ألف ليلة و ليلة ماهر البطوطي - الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن

(١) آثار إسلامية في أوروبا المسيحية
تذكر الباحثة «أليس لاساتير» في كتابها الهام «من إسبانيا إلى إنجلترا» أن من الدلائل ذات المغزى العميق ما حدث عام ١٨٢٧م في بريطانيا، حين قامت كنيسة إنجلترا بإخراج رفات القديس «كوذبرت» لنقله إلى مكانٍ آخر، ففوجئ الجميع حين وجدوا أن رفات القديس ملفوفٌ في رداء حريري مُطرز بكلماتٍ في لغةٍ غير معروفة لديهم، واتضح بعد البحث أنها عبارة «لا إله إلا الله» منسوجة بأحرفٍ عربية بالخط الكوفي المُربع، ولم يتضح سِر ذلك الرداء وصِلته بقديسٍ إنجليزي إلا عام ١٩٣١م، حين توفر الباحث «ف. بكلر» على تأصيل العلاقات بين المسلمين والغرب في كتابه «هارون الرشيد وشارل العظيم»، وقد شرح بكلر الأحداث التي بدأت عام ٧٦٥م، حين أرسل ملك فرنسا «بيبين» بعثة إلى الخليفة العباسي وقتها في بغداد؛ مكثت ثلاث سنوات ثم عادت مصحوبةً بجماعة من المسلمين حامِلين الهدايا الثمينة والطُّرف العربية الشرقية، وقد حذا خليفة بيبين، شارلمان، حذو سلَفِه فأرسل وفدًا من ثلاثة سفراء (منهم يهودي يقوم بمهام الترجمة) إلى هارون الرشيد عام ٧٩٧م، أتبعه بوفدَين آخرين عامي ٨٠٢م و٨٠٦م على التوالي، وكان هارون الرشيد يردُّ بإرسال وفوده وبعثاته وهداياه إلى فرنسا، وكان هناك تعاون مُستمر بين ملوك فرنسا والخلفاء العباسيين وولاتهم في الأقطار العربية والإسلامية، فكان الفرنسيون يَطلبون امتيازاتٍ وحماية للحُجاج المسيحيين إلى القدس، والتحالُف معهم ضد الإمبراطورية البيزنطية المنافسة، خاصَّة إبَّان فتنة «الأيقونات» التي قسَّمت العالم المسيحي وقتها؛ بينما كان الخلفاء العباسيون ينشدون عون الفرنجة في تنافُسهم وصراعهم ضد الأُمويين الذين تقلَّدوا سدَّة الحكم في إسبانيا الإسلامية على يد عبد الرحمن الداخل، وكان من بين الهدايا التي تُبُودلت بين الطرفَين، والتي شملت الحيوانات الشرقية والعاج والسيوف والمشغولات الذهبية وأطقم الشطرنج، رداءٌ حريريٌّ سابغٌ موشَّى بكتاباتٍ عربية زخرفية بخطٍّ عربي بديع. وبعد سقوط الإمبراطورية الكارولنجية في فرنسا عام ٨٨٨م، تم توزيع تلك الطُّرف الشرقية فيما بين النبلاء الفرنسيين، وأرسل أحدُهم — وهو الدوق «هيو» — الرداء الحريري العربي هديةً إلى ملك إنجلترا أيامها، لأن الدوق كان يطمع في الزواج من أُخت ذلك الملك، وقد أهدى الملك الإنجليزي الرداء — ضمن سبعة أرديةٍ أخرى — إلى دير «دورهام» حيث كان القديس كوذبرت مدفونًا، وفي عام ١١٠٤م، أخرج رهبان الدير رفات القديس، كيما يثووه فيما وُصِف أيامها بأنه «رداء كنسي ملكي»، وكان هذا هو الرداء الذي ظهر عام ١٨٢٧م، والذي اتَّضح أن كلماته هي الشطر الأول من عبارة التوحيد الإسلامية!
وتُوجَد في المتحف البريطاني الآن قطعة من النقود التي تمَّ صكُّها عام ٧٧٤م للملك «أوفا» المعاصر للملك شارلمان؛ وهي قطعة ذهبية كُتِب على وجهها باللاتينية «الملك أوفا»، وعلى ظهرها العبارة الإسلامية «لا إله إلا الله»، وكانت تلك العبارة العربية تُستخدَم كرمزٍ فني جميل في كثيرٍ من الزخارف في بلدان عديدة، مثلها في ذلك مثل عبارة «لا غالب إلا الله» التي انتثرت في أبهاء قصر الحمراء الأندلسي الشهير وما زالت به حتى اليوم، وتذكُر الباحثة لاساتير كذلك، أن الرساميْن المشهورين «فرا أنجيليكو» و«فرا ليبو ليبِّي» قد استخدما أيضًا نفس ذلك النوع من العبارات العربية كنوع من الزخارف الفنية — دون معرفة بمعناها أو مضمونها — في تزيين ثياب بعض الشخصيات التي رسماها، ومنها لوحة فرا ليبو المُعنوَنة «تتويج العذراء» المعروضة الآن في متحف أوفيزي بفلورنسا.
وكل هذا دليل على مدى تغلغُل الأثر العربي والإسلامي في الأوساط الغربية في العصور الوسطى نتيجة العلاقات المتبادلة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، في وقت السلم ووقت الحرب على حدٍّ سواء. وقد أرجعَتِ الباحثة ذاتها نُدرة البحوث في ذلك الموضوع إلى عامِلَين رئيسين: صعوبة جمع الباحثين بين المعرفة المطلوبة باللغات الأوروبية القديمة: الإنجليزية القديمة والوسطى، والبروفنسالية القديمة، والفرنسية القديمة، والألمانية الوسطى والمُتقدِّمة، ولاتينية القرون الوسطى، وبين المعرفة الجيدة باللغات العربية والفارسية والعبرية وغيرها من اللغات الشرقية التي تلزم للبحث في عناصر الأدب المقارن والتأثيرات المتبادلة. أما العامل الثاني فهو العصبية والنزعات القومية التي تتحيز لوجهات نظرٍ مُعينة تنحو إلى رفض النظر إلى التراث القومي بوصفه متأثرًا بعوامل شرقية، عربية أو إسلامية، خاصَّة إذا كان الأمر له صِلة بالدِّين أو العقيدة، مثل الهجوم الذي واجهه البروفيسور هارديسون حين خرج بنظريته التي رفض فيها نسبة مسرحيات الآلام المسيحية في العصور الوسطى إلى حوارات السؤال والجواب في اللاهوت المسيحي، ثم تَبلوُرها بعد ذلك خارج نطاق الكنيسة، وإنما أرجع نشوءها جُزئيًّا إلى طقوس المُستعربين في إسبانيا الإسلامية. وحين يزعم بعض الغُلاة أن سبب تأخُّر إسبانيا عن ركب الحضارة الغربية بعد عصور النهضة يرجع إلى الوجود العربي فيها زهاء الثمانية قرون، فهم يتجاهلون النهضة الزاهرة التي شهدتها إسبانيا إبَّان الدولة العربية فيها، حين كانت مُدن مثل طُليطلة وقرطبة وغرناطة مراكز رئيسية للعلم والمعرفة والمدنية والحضارة، في الوقت الذي كانت مدن الغرب الرئيسية في حالةٍ أشبه بالبداوة. ويُرجع الباحثون الموضوعيون سبب عدَم لَحاق إسبانيا بركب التطور الحضاري الغربي إلى ما حدث بعد سقوط غرناطة وطرد العرب والمسلمين واليهود بعد ذلك من البلاد، وقيام محاكم التفتيش بحرق كلِّ ما وجدَتْه من كتبٍ ومخطوطات عربية وإسلامية، ممَّا أدى إلى هجرة وفرار آلاف من العلماء والأطباء والتجار والصناع والحرفيين، وهو الأمر الذي أثر على هذه المجالات الهامة من مجالات الحياة والتطور الحضاري.
وقد شهدت العصور الوسطى نشاطَين حضاريَّين أساسيَّين في المراكز المسيحية في أوروبا، أولهما حركة الترجمة الواسعة التي جرت في إسبانيا وصقلية للمخطوطات العربية والإسلامية، وعلى رأسها مركز الترجمة في طُليطلة؛ وثانيهما نشوء اللغات المحلية المتفرعة من اللاتينية والجرمانية في بلدان أوروبا.
وقد أقام العرب والمسلمون في إسبانيا دولةً مترامية الأطراف دامت زهاء الثمانية قرون، وامتدت دولتهم إلى قبرص ومالطة وكريت، وإلى عدة جزُر إيطالية أهمها صقلية وسردينيا، ووصلت غزواتهم إلى وسط فرنسا وفي أجزاء من سويسرا الحالية. وقد بلغت اللغة العربية في زمن ازدهار الحضارة العربية شأوًا أصبحت معه هي اللغة العلمية والثقافية العالمية، وأصبح طلاب العلم يتعلَّمونها ويبرعون فيها، بوصفها لغة دولية LINGUA FRANCA، وغدا تعلُّمها واستخدامها دليلًا على الثقافة والرقي.
ولم يقتصر التأثير العربي على الوجود الإسلامي العربي في تلك البلاد، بل تواجَد عن طُرقٍ أخرى منها الحروب الصليبية التي كان لها أوجه أخرى غير الصراع الحربي والاستيطاني، هو التفاعل الذي قام بين الأفراد والجماعات التي احتكَّت ببعضها وامتزجت إبَّان الوجود الأوروبي آنذاك في البلاد التي طاولتها الغزوات الصليبية، وما عاد به هؤلاء الأفراد والجماعات من ذكرياتٍ وحضارة وقصص وأشعار وأساطير عرفوها من أهل البلاد التي أقاموا فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) المصدر: الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن، ماهر البطوطي، مؤسسة هنداوي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى