بهاء طاهر - الملاك الذى جاء

كانت فى حوالى الأربعين، طويلة غير جميلة، شعرها أصفر وخفيف، انسدل على جانبى وجهها مثل شواشى الذرة. ولاحظت وأنا أشرب القهوة مع صديقى العربى أنها ترمقنى باستمرار وهى تشرب نبيذها الأحمر فى رشفات صغيرة ولكنها متتابعة. لم أفهم لماذا تفعل ذلك، وشعرت بشىء من الارتباك بسبب نظراتها العصبية المركزة، الخالية مع ذلك من أى تودد. نظرت حولى فى المقهى الهادئ، ربما كانت تنظر إلى أحد غيرى؟.. ولكن لم يكن هناك غير زبائن قلىلىن منكبين على صحفهم أو مشروباتهم.

انتبهت إلى ما يقوله صديقى، وكان يسألنى: لماذا لا أرجع إلى مصر. قال إنه بناء على ما يسمعه فإن مصر تعتبر جنة الله فى الأرض. فمثلا لو كنت معارضا وقبضوا علىّ فإن من حقى، أن يكون لى محام وأن أذهب إلى قاض، وهذه أشياء لا تقدر. لو كان يضمن عُشرها لرجع إلى بلده من زمن. قال: إنهم فى بلده يبدأون بقتل المعارضين، ثم يبحثون بعد ذلك عن الأسباب. قال: إنه كان يوما أسود يوم قرر فى شبابه أن ينضم لمظاهرات الاحتجاج على الاستعمار فدخل السجن، وحين خرج منه وجد نفسه سياسيا بالرغم منه. وفى الحقيقة ما الذى كان يغضبه من الاستعمار بالضبط؟.. لقد قضى فى السجن أيام الاستقلال أضعاف ما قضاه أيام الاستعمار، وكان سجن الاستعمار لعب عيال جنب ما حدث له من أهوال فى سجن الاستقلال. وها هو من عشر سنين محكوم عليه بالإعدام فى بلده لأنهم اعتبروا الحزب الذى كان عضوا فيه حزبا خائنا. ولولا أنهم يسمحون له فى هذا البلد الاستعمارى بممارسة الطب لمات من الجوع بعد أن نجا من الإعدام، فما رأيى فى ذلك؟

قلت بشكل عابر: إنه يجب ألا يلوم نفسه لأنه فعل ما كان ينبغى أن يفعله، وحارب من أجل أن يستقل بلده. قلت: إن الاستقلال جيد رغم كل المشاكل.

احمر وجه صديقى فجأة، ولوّح أمام وجهى بعصبية، وقال سبابا فاحشًا جدًا عن أختى على أخت الاستقلال.

شعرت أنا أيضا بالدم يصعد إلى وجهى وقلت له: إننا، فى مصر، لا نحب ذكر نساء الأسرة فى المزاح.

ربت على كتفى وقال: إنها عبارة دارجة لا تؤخذ حرفيا، وطلب أن أسامحه، ووعد ألا يكررها. قلت: إننى أسامحه. ولكننى كنت متوترا بعد ما قال، ولأننى أشعر أيضا بعينين مركزتين علىّ دون سبب مفهوم. مال صديقى نحوى وقال بلهجة حميمة إنه يريد أن يأخذ رأيى فى مشروع معين لأنه يثق فىّ. ماذا لو باع عيادته وجمع كل مدخراته وسافر ليقضى ما بقى له من العمر فى الأرجنتين؟.. قال إنه من ثلاثين سنة عاش فترة من شبابه فى أمريكا اللاتينية، وسيكون سعيدًا لو قضى ما بقى له من العمر هناك. وهمس وهو يكور يده ويغمز بعينه: إن الحياة فى أمريكا اللاتينية مليئة بالحيوية وإننى أفهم بالطبع. قلت: وماذا لو قتلوه فى الأرجنتين؟.. قرأت أن حكومته ترسل عملاء لقتل معارضيها فى البلاد البعيدة، ولكنها تخاف أن تفعل الشىء نفسه فى هذا البلد. قلت: إن وضعه فى البلد الاستعمارى أفضل من الأرجنتين. تنهد وقال: إن هذا فقط هو ما يبقيه هنا ويجعله يحتمل البرد والضباب ولكنه يحن إلى الشمس. ثم سألنى مرة أخرى بلهجة رقيقة: لماذا لا أرجع إلى مصر؟

قلت بشىء من الانفعال إنه ليست عندى مشاكل لأننى غير محكوم علىّ بالإعدام أوبأى شىء آخر. شرحت له أننى جئت هنا من عشرين سنة لأحضّر للدكتوراه، ولكن الأستاذ المشرف لم يحبنى لسبب لا أعرفه. وظل يطلب منى باستمرار أن أعىيد ما كتبته. فشلت فى أن أغيره وأعمل مع أستاذ آخر. ومع ذلك فقد وجدت منذ مدة عملا يدر دخلا كبيرًا، لأننى أكتب بنفسى رسائل الماجستير والدكتوراه للطلبة العرب والأجانب الذين لا يجيدون لغة البلد، أو الذين ليس لديهم وقت للبحث فى المراجع. قلت: إننى اكتسبت خبرة فى فروع كثيرة من العلوم. إننى أعرف الآن دون أى مجهود المراجع المطلوبة لأى بحث وأعد الرسائل فى زمن قياسى. قلت: إنه برغم أن تخصصى الأصلى هو الأدب فإننى أعتبر نفسى الآن بلا أى غرور حجة فى الاقتصاد الرأسمالى بعد كينزى، وإننى توصلت إلى نظريات. سألنى: وماذا عن الدكتوراه؟.. قلت: أى دكتوراه؟ فقال: التى تعدها. أجبت باقتضاب: إنها أوشكت أن تنتهى. أحنى صديقى رأسه وقال: ارجع إلى بلدك. قلت: إن هذا لا يفوتنى وإننى أقرر أحيانًا أن أعود ثم أنسى. قال إنه يعتذر لبطء فهمه أحيانا ولكنه لا يفهم كيف أنسى مسألة مهمة مثل العودة إلى بلدى. قلت بشىء من الجفاء: إنها مسألة عادية تماما مثل نسيانه لحكاية الاستقلال.

ولحظتها سمعنا الصوت العالى ىقول: «أنت آرابى»؟.. تظاهرت أننى لم أسمع ولكن صديقى لكزنى وقال: انتبه. إنها تكلمك أنت. التفت نحوها قائلا: نعم، واصلت بلسان ملتو «السلام إليكم» فرددنا أنا وصديقى السلام ونحن نبتسم، قالت إنها عرفتنا على الفور لأنها تعرف الوجوه العربية منذ عملت سكرتيرة لرجل أعمال مصرى يعيش هنا. اقترح عليها صديقى أن تنضم إلينا. فحملت كأسها ومعطفها وأتت. كانت تلبس نظارة طبية سميكة العدسات تحاول تثبيتها باستمرار، وخيل إلىَّ أنها تفعل ذلك لكى تشغل نفسها بشىء ما، فقد كانت تحنى رأسها كل دقيقة وأصابعها على نظارتها ولكن دون أن تكف عن الكلام. قالت إنها منذ مدة لم تتكلم مع أحد، ولكنها تتوسم فينا الطيبة لأن مسيو كمال الذى عملت معه من سبع سنين كان طيبا. قالت أيضا: إنها من مدة طويلة لم تقابل أحدًا هنا. سألها صديقى عن السبب فردت: إنها كانت قد سافرت إلى هولندا ثم عادت، فهى ليست من هنا أصلا ولكنها هولندية. وبعد ذلك زمت شفتيها وسكتت.

قلت بعد فترة إننى لم أفهم شيئا ولكننى أحب الزهور الهولندية. بدت فى وجهها فرحة مفاجئة، وقالت إنها عندما كانت فى هولندا التقطت بعض الصور لزهور التيوليب وتحب أن أراها. ثم فتحت حقيبتها وأخرجت مظروفا أصفر منتفخا وراحت تخرج منه صورا فوتوغرافية وتطلعنا عليها، تأملنا أنا وصديقى الصور بشىء من الدهشة ثم رددناها إليها. كانت الصور ملتقطة من مسافة بعيدة لا تبدو فيها الزهور إلا كبقع منمنمة من الألوان الحمراء والصفراء والبقية سماء زرقاء. رغم ذلك قلنا إن الصور جميلة ورددناها لها.

أعادت الصور إلى المظروف وراحت تسوى أطرافه وقالت بشىء من الشرود إن معها صورًا أخرى. سألتها: لماذا تركت هولندا واختارت هذا البلد. قالت إنه لما مات أبواها من خمسة عشر عامًا لم تعد تجد ما يربطها بالبقاء هناك. ولكنها ذهبت إلى هولندا فى الفترة الأخيرة لأنها هربت من المستشفى والبوليس يبحث عنها، سألتها: أى مستشفى؟.. فأشارت إلى رأسها.

انتفض صديقى كالملسوع واصفر وجهه، وارتبكت أنا، وراحت هى تنقل بصرها بيننا وعلى وجهها ابتسامة غرىبة.
بعد فترة قلت بصعوبة: إن كلّ إنسان يواجه مشاكل. فراحت تنقر على المائدة وقالت إنها على العموم واثقة أن كل شىء سينتهى قبل حلول رأس السنة. سألتها: كيف؟ فقالت إنها كانت تبحث عن ديانة وقد جاءتها بشارة بأن الله سيهديها إلى الدين الصحيح قبل بداية السنة الجديدة.

قالت إنها كانت منذ أيام فى غرفتها وظلت مستيقظة كالعادة فى الليل. كان المطر يقرع نافذتها طبولا عالية لا تنقطع أصمّت أذنيها حتى الصباح. ولما طلع النور كف المطر ولكنها رأت السماء غاضبة تغلى ببحر من الدم تندفع موجاته الحمراء سريعة ومتلاحقة خلف زجاج النافذة، ثم فجأة امتدت يد عظيمة أوقفت فيضان الدم وأصبح النور قويا في السماء ورأت ورودًا مدورة حمراء وكان كل شىء وقتها جميلا فى حديقة السماء البيضاء، ثم جاءها الملاك وقال لها ألا تخاف وأن كل شىء سينتهى قبل آخر السنة. ولما قالت ذلك هدأ وجهها وأخذت رشفة جديدة من النبيذ.

سألتها فى شىء من الشرود وكيف كان الملاك الذى جاء؟ فتراجعت إلى الخلف فجأة وتطلعت إلىّ فى شك وهى تقول باقتضاب: كان ملاكا عاديا.

حولت وجهها عنى وهى تزم شفتيها من جديد، لكنها بعد قليل نظرت فى وجهى بنوع من العداء، وقالت إننى فى الغالب غبى مثل أولئك الأغبياء فى مستشفى الأمراض العقلية الذين لم يفهموا مشكلتها ووضعوا لها علاجا خاطئا.

سألها صديقى بهدوء مبالغ فيه إن كانوا قد استخدموا معها هناك الصدمات الكهربائية. قالت إنهم حاولوا ذلك أيضا ولكنها رفضت أن توقع على الأوراق التى تسمح لهم بهذا العلاج فاستخدموا معها العلاج بالنوم. قلت: إننى لا أعرف ما هو العلاج بالنوم ولكننى أتمنى لو أنام. منذ سنوات لا أعرف سوى الأرق. أكون ميتا من التعب وبمجرد أن أضع رأسى على الوسادة يطير النوم. فى البدء كنت أقوم وأضىء نور الغرفة وأقرأ. أحيانا كنت أخرج وأمشى فى الليل والبرد. جربت أيضا الحبوب المنومة. الآن لا أفعل أى شىء. أظل راقدًا على ظهرى فى الفراش أحدق فى الظلام. يأتى النوم أو لا يأتى لكننى لا أتحرك من مكانى.

نظرت إلىّ دون أن يفارقها الشك تماما، وسألتنى إن كنت قد رأيت العنكبوت. تطلعت إليها صامتا، فقالت إنها رأت الأرق بعينيها وإنه عنكبوت كبير أسود يملأ السقف يغزل الخيوط التى تصطاد النوم الموجود فى الغرفة ثم يقتله. فى المرة الأخيرة ظل هذا العنكبوت فى غرفتها ثلاثة أيام يلتهم كل نوم يدخل الغرفة فاضطرت أن تذهب إلى الطبيب الذى حولها إلى المستشفى.قالت إن هذه هى غلطتها، إنها ربما لو واصلت الاستيقاظ ولم تيأس لجاءها الملاك منذ مدة وقتل العنكبوت. قلت إن هذا ممكن أيضا.

فى هذه اللحظة مرت بين الموائد بائعة زهور فى يدها باقات صغيرة فاشترى صديقى منها وردة. ولما قدمها للهولندية بابتسامة مشجعة أشرق وجهها بالفرح. قالت: إنها لا تعرف أبدًا كيف تشكره. قالت هامسة وهى تقترب بوجهها من وجهه إنها تفهم أن هذه الوردة ستؤنس وحدتها وستساعدها على الانتظار. أمسكت بيده وضمتها بين يديها بانفعال فازداد شحوب وجهه.

سحب صديقى يده وقال لى بالعربية: هل نقوم؟ قلت: سنفعل ذلك بالتدريج. أنت طبيب وتفهم هذا أفضل منى. لوح فى وجهى بأصبعه وقال: أنا طبيب ولكن هذا ليس اختصاصى. لو ضبطونى متورطا مع مريضة هاربة من هناك فربما أتعرض للتحقيقات. ربما يسحبون منى ترخيص مزاولة الطب. أنت لا تعرف كم هو صعب هذا الترخيص. قلت له: إنه يبالغ كثيرًا كعادته ويتوهم أشياء. وعلى العموم فسوف نقوم معًا بعد قليل، ولكن لا داعى لأن نجرحها أو أن نظهر لها الذعر. ضحك ضحكة عصبية وقال: ولكن كيف لا أظهر الذعر وأنا مذعور بالفعل؟.. من يدرى ما الذى يمكن أن تفعله بعد لحظة؟..سأقوم أنا. قلت: أرجوك.. قاطعتنا وعيناها تلمعان: تقولان بالعربية إننى مجنونة ويجب أن تهربا منى؟ قلت: بالطبع لا. كيف يخطر هذا ببالك؟.. قالت: كيف لا وأنا مجنونة فى الحقيقة؟ قلت: ولكنك تعرفين أن هذا سينتهى قبل آخر العام، أليس كذلك؟

قالت: أنا متأكدة..

التفتت إلى صديقى فجأة وقالت له: هل تعرف الدين الصحىح؟.. قال صديقى وهو يبلع ريقه أنا غير متدىن. أقصد أننى لست حجة فى هذه المسائل. فقالت وهى ترفع صوتها: كيف تقول لى ذلك؟

مر أحد الجرسونات وتطلع إلينا بدهشة فأحنى صديقى رأسه محتقن الوجه.

قالت وصوتها يزداد ارتفاعا: أنا أعرف. هل تسخر منى؟.. قال الملاك: ستكون البشارة وردة. فلماذا لا تتكلم؟.. إن كنت أنت هو لماذا لا تتكلم؟

عاد الجرسون وقال بصوت خافت وهو ينحنى على المائدة: نحن لا نقبل سكارى فى هذا المقهى. هذا مكان محترم. فقالت بصوت مرتفع: اذهب إلى جهنم أنت ومكانك المحترم. فقال: بل سأذهب إلى التليفون وأستدعى الشرطة.

ألقى صديقى بعملة معدنية على الطاولة وقام بسرعة نحو باب الخروج.

وكانت هى أيضًا تجمع حقيبتها ومعطفها ووردتها وهى تنتفض. أردت أن أقول لها إننى آسف لما فعله صديقى. آسف لما فعله الجرسون. آسف لما لم أفعله. ولكنى لم أنطق بشىء وهى تسألنى بكلمات كالقذائف ودموع سريعة تنزل من عينيها: لماذا كذب علىّ؟.. هل سمعت؟ سيأتون مرة أخرى ليأخذونى إلى هناك. أرجوك. أرجوك. أنا لا أريد أن أنام مرة أخرى. لماذا كذب علىّ بهذه الوردة؟.. خذها أنا لا أريدها. لا أريد أي كذب. ولكن هل يمكن أن تقول لهم إننى لا أريد أن أنام؟

وكانت تميل نحوى وهى تسألنى دون أن تنتظر أى جواب.. وكانت وهى تتكلم تمسك الوردة. ثم ترميها على الطاولة ثم تستردها وأخيرًا قذفتها بعنف حتى تفتتت وريقاتها الحمراء أمامى، ورأىتها تهرول نحو الباب بقامتها الطويلة المترنحة.

وعرفت أنا أنه فى هذه الليلة أيضا سيكون فى سقف غرفتى ذلك العنكبوت مرة أخرى.
أعلى