د. رسول محمَّد رسول - من (الوجود) إلى (الماهية) البرفسور (حسن مجيد العبيدي) وحراك (مدرسة النجف الفلسفية)

قبل خمسة وثلاثين عاماً تعرّفت إلى البرفسور (حسن مجيد العبيدي)، كان ذلك في (كلية الآداب - جامعة بغداد)؛ ففي مطلع ثمانينات القرن الفائت كنتُ للتو ولجت (قسم الفلسفة) فيها؛ تلميذاً محباً للحكمة، شغوفاً بالدرس الفلسفي، وهناك كان اللقاء الأول معه، وكان يومها ينهل من رغيف الخبز الفلسفي في الدراسات العليا، ومنذها صرت الصديق التلميذ له، لا يهدأ لنا لسان في حضرة صاحبة المقام العالي (الفلسفة)، تعلَّمت منه فن قراءة الأثر الفلسفي، فدلّني على ذخائر النصوص الفلسفية بمكتبات بغداد، وعلّمني حرفة الغوص في أتون تلك الذخائر، فصارت (الفلسفة) معه مطواعةً سلسة لي، بل أنثى كانت تبدي محاسن جسدها بكثير من الغنج والدلال، لكنني كنتُ الصابر بإزاء تمنعها من دون ملل أو عسر وصال؛ فلذة المعرفة الفلسفية أنها خمرة أنيقة الحال، بهية الحضور والمقال، تريدك منحنياً بإذلال، لتمنحك في نهاية الحال رضابها الزلال.
في الوقت الذي أصف فيه الآن البرفسور العبيدي بأنه (شيخ الدرس الفلسفي في بغداد)، كنتُ وحتى الآن أصفه بـ (عاشق النص الفلسفي)، و(الزائر الذي لا تمله رفوف المكتبات)، كنت أراه يقضي ساعات تلو أخرى بين كتبها، فما كان ذلك الجهد العتيد ليذهب هباء حتى خاض غمار البحث الحثيث في عوالم (دقيق الفلسفة)، ذلك (الدقيق) الصعب الذي يجعلك تبحر في مفاهيم المكان والزمان، والعدم والوجود، والحركة والآن، إلى غير ذلك مما درسه العبيدي متألقاً في كتبه متواترة الصدور حتى الآن.
أتذكَّر كل ذلك، وأنا أقرأ (الطبعة الثانية) من تحقيقه لنص فلسفي يعود إلى القرن الثامن عشر لكاتبة الشيخ النُراقي (قرة العيون في الوجود والماهية)، هذا النص الذي يعد أيقونة فلسفية وضعها صاحبها في رحاب (مدرسة النجف الفلسفية) في ذلك الزمان.
لم يكن الشيخ النُراقي (1128 – 1209 هـ) قد ولد بالعراق، لكنه عاش جل حياته في مدينة (النجف الأشرف) حتى توفي فيها، ووري جثمانه في ثراها الرملي الدافئ، لذلك لا يمكن النظر إلى منجزه المعرفي والفلسفي إلا ضمن فضاءات الحوار الفلسفي الذي كان يدور في تلك المدينة المعرفية المؤثرة في حراك الفلسفة العراقية الحديثة.
كتب الشيخ النُراقي مؤلَّفات عدة، وكانت حصّة الفلسفة فيها نحو عشرة منها، لكن كتاب (قرة العيون في الوجود والماهية) يقف في مقدِّمتها من حيث البناء الفلسفي، وتأصيل الاختلاف الفكري.
يقف العبيدي في المبحث الأول عند حياة الشيخ النُراقي، وفي الثاني يكثف القول في فلسفته، وفيه يؤكِّد بأن خطاب هذا الفيلسوف "يمثل امتداداً للمدرسة الفلسفية التي تقر بأصالة الوجود مقابل الماهية". وبذلك ينخرط النُراقي في تيار فلسفة (الملا صدر الدين الشيرازي). كذلك يؤكِّد العبيدي أن الشيخ النُراقي لم يكن ينحاز إلى تيار الحركة الفكرية الإخبارية النقلية بالنجف، إنما إلى "جانب الأصوليين النقديين في الفكر العقيدي".
لهذا، يعتقد العبيدي أن الشيخ النُراقي ينتمي إلى التيار الفلسفي السينوي - الشيرازي الذي يفضل (الوجود) على (الماهية)، بل (الوجود الفردي) بوصفه مصدراً لتحقيق الماهية الفردية من دون المساس بأولوية الخالق على خلقه، فأين هذا من المدرسة الوجودية التي تقدِّم (الوجود) على (الماهية) في القرن العشرين؟
إلى جانب ذلك، يرى العبيدي أن الخطاب الفلسفي للشيخ النُراقي يتقاطع مع "المدرسة الأفلاطونية الإشراقية في الإسلام"، فأين كان الدكتور محمَّد عابد الجابري من نص النُراقي هذا، الذي كان يعزز العقلانية المغاربية دون المشرقية؟
لقد توافر البرفسور العبيدي على هذا النص الفريد بإضاءات تنير متنه الفلسفي من حيث اللغة والبلاغة والمصطلح والأعلام والمؤلّفات والتيارات التي أتى الشيخ النُراقي على ذكرها فيه، وهي إضاءات كشفت عن مكانة هذا المتن النفيس في صيرورة الحراك الفلسفي بمدينة النجف الأشرف في أثناء تلك الفترة، وعن قيمته المعرفية، وكذلك عن انغماس الفيلسوف في مجمل الحوار الفكري والديني والفلسفي الذي كانت تشهده تلك المدينة، ما يسوغ لنا القول بأن المعرفة الفلسفية لم تتوقَّف في العراق، لا بعد شطحة الغزالي الذي نسفها في كتابه (تهافت الفلاسفة)، ولا بعد إحياء القول الفلسفي لدى ابن رشد في كتابه (تهافت التهافت)، فالصوت الفلسفي العراقي بقي ممتداً في إنتاجه من جابر بن حيان حتى الشيخ النُراقي، ومن بعده.
طوبى للشيخ النُراقي الذي أحيا جذوة الدرس الفلسفي في دقيقه في القرن الثامن عشر، وطوبى للبروفيسور العبيدي الذي دلّنا على هذا المتن الفلسفي الجليل في قيمته المعرفية وفضاءه الفلسفي الواسع في القرن الواحد والعشرين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى