كانا يلهوان ببراءة الأطفال . داهمهما الحب غفلة، بعد أن تعانقت عيونهما في وميض لم يألفه هو . فأخذت وجهه بين كفيها و قبلت شفتيه قبلة عميقة و هربت.
و رغم زواجها بعد غيابه ،أثناء مواصلة دراسته، بقيت علاقتهما متواصلة كأصدقاء طفولة . ومرت الأعوام و هو يلتقيها ليلاً عند غياب زوجها الطويل . حاول أن يقبلها ذات مرة، لكنها أبعدت وجهه و يديه بلطف و خرجت . كانت محاولته تلك ،لكي يُقَبِّلها كما طبعت هي قبلتها التي طبعَتْهاعلى فمه يوم ذاك .
أخيراً أذعن ألاّ يحاول مرة ثانية ،رغم تواصلها في المناسبات .بقي شوقه ينبعث في قلبه و عيناه عند كل لقاء يتحرى في عينيهاعن ذلك الوميض الذي سحر كيانه بكامله ، ولم يتكرر ثانية.
أَبَتْ عليه ذلك . و لم يتداولا في لقائهما سوى الأمور العامة، أو هكذا بدا الأمر. رغم الود النابض الذي يتجلى أثناء ذلك عبر ليالٍ كانت تكفي أن يبثا بها لواعجهما .
كان كل مايستطيع فعله : أن يتلقف ابنتها الحابية و يلثم خدها بقبلات حارة. و كأنه يرسلها رسالة مشفرة شوقاً لأمها. فتتناول ابنتها من بين يديه ، و تتشابك الأصابع ، و تقبل خدها بموضع قبلاته . هذا هو مدى ما تسمح لهما ظروفهما ، دون أن ينطقا ولو بكلمة يشيران بها للحب الغامر الذي يلهب جنبيهما .
كان مُتَجَلِّياً جداً لهما ما يخفيان من شوق . كانت هي التي قيدت مساحه تلهفه. فيرسل لها خلال قبلاته لطفلتها نوعاً من العتب على ما ألجم لسانيهما .
أَوْفَتْ للزوج : ألاّ تدعه يلمس سوى أصابعها حينما يتشابكان أثناء تناول الطفلة .
و مضت السنون . عشرات السنين ، و انقطع التواصل ، بعد أن سكن مدينة أخرى بناء لمقتضيات العمل الوظيفي . لكن شوقهما الدفين بقي طريا ، رغم مضي عقود عديدة من الزمن، و بقيا يتابعان بعضهما من بعيد .و توفي الزوج بعد أن خلف لها العديد من الأولاد . و صعق بما تناهى إلى سمعه فقدان بصرها المفاجئ .
لا يريد أن يلتقيها كفيفة البصر ، و يوجع قلبها . فتلافى أي لقاء ، و هو يعاود مدينتهما ، بمروره الخاطف .و تساءل مع نفسه :
ـ كيف أمست تلك العينين الجميلتين الناطقتين بذلك السحر و المشاعر؟
كيف حالهما لو التقيتها ؟ وأي نظرة حنان و شوق يمكن أن يطلا منهما ؟
لم تمهله ظروفه القاسية باللِّقاء حتى تجاوز عمراهما السبعين عاماً . إذ أثقلته الأيام .. فدأب مكابراً عبثاً ، على إزاحة ذكرياته معها جانباً .
ولكن عتابها وصل . واستشف على إنها عَنَتْ : إنه نسيَها . فطالبته بالحضور. أما هو فقد كان مروره يحرجه و أولادها و أحفادها يملؤون البيت .
* * *
عندما توفرت الفرصة واستجاب لرغبتها ، قادته ابنتها الى مأواها . تلك الطفلة التي كان يتلقفها .
كانت الدار خالية عدا الأم و البنت . كان لقاء ـ اختليا فيه لوحدهما ـ كأنه يرأب ذلك الصدع الذي سننت أطرافه الأعوام الطويلة و أزادته حدةً . و كأن ذكرياتها قد انكبحت طيلة عقود ثم انفتقت فجأة كالجراح المحتقن. فما أن حيّاها ، حتى بدأت يداها يتحرّيان، لتمسك بيديه برفق . كان وجهها السبعيني ، بدا و كأنه يزداد شحوباً ، ثم تورد تدريجياً ، ليوحي له باحتفاظه بجاذّبيته أيام زمان .
ـ غِبْتَ كثيراً ...؟
حاولت عمداً ألاّ تفتح عينيها .
ـ سمعتُ إنك أتيت لأحبّائِك ؟
ـ نعم . و لم أمكث طويلاً .
ـ حسناً تفعل . لابد أن يرف قلبك على أقاربك فتأتيهم؟ فهم أولى بالمعروف.
ـ ...
بدا نشيجها متريثاً ، و كأنه يخطو خطوات حذرة و فيها كبرياء ،ثم بدأ البكاء يعصف بجسدها . كان هناك ما تخبئه في فؤادها . و ربما كانت نادمة ، لأنها لم تسمح له أن يطفئ ضماه بقبلةٍ . فحافظت حينها على قبلتها يتيمة بلا إجابة . و ربما هو عتب لا تريد أن تفصح عنه . و هاهي تنعيه ببكاء موجع . بِشِعْرالقَوَّالات و بصوت رخيم مكلوم ، و الدموع ثَلَمَت السد الذي أنشأته ، ولم يصمد أمام الفيض . وفاتها إن البكاء ألهاها، فأسفرت أجفانها عن ابيضاض عينيها ، وانعدم سحر تلك النظرات . و كأن كدر السنين قد تراكم لتندثر معالم سحرهما . و شرعت يداها المرتجفتان تتفقدان ما ألفته عيناها آنذاك ، فهاما بحبه . بحثٌ ملهوفٌ ، في كل جسده المتاح ، من رأسه حتى قدميه ، و نشيجها العنيف يتواصل . بجرأة لم يألفها ، في تفقدٍ عبثيٍ لملامح وجهه ، و قبلات قد انهدَّ عنانها ، و الدموع لا قياد يَرْشِمْها .
كانت البنت قد أحضرت قدحي شاي و غادرت، و دموعها تنهمر. كانت ـ كما يبدو ـ على بينة من أمرهما.
لم يطل مكوثه طويلاً . كان من اللأئق أن ينتزع قبلة من وجهها و هي تقبله . لكنه لم يفعلها كما كان يحلم .
لا يعرف بماذا يسمي تجربته تلك ؟ أهي الخجل؟ الحياء؟ الجبن ؟ ليِفِّوِت فرصة تقبيل وجهها المتاح و المستسلم بالكامل . حلَّ بديلاً عن ذلك أيضاً و هو يودعها.. عذابٌ و تأنيبٌ لضميره. ثم صُعِقَ برحيلها المفاجئ، ليترك في قلبه ثغرة تنز ندماً؟
موسى غافل الشطري
و رغم زواجها بعد غيابه ،أثناء مواصلة دراسته، بقيت علاقتهما متواصلة كأصدقاء طفولة . ومرت الأعوام و هو يلتقيها ليلاً عند غياب زوجها الطويل . حاول أن يقبلها ذات مرة، لكنها أبعدت وجهه و يديه بلطف و خرجت . كانت محاولته تلك ،لكي يُقَبِّلها كما طبعت هي قبلتها التي طبعَتْهاعلى فمه يوم ذاك .
أخيراً أذعن ألاّ يحاول مرة ثانية ،رغم تواصلها في المناسبات .بقي شوقه ينبعث في قلبه و عيناه عند كل لقاء يتحرى في عينيهاعن ذلك الوميض الذي سحر كيانه بكامله ، ولم يتكرر ثانية.
أَبَتْ عليه ذلك . و لم يتداولا في لقائهما سوى الأمور العامة، أو هكذا بدا الأمر. رغم الود النابض الذي يتجلى أثناء ذلك عبر ليالٍ كانت تكفي أن يبثا بها لواعجهما .
كان كل مايستطيع فعله : أن يتلقف ابنتها الحابية و يلثم خدها بقبلات حارة. و كأنه يرسلها رسالة مشفرة شوقاً لأمها. فتتناول ابنتها من بين يديه ، و تتشابك الأصابع ، و تقبل خدها بموضع قبلاته . هذا هو مدى ما تسمح لهما ظروفهما ، دون أن ينطقا ولو بكلمة يشيران بها للحب الغامر الذي يلهب جنبيهما .
كان مُتَجَلِّياً جداً لهما ما يخفيان من شوق . كانت هي التي قيدت مساحه تلهفه. فيرسل لها خلال قبلاته لطفلتها نوعاً من العتب على ما ألجم لسانيهما .
أَوْفَتْ للزوج : ألاّ تدعه يلمس سوى أصابعها حينما يتشابكان أثناء تناول الطفلة .
و مضت السنون . عشرات السنين ، و انقطع التواصل ، بعد أن سكن مدينة أخرى بناء لمقتضيات العمل الوظيفي . لكن شوقهما الدفين بقي طريا ، رغم مضي عقود عديدة من الزمن، و بقيا يتابعان بعضهما من بعيد .و توفي الزوج بعد أن خلف لها العديد من الأولاد . و صعق بما تناهى إلى سمعه فقدان بصرها المفاجئ .
لا يريد أن يلتقيها كفيفة البصر ، و يوجع قلبها . فتلافى أي لقاء ، و هو يعاود مدينتهما ، بمروره الخاطف .و تساءل مع نفسه :
ـ كيف أمست تلك العينين الجميلتين الناطقتين بذلك السحر و المشاعر؟
كيف حالهما لو التقيتها ؟ وأي نظرة حنان و شوق يمكن أن يطلا منهما ؟
لم تمهله ظروفه القاسية باللِّقاء حتى تجاوز عمراهما السبعين عاماً . إذ أثقلته الأيام .. فدأب مكابراً عبثاً ، على إزاحة ذكرياته معها جانباً .
ولكن عتابها وصل . واستشف على إنها عَنَتْ : إنه نسيَها . فطالبته بالحضور. أما هو فقد كان مروره يحرجه و أولادها و أحفادها يملؤون البيت .
* * *
عندما توفرت الفرصة واستجاب لرغبتها ، قادته ابنتها الى مأواها . تلك الطفلة التي كان يتلقفها .
كانت الدار خالية عدا الأم و البنت . كان لقاء ـ اختليا فيه لوحدهما ـ كأنه يرأب ذلك الصدع الذي سننت أطرافه الأعوام الطويلة و أزادته حدةً . و كأن ذكرياتها قد انكبحت طيلة عقود ثم انفتقت فجأة كالجراح المحتقن. فما أن حيّاها ، حتى بدأت يداها يتحرّيان، لتمسك بيديه برفق . كان وجهها السبعيني ، بدا و كأنه يزداد شحوباً ، ثم تورد تدريجياً ، ليوحي له باحتفاظه بجاذّبيته أيام زمان .
ـ غِبْتَ كثيراً ...؟
حاولت عمداً ألاّ تفتح عينيها .
ـ سمعتُ إنك أتيت لأحبّائِك ؟
ـ نعم . و لم أمكث طويلاً .
ـ حسناً تفعل . لابد أن يرف قلبك على أقاربك فتأتيهم؟ فهم أولى بالمعروف.
ـ ...
بدا نشيجها متريثاً ، و كأنه يخطو خطوات حذرة و فيها كبرياء ،ثم بدأ البكاء يعصف بجسدها . كان هناك ما تخبئه في فؤادها . و ربما كانت نادمة ، لأنها لم تسمح له أن يطفئ ضماه بقبلةٍ . فحافظت حينها على قبلتها يتيمة بلا إجابة . و ربما هو عتب لا تريد أن تفصح عنه . و هاهي تنعيه ببكاء موجع . بِشِعْرالقَوَّالات و بصوت رخيم مكلوم ، و الدموع ثَلَمَت السد الذي أنشأته ، ولم يصمد أمام الفيض . وفاتها إن البكاء ألهاها، فأسفرت أجفانها عن ابيضاض عينيها ، وانعدم سحر تلك النظرات . و كأن كدر السنين قد تراكم لتندثر معالم سحرهما . و شرعت يداها المرتجفتان تتفقدان ما ألفته عيناها آنذاك ، فهاما بحبه . بحثٌ ملهوفٌ ، في كل جسده المتاح ، من رأسه حتى قدميه ، و نشيجها العنيف يتواصل . بجرأة لم يألفها ، في تفقدٍ عبثيٍ لملامح وجهه ، و قبلات قد انهدَّ عنانها ، و الدموع لا قياد يَرْشِمْها .
كانت البنت قد أحضرت قدحي شاي و غادرت، و دموعها تنهمر. كانت ـ كما يبدو ـ على بينة من أمرهما.
لم يطل مكوثه طويلاً . كان من اللأئق أن ينتزع قبلة من وجهها و هي تقبله . لكنه لم يفعلها كما كان يحلم .
لا يعرف بماذا يسمي تجربته تلك ؟ أهي الخجل؟ الحياء؟ الجبن ؟ ليِفِّوِت فرصة تقبيل وجهها المتاح و المستسلم بالكامل . حلَّ بديلاً عن ذلك أيضاً و هو يودعها.. عذابٌ و تأنيبٌ لضميره. ثم صُعِقَ برحيلها المفاجئ، ليترك في قلبه ثغرة تنز ندماً؟
موسى غافل الشطري