ــ لست شاعرا ولا ناقدا:
قال النادل لشكري، ونحن نجتاز عتبة (إلدورادو): "قبل قليل جاء إلى هنا شاب يسأل عنك"· تجلى الاهتمام في عيني شكري: "ألم يذكر اسمه؟"· رد النادل: "لا، لكنه قال إنه سيعاود المجيء"·
جلسنا· بعد نصف ساعة· اقترب من مائدتنا شاب في العشرين من عمره· يبدو مرتبكا:
ــ عفوا، أنا مواظب على قراءتك، يا أستاذ· وأحب كل ما تكتب·
ــ أشكرك·
يزداد الشاب ارتباكا· جبهته تنضح عرقا:
ــ أنا·· أنا أكتب شعرا· وأود أن تقرأه و تقول لي رأيك·
يخرج الشاب من جيبه ورقة مطوية· يناولها لشكري بيد مرتعشة:
ــ أرجو أن تقرأها·
يأخذ شكري منه الورقة· يدعوه إلى الجلوس· يقرأها· يردها إليه:
ــ اسمح لي، ما هو مكتوب في هذه الورقة لا علاقة له لا بالشعر ولا بالنثر! لغتك فقيرة· وأخطاؤك النحوية كثيرة جدا· يبدو أنك لا تقرأ·
ارتخت نظرات "الشاعر"· شحب وجهه· تمتم:
ــ بماذا تنصحني يا أستاذ؟
ــ أنا لا أحب أن أنصح أحدا· دع الكتابة جانبا، وحاول أن تقرأ كثيرا وبتمعن·
ــ هل تسمح لي بزيارتك مرة أخرى؟
ــ إسمع· عندما تتمكن من كتابة نص جيد تعال· لكن قبل ذلك لا!
صافح الشاب كلينا· ثم غادر المكان وهو يتنفس الصعداء!
ـ شكري آخر:
أزور الرجل الذي لا يألو نبلا، عبد الصمد العشاب، ذات عشية، في مكتبه بمكتبة عبد الله كنون، فلا أجده·
أترك له عند (حسن بلمهدي) نسخة من كتابي "هكذا تكلم محمد شكري"· بعد أقل من ثلاثة أيام، أتلقى منه رسالة يفضح فيها نبله على مرأى من قديري·
"··· لقد أتحفتني بالهدية الجميلة (هكذا تكلم محمد شكري)· ولعمري إن في كلامه من الصراحة والعفوية ما يجعل كل قارئ لكتابكم عنه، يطيل الجلسة مع شكري من خلال صفحات الكتاب· فقد استطعت أن تستثير كوامن الكاتب، و تستخرج ما يغلي به أتون نفسه، وصنعت من كل ذلك (محمد شكري آخر) ذي التجارب والمعاناة والصيغ الغريبة للحياة"·
مذهل هذا الرجل: يحرض على التوثب· لا يبعث على التثاؤب·
ــ عليَّ أن أغادر:
"قرأت مخطوطة كتابك· سلمته منذ يومين لطارق سليكي ليعده على الحاسوب"·
يقول لي محمد شكري أثناء لقاء لم نخطط له، في شارع محمد الخامس· أسأله:
ــ كيف وجد الكتاب؟
قال وسبابته مصوبة نحو مقهى البريد:
ــ لنجلس قليلا في (كران بوسط)·
بدأنا السير· أعدت عليه نفس السؤال الذي تركه يتيم الإجابة· قال:
ــ جيد، أعجبتني العناوين التي وضعتها للفصول· وأعتقد أن أجمل ما في الكتاب فصله الأخير·
ــ وكذلك الفصل الأول·
ــ نعم·
وصلنا إلى المقهى· مكثنا حوالي نصف ساعة· بين الحين والآخر، كان شكري ينظر إلى ساعة يده· فجأة نهض واقفا: "عفوا· علي أن أغادر، عندي موعد مع صحفي إسباني من جريدة (الباييس)· خطا نحو الباب· ثم رجع كمن تذكر شيئا: "سأتصل بك فيما بعد لنكتب عقدا بخصوص طبع ونشر الكتاب"·
ــ أماكن فقدت جاذبيتها:
ذات جولة في مكتبة الفجر، عثرت على نسخة من "مشارف" إميل حبيبي، صادرة في نوفمبر 1996· أقرأ ما كتبه الروائي التونسي حسونة المصباحي: "الجلسة مع محمد شكري تبدأ هادئة جدا· ثم تأخذ في الصعود شيئا فشيئا، إلى أن تتحول إلى سمفونية صاخبة، مجنونة، بلا حدود، بلا ممنوعات ، بلا منطق، بلا مبررات· وكل من لا يتبين هذا، يضيع ويفقد توازنه، ويصبح مثل قشة في مهب الريح· كثير من جلسات شكري تذكرني بذلك الفصل الرهيب من رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، حين يصبح كل من بلوم وستيفان ديدالوس عاجزين عن تمييز الأشياء· وإذا العالم يتحول إلى هذيان بديع في الليل المتورم بالشراب والسهر"·
أحمل المجلة إلى شكري· "سبق لحسونة أن حدثني عن يومياته هذه، لكني لم أقرأها بعد" ـ يقول شكري ويشرع في القراءة بصوت مسموع· بين حين وآخر، يهز رأسه· يبتسم أو يعبس· ثم يواصل القراءة إلى السطر الأخير· يضع المجلة جانبا:
ــ يوميات جيدة· لكن حسونة المصباحي يبالغ أحيانا في استنتاجاته·
ــ كيف؟ (أسأله)·
ــ يعتقد أنني أغير أماكن جلوسي لأنني ذو طبيعة غجرية· وهذا ليس صحيحا· الأماكن التي هجرتها فقدت جاذبيتها· أصبحت سيئة الخدمة· وامتلأت بالفضوليين والثرثارين·
ــ يقول حسونة إن الجلسة معك "سمفونية صاخبة" تفقد توازن من لا يتبينها!
علَّق شكري ضاحكا:
ــ إنه يتحدث عن نفسه، يبدو أنه فقد توازنه مرتين:
مرة وهو يجلس معي· وأخرى حين كان يكتب يومياته!
بعد قليل، أضاف جادا: "حسونة المصباحي كاتب جيد· أحب أن أقرأ له· منفاه الألماني عمق تجربته الحياتية· وأكسبه قدرة على فهم نفسه، و تمثل واقع بلاده تونس وهو بعيد"·
ــ لست قاصرا:
كان الطقس شديد البرودة ذلك المساء· شكري يرتدي معطفا بنيا طويلا، يصل إلى كاحليه· الشال الصوفي حول رقبته· مد يده لي مصافحا· ابتسامة نحيلة، شاحبة، يبدو شاردا على غير العهد به·
ــ ياك لا باس السي محمد؟ أراك مهموما (قلت )·
في عينيه نظرة أسى· كمن يحدث نفسه يردد بصوت خفيض:
ــ أسرتي لا تريد أن تتركني في حالي، لعنة الماضي تلاحقني· من الصعب أن يعيش من هو مثلي في منأى عن الإزعاج·
أستشعر ما يعتمل في دخيلته· فكرت أن أقول شيئا، أي شيء· لكني أحجمت: "الصمت أجدى" ـ قلت لنفسي·
أطفأ سيجارته· نفث الدخان بغيظ: "في منتصف الليل يتصل بي أحدهم ويوجه لي نصائحه، كما لو كنت قاصرا! هل هذا معقول؟!"·
أوشك أن أبدى استغرابي· يعود صوته متضمنا سخطه: "سأسكت هذا الهاتف الملعون، حتى لا أضطر لسماع صوت المصارين المحشوة بالخراء!!"·
كان شكري منفعلا· لا يكاد يتحكم فيما يقوله·
ركنت إلى صمت سرعان ما مزقه شكري بقوله وهو ينهض من على كرسيه: "ينبغي أن أذهب"·
8/16/2005
قال النادل لشكري، ونحن نجتاز عتبة (إلدورادو): "قبل قليل جاء إلى هنا شاب يسأل عنك"· تجلى الاهتمام في عيني شكري: "ألم يذكر اسمه؟"· رد النادل: "لا، لكنه قال إنه سيعاود المجيء"·
جلسنا· بعد نصف ساعة· اقترب من مائدتنا شاب في العشرين من عمره· يبدو مرتبكا:
ــ عفوا، أنا مواظب على قراءتك، يا أستاذ· وأحب كل ما تكتب·
ــ أشكرك·
يزداد الشاب ارتباكا· جبهته تنضح عرقا:
ــ أنا·· أنا أكتب شعرا· وأود أن تقرأه و تقول لي رأيك·
يخرج الشاب من جيبه ورقة مطوية· يناولها لشكري بيد مرتعشة:
ــ أرجو أن تقرأها·
يأخذ شكري منه الورقة· يدعوه إلى الجلوس· يقرأها· يردها إليه:
ــ اسمح لي، ما هو مكتوب في هذه الورقة لا علاقة له لا بالشعر ولا بالنثر! لغتك فقيرة· وأخطاؤك النحوية كثيرة جدا· يبدو أنك لا تقرأ·
ارتخت نظرات "الشاعر"· شحب وجهه· تمتم:
ــ بماذا تنصحني يا أستاذ؟
ــ أنا لا أحب أن أنصح أحدا· دع الكتابة جانبا، وحاول أن تقرأ كثيرا وبتمعن·
ــ هل تسمح لي بزيارتك مرة أخرى؟
ــ إسمع· عندما تتمكن من كتابة نص جيد تعال· لكن قبل ذلك لا!
صافح الشاب كلينا· ثم غادر المكان وهو يتنفس الصعداء!
ـ شكري آخر:
أزور الرجل الذي لا يألو نبلا، عبد الصمد العشاب، ذات عشية، في مكتبه بمكتبة عبد الله كنون، فلا أجده·
أترك له عند (حسن بلمهدي) نسخة من كتابي "هكذا تكلم محمد شكري"· بعد أقل من ثلاثة أيام، أتلقى منه رسالة يفضح فيها نبله على مرأى من قديري·
"··· لقد أتحفتني بالهدية الجميلة (هكذا تكلم محمد شكري)· ولعمري إن في كلامه من الصراحة والعفوية ما يجعل كل قارئ لكتابكم عنه، يطيل الجلسة مع شكري من خلال صفحات الكتاب· فقد استطعت أن تستثير كوامن الكاتب، و تستخرج ما يغلي به أتون نفسه، وصنعت من كل ذلك (محمد شكري آخر) ذي التجارب والمعاناة والصيغ الغريبة للحياة"·
مذهل هذا الرجل: يحرض على التوثب· لا يبعث على التثاؤب·
ــ عليَّ أن أغادر:
"قرأت مخطوطة كتابك· سلمته منذ يومين لطارق سليكي ليعده على الحاسوب"·
يقول لي محمد شكري أثناء لقاء لم نخطط له، في شارع محمد الخامس· أسأله:
ــ كيف وجد الكتاب؟
قال وسبابته مصوبة نحو مقهى البريد:
ــ لنجلس قليلا في (كران بوسط)·
بدأنا السير· أعدت عليه نفس السؤال الذي تركه يتيم الإجابة· قال:
ــ جيد، أعجبتني العناوين التي وضعتها للفصول· وأعتقد أن أجمل ما في الكتاب فصله الأخير·
ــ وكذلك الفصل الأول·
ــ نعم·
وصلنا إلى المقهى· مكثنا حوالي نصف ساعة· بين الحين والآخر، كان شكري ينظر إلى ساعة يده· فجأة نهض واقفا: "عفوا· علي أن أغادر، عندي موعد مع صحفي إسباني من جريدة (الباييس)· خطا نحو الباب· ثم رجع كمن تذكر شيئا: "سأتصل بك فيما بعد لنكتب عقدا بخصوص طبع ونشر الكتاب"·
ــ أماكن فقدت جاذبيتها:
ذات جولة في مكتبة الفجر، عثرت على نسخة من "مشارف" إميل حبيبي، صادرة في نوفمبر 1996· أقرأ ما كتبه الروائي التونسي حسونة المصباحي: "الجلسة مع محمد شكري تبدأ هادئة جدا· ثم تأخذ في الصعود شيئا فشيئا، إلى أن تتحول إلى سمفونية صاخبة، مجنونة، بلا حدود، بلا ممنوعات ، بلا منطق، بلا مبررات· وكل من لا يتبين هذا، يضيع ويفقد توازنه، ويصبح مثل قشة في مهب الريح· كثير من جلسات شكري تذكرني بذلك الفصل الرهيب من رواية "يوليسيس" لجيمس جويس، حين يصبح كل من بلوم وستيفان ديدالوس عاجزين عن تمييز الأشياء· وإذا العالم يتحول إلى هذيان بديع في الليل المتورم بالشراب والسهر"·
أحمل المجلة إلى شكري· "سبق لحسونة أن حدثني عن يومياته هذه، لكني لم أقرأها بعد" ـ يقول شكري ويشرع في القراءة بصوت مسموع· بين حين وآخر، يهز رأسه· يبتسم أو يعبس· ثم يواصل القراءة إلى السطر الأخير· يضع المجلة جانبا:
ــ يوميات جيدة· لكن حسونة المصباحي يبالغ أحيانا في استنتاجاته·
ــ كيف؟ (أسأله)·
ــ يعتقد أنني أغير أماكن جلوسي لأنني ذو طبيعة غجرية· وهذا ليس صحيحا· الأماكن التي هجرتها فقدت جاذبيتها· أصبحت سيئة الخدمة· وامتلأت بالفضوليين والثرثارين·
ــ يقول حسونة إن الجلسة معك "سمفونية صاخبة" تفقد توازن من لا يتبينها!
علَّق شكري ضاحكا:
ــ إنه يتحدث عن نفسه، يبدو أنه فقد توازنه مرتين:
مرة وهو يجلس معي· وأخرى حين كان يكتب يومياته!
بعد قليل، أضاف جادا: "حسونة المصباحي كاتب جيد· أحب أن أقرأ له· منفاه الألماني عمق تجربته الحياتية· وأكسبه قدرة على فهم نفسه، و تمثل واقع بلاده تونس وهو بعيد"·
ــ لست قاصرا:
كان الطقس شديد البرودة ذلك المساء· شكري يرتدي معطفا بنيا طويلا، يصل إلى كاحليه· الشال الصوفي حول رقبته· مد يده لي مصافحا· ابتسامة نحيلة، شاحبة، يبدو شاردا على غير العهد به·
ــ ياك لا باس السي محمد؟ أراك مهموما (قلت )·
في عينيه نظرة أسى· كمن يحدث نفسه يردد بصوت خفيض:
ــ أسرتي لا تريد أن تتركني في حالي، لعنة الماضي تلاحقني· من الصعب أن يعيش من هو مثلي في منأى عن الإزعاج·
أستشعر ما يعتمل في دخيلته· فكرت أن أقول شيئا، أي شيء· لكني أحجمت: "الصمت أجدى" ـ قلت لنفسي·
أطفأ سيجارته· نفث الدخان بغيظ: "في منتصف الليل يتصل بي أحدهم ويوجه لي نصائحه، كما لو كنت قاصرا! هل هذا معقول؟!"·
أوشك أن أبدى استغرابي· يعود صوته متضمنا سخطه: "سأسكت هذا الهاتف الملعون، حتى لا أضطر لسماع صوت المصارين المحشوة بالخراء!!"·
كان شكري منفعلا· لا يكاد يتحكم فيما يقوله·
ركنت إلى صمت سرعان ما مزقه شكري بقوله وهو ينهض من على كرسيه: "ينبغي أن أذهب"·
8/16/2005