سيّدة جميلة كان اسمها " زهرة" ، في منتصف عمرها قرّرت أن تظل جميلة إلى الأبد.
مثلما يحلّ الربيع ، كانت زهرة تحل بقصر " أحمد باي" باي قسنطينة . المدينة المتحركة مع " واد الرومل" إلى قصور الباي الأخرى أين كان يبسط سلطانه ويعرض عليه " عيسى الأشرف" خيمة كبيرة وقد مد سماطها ووقف عليه الخدام. وتقوم زهرة لتنشد: "راجت الحلي راجت ، وصارت مثلا سائرا .إلّا حليّي مثلي أنا نادرة. وكان أحمد باي هو من أهداها حليّها وكسّاها وافرط في تنعيمها.
عشقها الباي أو لم يفعل ، فإنّه كان يعود من معاركه مباشرة إليها فتسفر له عن جمالها ليقول فيه شعرا وأبعد.
استمرّت زهرة متألّقة في قصور الباي يحرسها هو بعينه من شهوات الرجال ومن نفسه وقد أعطاها وعدا بعدم تعدّي نزواته إلى غير استماع الغناء والاستئناس بحديثها. لكنه مرة أراد اجتياحها فأبلى فغضبت ولم ترض إلا حين أقدم بصهره خطيب ابنته العزيزة عنده " فاطمة" ،عيسى الأشرف، ليكون معهما في مجلسهما فيمنعه الحياء من تكرار فعلته.
وكان الباي قد أجّرحارس قصر زهرة خير أجر ليبعد عنها زوجاته ويحصنها من كيدهن. فالباي كان يخشى على زهرة من غيرة زوجاته وقد علمن شغفه بها . فيأتين على فتنته بقولهن: "قد سُجِنتَ بها" .
طال بالباي سجنه بزهرة وطال بعيسى الأشرف الجلوس بينهما وصارت زهرة تمنحه من النظرات خطفا فبدأ الإعجاب بها حتى فاق إعجاب الباي. ثم حتى في غياب أحمد باي لإحدى معاركه جاعلا عيسى الأشرف حاميا لزهرة ، حدث أن استجمعا عواطفهما الهائجة في أرجاء " نهر الرومل" وكان النهر قد تزيّن بتلألؤ النجوم فيه وهلال شهر ربيع الثاني . كانت هذه الصورة المترفة تطوي زهرة وعيسى في الماء الغائر يطفئان لهيب العشق . ثم يتدفّقان يثيران نيران الهوى من ثانٍ حتى تزلزلت حجارة الوادي وسقط الصخر أعلاه فانتبه الحراس.
حين عودة أحمد باي منتصرا في معركته ، متجها نحو قصر زهرة يحمل لها من الشوق أكبر مما يحمله من النصر لوطنه الأم، وجد حارسا عليها غير عيسى صهره. عيسى الذي اختاره من سلالة أمه الحركاتية العوايس، ليكون قائدا وحارسا وصهرا مئتمنا له بكل ما يملك حتى حياته ولهوه وعشقه. ليسمع في البلاط قولا : " ربّ غشّ قد أتى من أهل".
سأل عن عيسى فاستحى الحارس أن يجيب فأسرعت ابنته فاطمة في جواريها تكظم غيظها قالت بصوت يكابد الحزن : الحمد لله ، نلت النصر أبتي. ثمّ أردفت: إنّ عيسى أغضبني
ابتأس الباي مهتما: ما أسلف عيسى؟
العار يا أبي ، العار! الغرّاء في الحجب " زهرة" أغرته وسار في الأرض سوء سمعته.
توقّد الغضب في صدر أحمد باي وزاده غضبا رؤية زهرة مقيّدة في سلاسل الحديد بلا حليّ ولا زينة ولا قفاطين حرير..
بين الهوى والذنب كانت زهرة تسمع التوبيخ ولا تجيب الباي وفاطمة من ورائه تهيّئ من غليل والدها بما يطهّر بالدم هذا العار.
فاطمة تبكي مثل الندى ، فزهرة كانت كأختها جمعت لها السعادة من كفيّ والدها وأغنتها بالعطف والحنان من دون كل الجواري.
بكت فاطمة في حرقة عيسى الذي كان مثل يوسف . هو الأشرف عظمته يٌحكى عليها حتى في الأناضول.
صار يدعى " الأسد الكلب" فرماه الباي بالرماح.
وقدمت زهرة في وشاح غليظ بلا رجال هيبة، فسخرت منها الجواري وما بينهن تدور تمتمة كتميمة : "من لا يرم سلامته يُلام".
وأوكل بها الباي إلى زبانية لا يرون ، لا يسمعون، لا يتكلمون، لا يرحمون، لا يشعرون ، الواحد منهم ضخم كمنجنيق. تباروا في تطويقها كيمامة محصورة الجناحين . ربطوا على فمها ، على عقلها، وطوّعوا أسنانها كي لا تمزّق الرباط.
أيّة فكرة أخرى تكون أكثر قسوة من كيس خيش خشن كانت زهرة تنسج منه للرغيف، رغيف الحياة كل صباح لتجده في آخر عمرها يتحوّل من مديح إلى خيبة أمل.
مع قلّة هزائم أحمد باي في مجمل معاركه فقد هزمته زهرة. المرأة التي عشق حتى اختلف في عشقه لها عن السلاطين. فشاطرها مسبحها في واد الرومل وتلامسا معا أوراق شجرة البرتقال يتبيّنان منها نفاق البلاط وكانت زهرة تنتهي من كل شيء بقولها: عاشق النساء يموت أكثر تشوّها من جندي حرب.
ثمّ كانت تصرف نظره للبحث بدقة في " المكتوب" وعلاقات الحب . ثم يختتم اللقاء بحفل غناء على ضفة من ضفتي النهر.
مع غروب ذلك اليوم وَضعت زهرة في كيس الخيش الخشن . حملها إثنان وسارا بها حيث أعلى هاوية بالمدينة وألقياها من هناك كمن يلقي الشرق العربي من اليونان إلى حيث مسبح الامبراطور الروماني القديم.
ليس هناك من داع لتصوير الهاوية . فصورتها طويت بالأصقاع. حيث تنبت اليوم زهرة الرمال في طبيعة ومناخ الوطن الأم.
بقلم / إلهام بورابة
* قصة مستوحاة من التاريخ .
مثلما يحلّ الربيع ، كانت زهرة تحل بقصر " أحمد باي" باي قسنطينة . المدينة المتحركة مع " واد الرومل" إلى قصور الباي الأخرى أين كان يبسط سلطانه ويعرض عليه " عيسى الأشرف" خيمة كبيرة وقد مد سماطها ووقف عليه الخدام. وتقوم زهرة لتنشد: "راجت الحلي راجت ، وصارت مثلا سائرا .إلّا حليّي مثلي أنا نادرة. وكان أحمد باي هو من أهداها حليّها وكسّاها وافرط في تنعيمها.
عشقها الباي أو لم يفعل ، فإنّه كان يعود من معاركه مباشرة إليها فتسفر له عن جمالها ليقول فيه شعرا وأبعد.
استمرّت زهرة متألّقة في قصور الباي يحرسها هو بعينه من شهوات الرجال ومن نفسه وقد أعطاها وعدا بعدم تعدّي نزواته إلى غير استماع الغناء والاستئناس بحديثها. لكنه مرة أراد اجتياحها فأبلى فغضبت ولم ترض إلا حين أقدم بصهره خطيب ابنته العزيزة عنده " فاطمة" ،عيسى الأشرف، ليكون معهما في مجلسهما فيمنعه الحياء من تكرار فعلته.
وكان الباي قد أجّرحارس قصر زهرة خير أجر ليبعد عنها زوجاته ويحصنها من كيدهن. فالباي كان يخشى على زهرة من غيرة زوجاته وقد علمن شغفه بها . فيأتين على فتنته بقولهن: "قد سُجِنتَ بها" .
طال بالباي سجنه بزهرة وطال بعيسى الأشرف الجلوس بينهما وصارت زهرة تمنحه من النظرات خطفا فبدأ الإعجاب بها حتى فاق إعجاب الباي. ثم حتى في غياب أحمد باي لإحدى معاركه جاعلا عيسى الأشرف حاميا لزهرة ، حدث أن استجمعا عواطفهما الهائجة في أرجاء " نهر الرومل" وكان النهر قد تزيّن بتلألؤ النجوم فيه وهلال شهر ربيع الثاني . كانت هذه الصورة المترفة تطوي زهرة وعيسى في الماء الغائر يطفئان لهيب العشق . ثم يتدفّقان يثيران نيران الهوى من ثانٍ حتى تزلزلت حجارة الوادي وسقط الصخر أعلاه فانتبه الحراس.
حين عودة أحمد باي منتصرا في معركته ، متجها نحو قصر زهرة يحمل لها من الشوق أكبر مما يحمله من النصر لوطنه الأم، وجد حارسا عليها غير عيسى صهره. عيسى الذي اختاره من سلالة أمه الحركاتية العوايس، ليكون قائدا وحارسا وصهرا مئتمنا له بكل ما يملك حتى حياته ولهوه وعشقه. ليسمع في البلاط قولا : " ربّ غشّ قد أتى من أهل".
سأل عن عيسى فاستحى الحارس أن يجيب فأسرعت ابنته فاطمة في جواريها تكظم غيظها قالت بصوت يكابد الحزن : الحمد لله ، نلت النصر أبتي. ثمّ أردفت: إنّ عيسى أغضبني
ابتأس الباي مهتما: ما أسلف عيسى؟
العار يا أبي ، العار! الغرّاء في الحجب " زهرة" أغرته وسار في الأرض سوء سمعته.
توقّد الغضب في صدر أحمد باي وزاده غضبا رؤية زهرة مقيّدة في سلاسل الحديد بلا حليّ ولا زينة ولا قفاطين حرير..
بين الهوى والذنب كانت زهرة تسمع التوبيخ ولا تجيب الباي وفاطمة من ورائه تهيّئ من غليل والدها بما يطهّر بالدم هذا العار.
فاطمة تبكي مثل الندى ، فزهرة كانت كأختها جمعت لها السعادة من كفيّ والدها وأغنتها بالعطف والحنان من دون كل الجواري.
بكت فاطمة في حرقة عيسى الذي كان مثل يوسف . هو الأشرف عظمته يٌحكى عليها حتى في الأناضول.
صار يدعى " الأسد الكلب" فرماه الباي بالرماح.
وقدمت زهرة في وشاح غليظ بلا رجال هيبة، فسخرت منها الجواري وما بينهن تدور تمتمة كتميمة : "من لا يرم سلامته يُلام".
وأوكل بها الباي إلى زبانية لا يرون ، لا يسمعون، لا يتكلمون، لا يرحمون، لا يشعرون ، الواحد منهم ضخم كمنجنيق. تباروا في تطويقها كيمامة محصورة الجناحين . ربطوا على فمها ، على عقلها، وطوّعوا أسنانها كي لا تمزّق الرباط.
أيّة فكرة أخرى تكون أكثر قسوة من كيس خيش خشن كانت زهرة تنسج منه للرغيف، رغيف الحياة كل صباح لتجده في آخر عمرها يتحوّل من مديح إلى خيبة أمل.
مع قلّة هزائم أحمد باي في مجمل معاركه فقد هزمته زهرة. المرأة التي عشق حتى اختلف في عشقه لها عن السلاطين. فشاطرها مسبحها في واد الرومل وتلامسا معا أوراق شجرة البرتقال يتبيّنان منها نفاق البلاط وكانت زهرة تنتهي من كل شيء بقولها: عاشق النساء يموت أكثر تشوّها من جندي حرب.
ثمّ كانت تصرف نظره للبحث بدقة في " المكتوب" وعلاقات الحب . ثم يختتم اللقاء بحفل غناء على ضفة من ضفتي النهر.
مع غروب ذلك اليوم وَضعت زهرة في كيس الخيش الخشن . حملها إثنان وسارا بها حيث أعلى هاوية بالمدينة وألقياها من هناك كمن يلقي الشرق العربي من اليونان إلى حيث مسبح الامبراطور الروماني القديم.
ليس هناك من داع لتصوير الهاوية . فصورتها طويت بالأصقاع. حيث تنبت اليوم زهرة الرمال في طبيعة ومناخ الوطن الأم.
بقلم / إلهام بورابة
* قصة مستوحاة من التاريخ .