب الأم لا يرد الخطأ ولا يمحوه ولا يؤجله. والمرأة التي ليست أمك هي أم لغيرك.
إن ثقافة ورثناها كرست، ولقرون عديدة ولا تزال سارية المفعول، صورة الأم في مربع "المقدس"، وهي ثقافة لا يتم نقدها، ولا مراجعتها لأنها كثيراً ما تتكرس باسم الدين أو باسم العادات التي لا تتزحزح.
إن دور الأدب والفنون بشكل عام هو نقد هذا التقديس الأمومي، وإعادة صورة الأم إلى إنسانيتها، إلى بشريتها، إلى تاريخيتها، إلى طبيعتها الاجتماعية والعاطفية المنتهكة منذ قرون باسم التقديس.
ما دامت الأسرة العربية، على رغم الاهتزازات الراهنة، لم تتعرض لإعادة بناء جديد، ولتركيب ثقافي وقيمي مغاير فإن صورة الأم ستظل في باب المقدس. وما دامت صورة الأم غير معرضة لعملتي النقد والتفكيك التاريخي والسوسيولوجي فإنها ستواصل، أي الأم، إعادة إنتاج ذات القيم الثقافية المعطوبة في الأسرة، فمن موقعها المقدس، تعيد إنتاج أيديولوجيا الذكورية، كل ذلك من خلال إعادة إنتاج نفسها أولاً في الجيل الجديد من النساء، البنات والحفيدات.
ولعل أخطر سلسلة ثقافية يجري تداولها وتكريسها وتثميرها والمتمثلة في توارث وتكاثر وتفريخ الأيديولوجيا الذكورية، تتولى المرأة الأم جزءاً كبيراً من هذه المهمة بتآمر مع الرجل، الابن والحفيد، كل ذلك من أجل توزيع السلطة الاجتماعية والأسرية.
لماذا تبحث المرأة العربية عن الزواج وبكثير من اللهفة والحرص، حتى ليبدو الزواج هو الخلاص لكل أزمة؟ أعتقد أنها تسعى لذلك لا حباً في الرجل ولا حباً في تأسيس أسرة ولا حباً في الأطفال، إنها تريد من ذلك الالتحاق بصورة "الأم" المقدسة، تتلهف لذلك كي تحقق سلطة "أمومية".
حين ندقق النظر في مجتمعاتنا العربية والمغاربية نشعر وكأننا نعيش في مجتمع "أمومي" من حيث سلطة القيم، و"أبوي" ذكوري من حيث سلطة الفعل السياسي والاقتصادي.



(المقال الأسبوعي المنشور بأندبندت اللندنية الخميس 20 أكتوبر 2022، الرابط: https://www.independentarabia.com/.../%D9%87%D9%84-%D8%A7...)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى