عبد علي حسن - غائية (التجييل العقدي) في الأدب العراقي الحديث

* حظيت مقولة (التجييل العقدي) --اي ظهور جيل كل عشر سنوات -- في الادب العراقي الحديث باهتمام النقاد والمبدعين العراقيين علىٰ حدٍّ سواء ، إذ يلاحظ تفرد الادب العراقي بهذه الظاهره دون غيره من الحركات الأدبية ، ولذلك اسباب لعلها تشكّل أجوبة للسؤال المتعلق بعلّة هذا الظهور العقدي للأجيال الأدبية في العراق اعتبارا من جيل الخمسينات ، وعسىٰ أن نتمكن من الوصول إلى تعليل شافٍ لهذه الظاهرة في ثنايا مقالنا هذا ، وعلىٰ الرغم من تكريس النقد العراقي لهذه الظاهرة في الدراسات الأدبية والنقدية وامتداد شيوع هذه الظاهرة حتىٰ على مستوىٰ الدراسات الأكاديمية في الجامعات العراقية عبر البحوث الأدبية و رسائل الماجستير واطاريح الدكتوراه ، إلّا أن الجدل والسجال حول مشروعية (التجييل) لايزال قائماً بين القبول والرفض ، ولعلّ استمرار الجهد النقدي في اعتماد هذا المفهوم في الدراسات النقدية يدلُّ وبشكل صريح علىٰ مشروعية وصحة هذا المفهوم وتسويغ ذلك سيكون محور مقالنا هذا ، والقائلين بلا ضرورة للتجييل فهم بين قسمين : --
الأول / واغلبهم من الشعراء الذين لم يتمكنوا من تقديم إضافة نوعية في منجزهم الأدبي على مستوىٰ حساسية المغايرة للجيل السابق ، ويلاحظ ظهور اسماء أدبية عديدة في بداية ظهور المنجز المغاير لجيلهم ، ومع الوقت تصغر مساحة القائمة ليظل من يمثّل الجيل بمنجزه الذي يتحول الى منجز مستقل إلّا أنه يمتح من الموجهات العامة للجيل الذي ينتمي إليه ، أما الأسماء التي لم تتمكن من التأثير في منجز الجيل الذي ظهروا فيه فاصبحوا خارج قائمة التجارب الممثلة للجيل وهؤلاء كثر ولايزالون يرفضون مفهوم التجييل لأنهم ضاعوا في مناطقهم المحايدة بدعوىٰ أن الإبداع واحد اينما كان ومتىٰ كان .
الثاني / يعتقد بأن من كان يمثّل المؤسسة السياسية للنظام السابق من الشعراء قد استثمر السلطة الثقافية والإعلامية ليعلن عن ظهور مفهوم جيل يمتلك الأحقية الكاملة في هيمنته على المشهد الثقافي ، واعني به جيل الستينيات وجرت التسمية بعد ذلك على الأجيال اللاحقة حتىٰ بداية الألف الثالثة ، دون أن ينتبهوا إلى أن أهم الشعراء وكتاب القصة والرواية هم من كانوا خارج المؤسسة السياسية والثقافية عقائدياً وايديولوجياً ، فليس من المعقول أن يمثّلَ شعراء (البيان الشعري) عام 1969 -- الذي كان يحمل بذور موته منذ صدوره الاول لإعتماده على رؤى من خارج نسيج المجتمع والثقافة العراقية كالمعرفة والفلسفة الهندية وسواها -- جيلاً بأكمله ، علما أن البيان لم يذكر مفردة الجيل ولا مرة ، كما أنهم لم ينتبهوا الىٰ أن ظاهرة التجييل قد ولدت مع رواد قصيدة التفعيلة التي أعلنت عن توقف نجومية الشعر العراقي عند الجواهري والاعلان عن ظاهرة الجيل الشعري(الرواد) بعد الحرب العالمية الثانية ، وتولّد همّ وتوقٌ جمعي بضرورة تحديث الشعر العربي ، ومن يمثّلُ هذا القسم عدد من شعراء القسم الاول وقليل من النقاد كالدكتورة نادية هناوي التي نشرت خمس مقالات في صحف محلية وعربية مختلفة باتجاه إزاحة هذه المقولة / التجييل من المشهد الأدبي العراقي وكأنها رغبة شخصية ، كما تبدت المواقف المتناقضة في هذه المقالات بين رفض مرة وقبول مرة أخرى حتى استقرت عند التساؤل حول مشروعية التجييل العقدي ، واستفسارها الذي لم تجهد نفسها فكرياً للوصول إلى جواب ، وهو لماذا أطلقت تسمية تلك الأجيال وفق زمن يقاس عشريا اي كل عشر سنوات؟ ، والإجابة على هذا التساؤل والاستفسار سيكون مدار حديثنا الآتي الذي سنحاول فيه بيان غائية/ علّة تسمية (التجييل العقدي ).
وبداية لابدّ من الإشارة إلى أن مفردة (جيل) قد استخدمت قديماً لبلورة عمليةتواصل النوع البشري وتاريخه كما اعتمدت كإحدىٰ ٱليات تحقيب الزمن وتواتر عمليات التغير الإجتماعي ، ووردت الكلمة عند أفلاطون الذي رأى في الصراع بين الأجيال قوة محركة للتغيير الإجتماعي ، وارسطو الذي فسّر الثورات بالصراع بين الآباء والابناء ( محمد حافظ دياب / نزوى 1/ يونيو 2009 ) كما أشار بن خلدون في مقدمته إلى( أن المجتمع يستمر ثلاثة أجيال، وكل جيل يستغرق أربعين سنة ، فالمجتمع يعيش بين مرحلتي البداوة والتحضر مارة وعشرين سنة ، يبدأ بعدها دورة أخرى تمر بنفس المراحل ) (مقدمة بن خلدون ت. درويش الجويدي /بيروت/ المكتبة العصرية 2000/ ص 170،) ويلاحظ أن أفلاطون وارسطو وبن خلدون تتغلب عندهم الصفة الجيلية / البيولوجية ، ومع تطور العلوم الانثروبولوجية والمعرفية فقد تم ترحيل هذه المفردة إلى الحقل الأدبي على يد سانت بف الفرنسي وبيترسون الألماني في منتصف القرن التاسع عشر ، على أن مساهمة الفيلسوف الألماني فيلهلم ديلتاي قد وضعت الحجر الأساس لمفهوم الجيل الأدبي حيث أشار إلى ( أن الأشخاص الذين ينشرون معاً في فترات زمنية متقاربة ، ويخبرون معاً التطورات المهمة للأحداث الكبرىْ ، يتميزون بنوع من التقارب فيما بينهم ، مايصيّرهم جيلاً ، وان الانجازات الفكرية لكل جيل تتأثر بالأوضاع الثقافية العامة ، ولما كانت تلك الأوضاع تختلف من جيل لٱخر ، فإن ذلك يؤدي إلى نوع من التجانس داخل الجيل الواحد ) ...(م.س نزوى1/2000. ) وازاء إشارة دلتاي الآنفة يتضح بأن المقومات الدالة للجيل لاتنبثق إلّا من سياق هذه الأحداث الكبرى وتطورها ، وهنا يتبدى أثر التحولات الاجتماسياسية في ظهور الجيل ، ولنقترب أكثر من جوهر الموضوع لنقدم تعريفاً يحوز على مشتركات كثيرة من التعاريف التي تعرض لها (الجيل الأدبي) ، فهو حسب وكبيديا الذي ينقله من مصدر باللغة الاسبانية (ماثيو جامبرت ، ادواردو (1996) مفهوم الجيل الأدبي ) فيشير إلى أن ( الجيل الأدبي أو الجماعة الأدبية هو مجموعة من الكتاب الذين تربطهم مجموعة من الٱيدلوجيات والأساليب الفنية في فترة زمنية محددة ) على أن هنالك مجموعة من الصفات المشتركة التي يتصف بها ممثلو الجيل ، لعل أهمها هو ظهور حدث جيلي يدفعهم للاستجابة له والاستخدام الفريد للغة متميزين به عن الجيل الذي سبقهم و التعصب تجاه الجيل السابق فضلاً عن التقارب في سنة ميلاد أفراده ، ولو راجعنا الأجيال الأدبية المعروفة على مستوى عالمي لوجدنا الصفات التي ذكرنا ٱنفاً حاضرة في فاعلية ظهورها .
اخلص من هذا الاستعراض السريع لفواعل ظهور الجيل الأدبي إلى حتمية ظهوره وفقاً لحتمية صيرورة الحياة وتغيرها ، ولايمكن إدارة الظهر لهذه الحقيقة المعرفية لمجرد أننا لانرغب ولانرتضي لوجود هذا الجيل أو ذاك ، وازاء ذلك فإن علينا -بعد الاستعراض الأنف -- أن نجيب عن علة التجييل العقدي في الادب العراقي الحديث والشعري منه خصوصاً ، وسنعتمد في اجابتنا هذه على قانون (وحدة وصراع الأضداد) الذي يشكّل حجر الزاوية في مفهوم وحدة الشكل والمضمون في المنجز الأدبي ، فلو تتبعنا تاريخ العراق الحديث والمعاصر بدءاً من خمسينيات القرن الماضي صعوداً إلى مفتتح القرن الحادي والعشرين لوجدنا أن كل عقد من العقود المشار إليها ٱنفاً قد شهد تحولاً وتغيرات في البنية الاجتماسياسية العراقية ، ففي خمسينيات القرن الماضي قد حصل تقدّمٌ في ظهور المعالم الواضحة للمدينة العراقية خاصة في العاصمة على مستوىٰ المعمار والمهن وظهور اصطفاف طبقي جديد بعد الحرب العالمية الثانية ، مما دفع الشاعرة نازك الملائكة والسياب والبياتي والحيدري بلند إلى ضرورة تبني قصيدة المدينة وترك القصيدة العمودية التي ارتبطت منذ عصر ماقبل الإسلام بالمجتمع البدوي وصارت الشكل الذي يمثل ذلك المجتمع ، وقد فصّلت نازك الملائكة هذا الأمر في كتابها المهم (قضايا الشعر المعاصر) علما أن هذا الرأي قد خامر الشعراء الرواد الٱخرين دون اتفاق مسبق ، إذ كان كلّ شاعر يعمل منفصلاً عن الٱخر لكن القاسم المشترك هو ضرورة مغادرة الشكل القديم . وقد لاقت هذه الدعوة في البدء معارضة وجفوة ، إلّا أنها قُبلت فيما بعد بفعل النماذج الشعرية التي عبّرت عن روح العصر ، لذا فإن الشكل القديم لم يعد يستوعب المضامين الإجتماعية والثقافية الجديدة التي راحت تبحث عن شكل جديد يناسبها لتحقيق وحدة الشكل والمضمون ، فكانت قصيدة التفعيلة ، علىٰ أن تطورا وخروجاً علىٰ بعض اشتراطات القصيدة الخمسينية قد حصل على يد شعراء الستينيات من القرن الماضي وعلى مستوى الشكل والمضمون بفعل جملة من التحولات السياسية والاجتماعية على المستوى العراقي والعربي والعالمي فضرب اليسار العراقي في 1963 ونكسة العرب في حزيران 1967 واضطرابات الطلبة في امريكا وفرنسا 1968 والتي أسفرت عن بداية مرحلة مابعد الحداثة ، إذ شهدت وحدة الشكل والمضمون لقصيدة الرواد زحزحةً للشكل الخمسيني الذي لم يعد يتناسب مع المضامين الجديدة التي ظهرت في عقد الستينيات ، فظهرت تجارب شعراء جماعة كركوك وظهرت تجارب شعرية شخصية مهمة ومؤثرة في المشهد الشعري العراقي كتجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر ورشدي العامل وفاضل العزاوي وعبد الكريم گاصد وفوزي كريم وسواهم ممن يحفظ لهم السجل النقدي العراقي تميّزا وتأثيرا ،وتتكرر هذه العملية الجدلية / وحدة وصراع الشكل والمضمون / مع كلّ تحوّل وتغيير في البنية الاجتماسياسية ، وهو ما شهدته عقود مابعد الستينيات ، واعني ماطرأ من تحولات وتغييرات في طبيعة الصراع الٱيدلوجي على المستوى المحلي / العراقي وكذلك ما أسفرت عنه حرب تشرين / 1973 التي أعادت الثقة للعرب في القدرة على مواجهة العدو الصهيوني ، وما أن حلّت ثمانينيات القرن الماضي حتىٰ تعرّضت الشخصية العراقية لأعتىٰ تهديد لوجود الفرد العراقي وصارت توابيت الجنود تتوافد على البيوت ليلاً ونهاراً ، وامتدّ ذلك الوضع السلبي في الساحة العراقية حتىٰ التسعينيات التي شهدت تحولات على المستوىٰ المحلي والعالمي أفضت إلى ظهور جيل جديد ناقم وجد في قصيدة النثر مساحة تجريبية كبيرة ، حتى أن بعض النقاد أطلق تسمية (جيل الحربين) إشارة إلى جيل الثمانينات والتسعينيات ، إذ أسفرت جهود شعراء هذين العقدين عن ظهور تجارب مهمة على مستوىٰ كتابة قصيدة النثر العراقية تماهت واستجابت للمتغير الاجتماسياسي الذي أفرز جملة من المضامين توقف الشكل السبعيني عن استيعابه ، وهكذا تميّز كل عقد من العقود المكوّنة لتأريخ المجتمع العراقي بظهور متحول ومتغير يستدعي أشكالاً جديدة نهضت في وجوده اجيال توزعت على العقود الخمسة وفقاً لطبيعة تلك التحولات المتغايرة ، وهكذا تبدّت لنا غائية / على ظهور الأجيال الأدبية في العراق في كل عقد عشري منذ خمسينيات القرن الماضي وحتىٰ مفتتح الألفية الثالثة الذي شهد انتهاكاً كبيراً وتقويضاً البنية الإجتماسياسية في ربيع 2003 وظهور التناقضات والتضادات الطائفية والدينية والإثنية والقومية إلى سطح الحراك الاجتماعي العراقي ، وكل ذلك سيستجيب له مجموعة من الأدباء الذين ولدوا في رحم هذا الحراك الجديد وستظهر منجزاتهم التي ستختلف حتماً عن اجيال ماقبل 2003 ، وفعلاً فقد ظهرت بعض الأسماء التي كشفت عنها وسائل الإتصال المعاصرة والمهرجانات المقامة للشعراء الشباب ، وننتظر أن تتبلور اتجاهات مشتركة لجيل مايمكن تسميته بجيل 3 إشارة إلى عام 2003 وهو مفتتح الألفية الثالثة .
ومن الممكن الحديث عن الأجيال السردية الستينية والسبعينية و....صعودا الىٰ مفتتح الألفية الثالثة بذات الاتجاه وذلك لأن منجزاتهم السردية كانت تحت طائلة التحولات والحراك في بنية المجتمع العراقي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى