قبل احد عشر يوماً تقريباً، وكان اليوم يوم أربعاء، كنت أستقل حافلة الركاب من وسط المدينة إلى مبنى الجامعة. كانت الحركة بطيئة، فالطلاب لم يبدأوا بعد فصلهم الصيفي، وكانت الجامعة تستعد لاستقبال أبي مازن يوم الخميس، لافتتاح مبنى جديد، ولتخريج دفعة من الطلبة، ولمنحه شهادة الدكتوراه الفخرية. وكان السائق يعرف بزيارة الرئيس، فقال على سبيل الدعابة: غداً إن شاء الله أجرة الراكب تتضاعف، فالرئيس سيشرف المدينة. ولم يعقب أي من الركاب، كأن السائق لم يقل شيئاً. كأنه لم يداعب احداً، أو أن الكشرة، كما كتب علي الخليلي في عموده، هي كشرة ناس وكشرة حكومة. كشرة شعب.
ويبدو ان السائق كان يرغب في الكلام حتى لو لم يرغب الركاب في الاستماع. أراد السائق ان يبدي رأيه فيما يجري، وأراد أن ينتقد لا مبالاة الناس، فغزة تقصف، ونابلس تقتحم، وكثير من البشر في عالم آخر، في عالم الرياضة، في المانيا وليس في فلسطين. شتم السائق الشعب من خلال ملاطفته التالية: تتحدث مع الناس، مع الواحد منهم، عما يجري هنا او في غزة، فيجيبك: من ستفوز بمباراة كأس العالم الارجنتين أم البرازيل، كأنهم ليسوا هنا. كأنهم هناك.
ولما كنت انا من عشاق كرة القدم التي حفظنا نشيد حبها صغاراً، ولطالما كررنا: كرة القدم مجلي الهمم، فقد قلت له: اننا هنا وهناك، نشاهد الموت، وقد نموت، ونشاهد مباريات كأس العالم.
والحقيقة ان انتقاد الجماهير العربية، وربما ايضاً الفلسطينية، لانصرافها عن الهم العام، والتفاتها الى أمور ثانوية، ليس بالامر الجديد، فقد صب عشرات الكتاب في العام 1982 جام غضبهم على الجماهير الجزائرية، لان نصف مليون مواطن خرجوا في تظاهرة ضد الحكم، ولم يخرج عشرة آلاف مواطن في تظاهرة يومها احتجاجاً على قصف بيروت بالقنابل الفراغية. وربما لم يشذ (ايهود اولمرت) عن الجماهير العربية، ففي مقابلة معهه قبل ثلاثة ايام، وهو في الاردن، في البتراء، يحضر، مع أبي مازن والملك عبد الله، مؤتمر أدباء الحائزين على جائزة (نوبل)، سئل ان كان استمع الى خطاب أبي مازن الداعي الى اقامة دولتين متجاورتين: اسرائىل وفلسطين، وكان جوابه: لقد اصغيت اليه ثم اخذت أتابع مباراة كرة القدم. وكان تعقيب صاحب التقرير: ان (اولمرت) يريد ان يقول: لم يعجبني كلام أبي مازن. سنطبق الحل الذي نراه.
وربما تذكر المرء احد الافلام التي أتى صاحبها فيها على الصراع الاسرائيلي الفلسطيني في العام .1982 أسر الفلسطينيون يومها جندياً اسرائيلياً، وكانوا، على الرغم من امكاناتهم الشحيحة، يشاهدون في غرفة بائسة، فيها تلفاز، مباراة كأس العالم النهائية. نسي الفلسطينيون انهم في حالة حرب، او تناسوا، واخذوا يشاهدون المباراة التي شاهدها معهم الجندي الاسرائيلي ايضاً. ولا أدري الآن بالضبط لمن تعصب كل فريق.
ولم يختلف الامر في العام 2002، كانت نابلس تحاصر حصاراً شديداً، ولم تكن بعد، خرجت من الاجتياح المدمر. وزار صحافيون اسرائيليون استاذاً جامعياً، هو المرحوم خالد صلاح الذي قتل مع ابنه بدم بارد، وطلبوا منه، والبلدة القديمة محاصرة، ان يشاهدوا معه مباريات كأس العالم، واذن لهم، قائلاً بوعيه البسيط، ولا اريد ان أقول: بسذاجة- قائلاً: ولكن لا اريد الحديث في السياسة. ولم ينقذ هذا كله الدكتور من القتل، يوم حاصر الجنود الاسرائيليون المنطقة التي يقيم فيها، لقتل فدائيين قتلا ضابطاً يومها، فجن جنون جندي وقتل الدكتور وابنه.
السائق يقول: تتحدث مع الناس عن الاجتياحات، فيجيبك هؤلاء: من سيفوز بالمباراة النهائية؟ او هل شاهدت مباراة تونس والسعودية او.... وانا سأقول له: نحن هنا وهناك.
أنا مثلاً أتابع الرياضة هذه منذ العام 1974، وما زلت أذكر المباراة النهائية بين المانيا وهولندا، وما زلت اذكر مواقف هولندا يومها المؤيدة لدولة اسرائيل. وبوعيي السياسي البسيط يومها وجدتني وأبي الذي يحب الألمان ويشتم هتلر لانه توسع في حربه وحارب الجميع، وجدتنا معا نقف الى جانب المانيا، وربما لم أكن أعرف الكثير عن المانيا وهولندا، ربما عرفت يومها ان هولندا منحازة لاسرائيل.
وأنا أيضاً هذه الايام أتابع الرياضة من ألفها الى يائها، وأتابع أيضاً الاخبار السياسية، واشاهد الاقتحامات التي تجري لنابلس مشاهدة حية مباشرة، اذ قد أكون في هذا الشارع او ذاك، واشاهد قصف الطائرات الاسرائيلية لغزة، وأرى اللحم البشري وبقايا السيارات، وأتحسر لما يجري هنا وفي العراق، وثمة (مونديال) في ملعبين كبيرين: في فلسطين وفي العراق، وهناك مونديالات أخرى. وأحياناً أسأل نفسي: ما الفرق بين اللعب هنا واللعب الذي يجري في المانيا. الكل يريد تسجيل الأهداف، وثمة فرق قوية وأخرى ضعيفة، وقد يكون الفارق الوحيد ان مونديال فلسطين كانت له بداية وليست له نهاية. قد...
عادل الأسطة 2006-06-25
ويبدو ان السائق كان يرغب في الكلام حتى لو لم يرغب الركاب في الاستماع. أراد السائق ان يبدي رأيه فيما يجري، وأراد أن ينتقد لا مبالاة الناس، فغزة تقصف، ونابلس تقتحم، وكثير من البشر في عالم آخر، في عالم الرياضة، في المانيا وليس في فلسطين. شتم السائق الشعب من خلال ملاطفته التالية: تتحدث مع الناس، مع الواحد منهم، عما يجري هنا او في غزة، فيجيبك: من ستفوز بمباراة كأس العالم الارجنتين أم البرازيل، كأنهم ليسوا هنا. كأنهم هناك.
ولما كنت انا من عشاق كرة القدم التي حفظنا نشيد حبها صغاراً، ولطالما كررنا: كرة القدم مجلي الهمم، فقد قلت له: اننا هنا وهناك، نشاهد الموت، وقد نموت، ونشاهد مباريات كأس العالم.
والحقيقة ان انتقاد الجماهير العربية، وربما ايضاً الفلسطينية، لانصرافها عن الهم العام، والتفاتها الى أمور ثانوية، ليس بالامر الجديد، فقد صب عشرات الكتاب في العام 1982 جام غضبهم على الجماهير الجزائرية، لان نصف مليون مواطن خرجوا في تظاهرة ضد الحكم، ولم يخرج عشرة آلاف مواطن في تظاهرة يومها احتجاجاً على قصف بيروت بالقنابل الفراغية. وربما لم يشذ (ايهود اولمرت) عن الجماهير العربية، ففي مقابلة معهه قبل ثلاثة ايام، وهو في الاردن، في البتراء، يحضر، مع أبي مازن والملك عبد الله، مؤتمر أدباء الحائزين على جائزة (نوبل)، سئل ان كان استمع الى خطاب أبي مازن الداعي الى اقامة دولتين متجاورتين: اسرائىل وفلسطين، وكان جوابه: لقد اصغيت اليه ثم اخذت أتابع مباراة كرة القدم. وكان تعقيب صاحب التقرير: ان (اولمرت) يريد ان يقول: لم يعجبني كلام أبي مازن. سنطبق الحل الذي نراه.
وربما تذكر المرء احد الافلام التي أتى صاحبها فيها على الصراع الاسرائيلي الفلسطيني في العام .1982 أسر الفلسطينيون يومها جندياً اسرائيلياً، وكانوا، على الرغم من امكاناتهم الشحيحة، يشاهدون في غرفة بائسة، فيها تلفاز، مباراة كأس العالم النهائية. نسي الفلسطينيون انهم في حالة حرب، او تناسوا، واخذوا يشاهدون المباراة التي شاهدها معهم الجندي الاسرائيلي ايضاً. ولا أدري الآن بالضبط لمن تعصب كل فريق.
ولم يختلف الامر في العام 2002، كانت نابلس تحاصر حصاراً شديداً، ولم تكن بعد، خرجت من الاجتياح المدمر. وزار صحافيون اسرائيليون استاذاً جامعياً، هو المرحوم خالد صلاح الذي قتل مع ابنه بدم بارد، وطلبوا منه، والبلدة القديمة محاصرة، ان يشاهدوا معه مباريات كأس العالم، واذن لهم، قائلاً بوعيه البسيط، ولا اريد ان أقول: بسذاجة- قائلاً: ولكن لا اريد الحديث في السياسة. ولم ينقذ هذا كله الدكتور من القتل، يوم حاصر الجنود الاسرائيليون المنطقة التي يقيم فيها، لقتل فدائيين قتلا ضابطاً يومها، فجن جنون جندي وقتل الدكتور وابنه.
السائق يقول: تتحدث مع الناس عن الاجتياحات، فيجيبك هؤلاء: من سيفوز بالمباراة النهائية؟ او هل شاهدت مباراة تونس والسعودية او.... وانا سأقول له: نحن هنا وهناك.
أنا مثلاً أتابع الرياضة هذه منذ العام 1974، وما زلت أذكر المباراة النهائية بين المانيا وهولندا، وما زلت اذكر مواقف هولندا يومها المؤيدة لدولة اسرائيل. وبوعيي السياسي البسيط يومها وجدتني وأبي الذي يحب الألمان ويشتم هتلر لانه توسع في حربه وحارب الجميع، وجدتنا معا نقف الى جانب المانيا، وربما لم أكن أعرف الكثير عن المانيا وهولندا، ربما عرفت يومها ان هولندا منحازة لاسرائيل.
وأنا أيضاً هذه الايام أتابع الرياضة من ألفها الى يائها، وأتابع أيضاً الاخبار السياسية، واشاهد الاقتحامات التي تجري لنابلس مشاهدة حية مباشرة، اذ قد أكون في هذا الشارع او ذاك، واشاهد قصف الطائرات الاسرائيلية لغزة، وأرى اللحم البشري وبقايا السيارات، وأتحسر لما يجري هنا وفي العراق، وثمة (مونديال) في ملعبين كبيرين: في فلسطين وفي العراق، وهناك مونديالات أخرى. وأحياناً أسأل نفسي: ما الفرق بين اللعب هنا واللعب الذي يجري في المانيا. الكل يريد تسجيل الأهداف، وثمة فرق قوية وأخرى ضعيفة، وقد يكون الفارق الوحيد ان مونديال فلسطين كانت له بداية وليست له نهاية. قد...
عادل الأسطة 2006-06-25