خالد جهاد - جاكلين خوري.. أحلام في حضن الأشواك

برغم أن النسيان هو أحد النعم التي وهبها الله للإنسان إلاّ أنه في بعض الأحيان يتحول إلى جريمةٍ أو خطيئة بحق الذات وبحق الذاكرة الوطنية، خاصةً عندما نرى حالة الفراغ الطاغية في ظل غياب وتغييب الأيقونات والقامات التي عبدت لنا الطريق في مختلف المجالات وجعلتنا نتعلم منهم كل ما نعيش في ظله اليوم ببساطة، دون أن نلقي بالاً لمن كانوا أصحاب البصمة الأولى والصرخة الأولى والخطوة الأولى نحو الإبداع والإنجاز والحرية الحقيقية البعيدة كل البعد عن التزييف والشعارات والمصالح الشخصية، لذا نستذكر اليوم أول مراسلة صحفية عربية وأول من عمل من المراسلات في صحيفة الأهرام المصرية العريقة الصحفية الفلسطينية جاكلين خوري..

ولدت جاكلين فى مدينة حيفا عام ١٩٢٥ لعائلةٍ ميسورة ومثقفة فهي ابنة السيد رشيد خوري رئيس بلدية حيفا، وكانت تعيش في منزلٍ كبير وأنيق بحديقةٍ واسعة على جبل الكرمل المطل على البحر والذي كانت تسكنه الطبقات الثرية من الفلسطينيين آنذاك، تفوقت دراسياً وبدأت ميولها الأدبية تظهر منذ كانت في المدرسة، حيث بدأت في نظم الشعر وهي في المرحلة الثانوية وتأثرت بالظروف المحيطة بها فكتبت للوطن والنضال والكفاح وحب الأرض، وككل الفتيات عاشت جاكلين في الثامنة عشرة من عمرها قصة حبٍ مع الشاب (يوسف قطان) جعلتها تتعلق به وتصر على الزواج منه رغم رفض والدها له، فما كان منها إلا أن تركت منزل والدها لتسافر إلى مدينة القدس لعقد الزواج هناك بعد استئجار شقة سكنية صغيرة فى إحدى ضواحيها، ولكن هذا الزواج لم يدم طويلاً حيث تركته بعد أن أساء إليها واعتدى عليها بالضرب لعدة أشهر متواصلة دون أن يقدر التضحية التي أقدمت عليها لتكون معه رغم كل الصعوبات، وهو ما دفعها لتعود إلى منزل والدها في حيفا وتتقدم بطلب للحصول على الطلاق من الكنيسة الكاثوليكية وهو ما قوبل بالرفض، وبعد أشهرٍ قليلة طفلتها الوحيدة (منى) عام ١٩٤٤، ما دفع زوجها لزيارة المستشفى مطالباً إياها بضرورة العودة مع الطفلة إلى بيتهما في القدس وهو ما كان مستهجناً من الجميع..

وحاولت جاكلين بعدها البدء من جديد وسط العديد من المشاكل الشخصية التي تزامنت مع الأوضاع السياسية الشائكة في فلسطين قبل النكبة أي ما قبل العام ١٩٤٨، فقررت السفر إلى القاهرة برفقة عائلتها التي دعمتها وأقاموا جميعاً في شقةٍ في وسط القاهرة في (عمارة يعقوبيان) المعروفة، وعندما بلغت ابنتها الرابعة من عمرها عام ١٩٤٨ ألحقتها بالقسم الداخلي لأفضل المدارس الفرنسية في مصر والتي لا يلتحق بها سوى طبقة الأثرياء كونها بطبيعة الحال تنتمي إليها، ورغم اهتمامها بإبنتها إلاّ أن ذلك لم يمنعها من العودة إلى مقاعد الدراسة والإلتحاق بقسم الصحافة في الجامعة الأمريكية لتتخرج بعدها بثلاث سنوات بتفوق بعد نيلها المرتبة الأولى على دفعتها..

لكنها بدأت مشوارها الصحفي باكراً وحتى قبل تخرجها ففي عام ١٩٥٠ أي قبل عامٍ من تخرجها ذهبت الى الأستاذ (نجيب كنعان) مدير تحرير الأهرام ورئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط آنذاك وقدمت له بعض كتاباتها وتقريراً من الجامعة عن تفوقها الدراسي، وبعد الإطلاع على أوراقها تم قبولها واعتمادها كمحررة تحت التمرين وتم تعيينها بالجريدة بمجرد تخرجها، وبعد شهورٍ قليلة أسند إليها الأستاذ كنعان العمل كمراسلةٍ دبلوماسية فى وزارة الخارجية مما أعطاها الفرصة لتكوين عدة علاقات مع كبار المسؤولين في السلك الدبلوماسي والحكومة، وكنتيجةٍ لنجاحها وتفوقها أسند الأستاذ كنعان إليها الإشراف على تحرير الصفحة الأخيرة بالأهرام وتطويرها لتكون أكثر جاذبيةً للقارئ، وهو ما نجحت فيه خلال أشهر قليلة استطاعت فيها تغيير معالم الصفحة الأخيرة وجعلها محط اهتمام القراء بعد أن أدخلت فيها عدة أقسام متنوعة وجديدة على القارىء بين فقراتٍ تخص المرأة والأخبار العالمية والترفيهية والثقافية، وظلت تعمل بنجاحٍ واجتهاد حتى عام ١٩٥٧ الذي شهد تحولاً كبيراً تمثل في ترأس الأستاذ محمد حسنين هيكل للصحيفة وعمله على زيادة توزيع أعدادها وتحقيق أرباح أكبر، وقد رافق هذا التغيير عدة قرارات لم تراعي الأقدمية في المؤسسة حينها كما لم تراعي الإمكانيات المهنية والإنجازات التي حققها كثيرون من قبل، فأسند الى الأستاذ (كمال الملاخ) مسؤولية تحرير الصفحة الأخيرة، كما استبدلها بالأستاذ (حمدى فؤاد) من صحيفة (الوفد) ليتولى عمل المحرر الدبلوماسي مكان جاكلين خوري التي شعرت بظلمٍ كبير اتخذت على اثره قرارها بتقديم الإستقالة خاصةً وأن (هيكل) لم يكن يسمح لأحد بمناقشته في قراراته..

وتزامنت تلك الفترة مع انفصال والديها ثم ارتباط والدتها برجل الأعمال الفلسطيني (رشيد الميزاوي) الذي أقامت معه بعد الزواج، وهو ما دفع جاكلين للإنتقال مع ابنتها إلى (عمارة اللواء) أمام مبنى الأهرام القديم في منطقة (باب اللوق)، وجعلها تسعى لطلب الطلاق من الكنيسة مرةً أخرى حتى حصلت عليه فعلياً، ولكن في عام ١٩٥٧ عاد الزوج السابق (يوسف قطان) ليظهر في حياتها مجدداً عندما بلغت ابنتهما (منى) سن الثالثة عشرة من العمر ليأخذها في رحلةٍ صيفية على أن يعيدها إليها فى بداية العام الدراسي، لكنه لم يصرح فيها عن نيته بأخذها لتقيم معه في السودان حيث مقر عمله الجديد، وبعد اكتشافها لذلك لجأت إلى القضاء مراراً وتكراراً دون جدوى، وهو ما أصابها بإنهيارٍ عصبي بكل أسف في نفس الوقت الذي تنقلت فيه ابنتها مع والدها بين عدة بلدان من السودان إلى العاصمة البريطانية لندن لترافقه في رحلةٍ علاجية جعلته يلحقها بمدرسة (كوينز وود) الشهيرة هناك، وبعد انتهاء (منى) من دراستها الثانوية عام ١٩٦٣ أخذها والدها لتكمل دراستها الجامعية في بيروت لتظل بعيدةً عن والدتها التي لم تفقد الأمل في لقائها وكانت لا تزال تخوض معاركها القضائية لإعادتها إلى أحضانها، وكانت منى أيضاً تبحث عن والدتها في ذلك الوقت ما دفعها إلى مغادرة لبنان عائدةً إلى القاهرة لتقيم معها في (عمارة اللواء) ولتلتحق بالجامعة الأمريكية في قسم اللغة الإنجليزية والتي استكملتها لاحقاً بالتقدم إلى المعهد العالى للفنون المسرحية، وكانت تذهب إلى جريدة الأهرام بصحبة والدتها التي قدمتها إلى زملائها الصحفيين وأصدقائها بالجريدة، وكان من بينهم الفنان الكبير صلاح جاهين الذي تزوجها بعد انهائها دراستها الجامعية رغم معارضة جاكلين خوري التي كانت تعتقد أن مرور السنوات قد تغير في مشاعرها ورغبتها في الإرتباط به وهو مالم يحدث، حيث تزوجا وعاشا معاً في شقة بشارع جامعة الدول العربية وأصبحت ممثلة شاركت في عدد من الأعمال الهامة فنياً وكانت جاكلين تزورهما أحيانا..

كان القرار الأول للأديب (يوسف السباعي) عند توليه رئاسة مجلس إدارة الأهرام عام ١٩٧٦ هو ترقية جاكلين خوري لتصبح رئيسة قسم الترجمة بناءاً على طلب الأستاذ (نجيب كنعان)،
وخلال عملها التقت بالصحفي (إبراهيم عامر) رئيس قسم الشؤون العربية بجريدة (الجمهورية) وتزوجت منه، وشهدت تلك الفترة حالةً من التألق والتميز والصعود والنجاح المهني لها من خلال ايفادها من قبل الأهرام لتغطية العديد من الأحداث الهامة حول العالم، والتي دعمت بأسلوبها وخطها الصحفي الذي اختارته لنفسها أن تساند كل القضايا الإنسانية وقضايا النضال الوطني والتحرر، حيث لم تنسى رغم حياتها المليئة بالتنقلات سواءاً كان ذلك لأسبابٍ شخصية أو مهنية أنها سيدةٌ فلسطينية تنتمي إلى أرضٍ محتلة وشعبٍ يعيش التهجير
والقمع ولا تزال تناضل معهم لإسترداد أرضها ومالها ومنزلها الذين تم مصادرتهم من قبل الصهاينة، فظلت تتحدث عن قضية شعبها على مختلف المنابر وفي كل فرصة ممكنة، ولكن وبكل أسف تغيرت حياة جاكلين خوري بشكلٍ لم تعد قادرةً معه على تحمل المزيد من الآلام، فبعد مرور عامين على زواجها وبينما كانت تحضر للسفر إلى بيروت لمدة أسبوعين لقضاء عطلةٍ برفقة زوجها تلقت مكالمةً هاتفية من صديق يبلغها أن مبنى صحيفة (المحرر) تم نسفه بصاروخ من طائرةٍ صهيونية راح ضحيته عدد من الصحفيين من بينهم (إبراهيم عامر) زوجها، وهو ما أصاب جاكلين بإكتئاب شديد لازمها وقضت على إثره العام الأخير من حياتها في أحد أشهر المستشفيات المختصة بالعلاج النفسي في القاهرة، وقبل رحيلها بأسبوع تقدمت ابنتها (منى) بطلب للأطباء والمصحة لكي تغادرها والدتها برفقتها لكن الأطباء رفضوا جو ذلك مع أن وضعها كان مستقراً، وفي يوم الثاني والعشرين من شهر نيسان/أبريل عام ١٩٨٠ طلبت جاكلين من الممرضة مفتاح الشرفة لتفاجأ الجميع بإنتحارها والقائها بنفسها من الطابق الثالث كما روي حينها...

ومع أن ابنتها الممثلة الفلسطينية (منى قطان) بعيدةٌ عن الأضواء منذ عقود بعد أن تفرغت
لتربية ابنتها الوحيدة (سامية) إلا أنها لم تنسى وطنها ووالدتها ولن ننسى أنها كانت من جيل الرواد الذين عاشوا المرحلة الذهبية للثقافة والفنون في بلادنا وأسسوا لها بكل اقتدار..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى