شهادات خاصة حسن بيريش - بورتري: عبدالجبار الغراز .. حاولت أن أسيجه فاكتشفت أنه من قام بتسييجي!

(1)
أَنْظُرُ إِلَيْه وهو يكتب، ويرَانِي وأنا أقرأ؛ وكلانا يستفتي قلب الٱخر قبل الإجهاش بما فيه. هذا ما يتبدى لي كلما كنت على مرأى منه، وكلما كان على مسمع مني. في المحصلة، لا شيء ينأى بي عن كتابته، وكل شيء يدنيني من قراءته.
لم يسبق لي أن قرأته
إلا وتمنيت أن أكتبه.
ما عرفت نأيا ما عن معين حبره.
ودوما على إيقاع كتاباته،
يرقص ولعي !
(2)
عبد الجبار الغراز لامع حد الدهشة، مدهش درجة اللمعان. لا يمكنك اختزاله كله. وأقصى أمانيك أن تقارب تفوقه المؤكد، من مظانه الدانية، دون النائية. كثيرا حاولت أن أسيجه، بيد أنه هو من قام بتسييجي !
وكيف لا، وهو القارىء الحصيف لتجليات الأفكار، ثم الكاتب الواثق من تبديات الخلاصات، ثم الأستاذ المبرز، والمدرك لما يعتمل في صدر اللغة، وفي وجدان الأدب ؟!
"لا شيء يبقى ثابتا..
الكل يحمل في داخله
بذرة فنائه..".
إنه يحدد معك شرط القراءة، عبر شروط الكتابة، وربما لكي تقاربه وأنت خال من المسبق. إذ في شرطه المضمر، يتضح ثقلك الخفي. وبينكما، معا، تنفتح الكتابة على مكامن الوعي فيك، ومواطن التأثير فيه.
هذا ما أخرج به،
حين أكون على تماس
مع جواهر كتابات هذا الباسق،
الذي أراه "هيجلي" التفكير،
وأحسه "هرقلي" التعبير !
(3)
"ما يميز الإنسان الحر
ليس فقط فكره، ولكن أيضا إراداته".
عبد الجبار الغراز يملك وعيا نقديا متميز التكوين، يجمع بين مهارة التقصي، وبراعة التأويل. أصفه بالضوء والشسع بدون تردد. ها هو اللمعان لا يفارق رؤاه، وغير المسيج لا يغيب عن تفكيره، وقوة التحديق في الإشكالات دأبه وديدنه.
"الحرية ليست حالة،
بل فعل انتقال من الإمكان إلى الفعل،
وأنها علامة إشراق وجودنا
وكشف عن الذات".
وإني - وبوثوق لا يخالطه ريب - أرى أن فاكهة الحرية هي الأنضج في في شجر حبره. يتمثلها في أبعد تصوراتها، ثم ينجبها من رحم التفكير المغاير، ثم يصدر عن كل تشكلاتها البادية والخفية، في مجموع ما يكتب / ما يبدع.
الهوية المتحررة، الحرية المتعددة، والتحرر المنطلق، هو ذا جهازه المفاهيمي، الذي عبره يناقش الأفكار، ويسائل الرؤى، ويمتح من ينابيع فياضة الحمولة.
"الحرية لم تعد ترفا حضاريا
تحظى به حضارة دون أخرى،
بل أصبحت بمثابة
الهواء الذي نتنفسه".
(4)
"إن كان لكل هوية ما جهاز مناعة ثقافي
يقيها من هجمات وغزو الثقافات الأخرى؛
فلها أيضا مسلكياتها الوجودية والأخلاقية
التي تجعل منها أداة تحرر وانعتاق
ورمز لولادة جديدة لمختلف مكوناتها...".
دوما أغادر أواخر بحوثه المضيئة وبي رغبة في البقاء داخل أوائل دراساته. إنه يقبض علي من بدء انهماره، حتى نهايات تجليه، ويجعلني أرى من عجائب الحرية، والتباسات الهوية، ما لم يكن لوعيي به علم، وتأويل، وضوء.
وتأملوه معي، وهو يغوص في أدغال ثنائية الحرية والهوية،
ويضع المسافة التأويلية بينهما، عبر لغة سلسة، ترشح بثراء الأدب والفكر في تعبير مكتنز واحد:
"الحرية تميل إلى
التبدل والتغير،
إنها سلسلة بؤر ومساحات فراغ
لا تقبل الامتلاء والارتواء..
أما الهوية فحالة ووضعية
تسعى إلى الثبات والركون إلى
الجاهز والامتلاء والإشباع المطلق".
(5)
"أي استثناء هذا الذي يحرم
أطفالنا (ذكورا وإناثا) من التعبير
عن رغباتهم بكل حرية، كي يمشوا
في اتجاه نحت شخصياتهم
في استقلال عنا؟".
ماهر جدا عبد الجبار في مساءلة ضميرنا الجمعي، والتفتيش في "الأمور الشائكة والمتعبة"، لكي يجعلها "تقفز على سطح الوعي"، وتخضع للمجهر النقدي.
وحده ذكاء السؤال زاده، ومرشده، وهو يخوض في صبوات العقل، وفلوات التفكير، حاملا، على عاتق ضوئه، رغائب ثرية تهفو إلى نسف العتمات المستشرية، وإعادة إنتاج أفق جديد يعلو فيه الحرية، قدس أقداسه.
"لماذا يحظى عندنا، نحن الرجال،
مولودنا الذكر، في ثقافتنا المغربية المتأثرة
بروافد كثيرة، بقيمة استثنائية مقارنة
بالمولود الأنثى؟
ألكوننا ما زلنا لم نتخط بعد ثقافيا،
أعتاب ّذكورتنا، في اتجاه التماهي الحقيقي
مع وجهنا الآخر / الأنوثة، المقصي لاشعوريا
من دائرة الذات المركبة كفلسفة اختلاف
وليس مجرد فلسفة حضور ومثول؟".
ويبلغ منتهاه فينا، وفيه، حين يستخرج دالنا من مدلوله. ثم يمطر غزيرا، دون أن تلوح في سماء تفوقه غيومنا. وبالتالي يدعونا كلنا إلى الجهر معه بصوت الحكمة المدفونة، بيقين العمق المفقود:
"أطفالنا، إذن، شئنا ذلك أم أبيناه،
هم بذرور فنائنا..
ولادتهم نعي لرحيلنا..
موت رمزي لنا..
موت خاضع لسيرورة أبدية..
سنن كونية سرمدية:
استبطان..
فتماه..
فتجاوز..
ثم استقلال..".
(6)
"لماذا نحرص دائما
على أن يكون أطفالنا ذواتا
ذات قيمة نافعة فقط لنا؟".
نحن في حضرة باحث عميق الرؤى، يشرح ذكورية المجتمع بمشرط المغايرة الخلاقة. ولا يني يضع الاتفاق المكرس في مهب الاختلاف المنسي. يذهب صوب القضايا الإشكالية، لا يدعها تأتي إليه.
"لماذا لا نربيهم على الإحساس
بقيمتهم الداخلية، القادرة وحدها
على جعلهم رجالا، بدل ذكور
تعيد إنتاج القيم السلبية للمجتمع الذكوري؟".
إنه السؤال جوهر المعرفة، والمرشد نحو الضوء، والٱيل بكل الأفكار المعطوبة إلى السقوط أمام إلحاحه. أوليس في تلك المغامرة، التي ينجبها السؤال الحفري، تكمن نجاة العقل من شراك الخرافة ؟!
"القدرة على الفعل
هي أساس كل حرية؟".
(7)
باقتدار لا يفلت من ذكاء العين القارئة، وعبر براعة منذورة لأعالي البلاغة الفاخرة، يبني عبد الجبار الغراز أفقه اللغوي، قبل الكتابة، وإبانها معا. ذلك لأنه، وبحكم شغفه بالدراسات ذات المعطى الإشكالي، يكتب في ذهنه، قبل الذهاب صوب بياض الأوراق، حيث الفكرة تبحث عن وريف صياغتها، بلا تخوم تحد من بهاء التقاء المبنى بالمعنى.
المنحى اللغوي في نصوصه جزل، وسلس، ومتواتر الإجادة. ينحت عبارته بتأن عجيب، يقودنا، عبر حمولتها، نحو رحاب ممهورة بتقصي التميز، ونبذ المعمم.
وفي سياق متصل، ومُشوِّق، لن تجد عنده انزياحا في شكل الفكرة، بل ستعثر لديه على مجاز في باطن الكلمة. ولا فراغ ثمة في المسافة بينهما، بل امتلاء أخاذ، ينحو بك نحو تعبير يقف تميزه على حدة.
"صور المثقف، كما يراها إدوارد سعيد،
قد باتت عديدة، لكن الناصعة والمشرقة منها
هي تلك التي تجعل من المثقف شخصا
يتمتع بحس إنساني عال، ويكون بعيدا
عن الدوغمائية والشعبوية
في تناوله للإشكالات الكبرى...".
(😎
ينْظُرُ إِلَي
وأنا أغادره،
وأرَاه
وهو يستبقيني.
فلا أنا عن بعد كتاباته صابر، ولا هو عن قرب تأويلي صابر. وبيننا، بقائي ومغادرته، يكبر الإعجاب، حد أن يصير الكاتب قارئا، ويغدو المتلقي منتجا!

1666422325317.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى