د. علي زين العابدين الحسيني - الرسالة الزياتية (1-2) مجلة النيل والفرات عدد (٣٠)

تلك خزانة تراثية، وديوان معرفي من دواوين العرب الحديثة، وتحفة أدبية في عصر نهضة الأدب الحقيقية، لم تستطع أيّ مجلة أن تملأ فراغها بعد توقفها، فهي حالة فريدة من المجلات الأدبية الأصيلة التي لم تتكرر، أصدرها الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات عام 1933م، فصارت صوت الثقافة، ونداء المعرفة، وحاضرة العربية في مصر والعالم العربي أكثر من ربع قرن في مرحلتيها الأولى والثانية بأعدادها التي بلغت في المرحلتين (1121)، صدرت في بداية أمرها نصف شهرية من العدد الأول إلى العدد الحادي والعشرين، ثم صارت أسبوعية تصدر كلّ يوم الاثنين، يتلهف محبو الأدب والثقافة وقت صدورها بكل شوق.
وإذا كان حالي أثناء قراءة "الرسالة" أنني أنتظر انتهاء المقال بفارغ الصبر لأدخل في مقال آخر، أو أكمل الموضوع في عدد آخر، وهي مطبوعة بين أيدينا يمكن تصفحها بسرعة، لكن يبقى أن بين كل عدد وعدد آخر اشتياقاً ومحبة بالغة، فأعاملها معاملة المجلات المطبوعة الأسبوعية؛ لأعيش حالة من الأمان الفكري، والسلام الثقافي، أعترف أني لم أجدهما في غير "الرسالة"، وأتساءل كيف حال هؤلاء الذين عايشوا الرسالة، وأخذوا من معين كتابها الكبار، وصحبوا روادها، وتلقوا عنهم، وكانوا ينتظرون صدور "الرسالة" مع كل أسبوع، وقد أخبرني أستاذي الراوية محمد رجب عن حالته النفسية مع أصحابه وهم ينتظرون بكل شوق وتلهف العدد الجديد من المجلة.
احتجبت "الرسالة" في مارس عام 1953م، فبكاها الأدباء وندبها القراء، ثم عادت مرة أخرى عام 1963م إلى أن توقفت نهائياً بفعل عوامل كثيرة أرادت لها الحجب والتوقف عن عمدٍ عام 1965م، وفي مدة احتجابها الأولى صدرت مجلة "الرسالة الجديدة" لتسدّ مسدّ رسالة الزيات، فصدرت شهرية عام 1954م حتى عام 1958م برئاسة تحرير يوسف السباعي، لكنّها لم تستطع أن تملأ الفراغ الثقافي الذي أحدثه رسالة "الزيات"، فهيهات هيهات.
ومما يجدر إليه التنبيه أن مجلة الرسالة من العدد (22) إلى العدد (238) صدرت باسم "الرسالة الشابة"، وكتب في العدد (22) تحت مقال الزيات الافتتاحي تنويه، جاء فيه: "ابتداء من هذا العدد تصدر الرسالة يوم الاثنين من كل أسبوع"، وفي سنة 1940م ضمت إليها مجلة "الرواية" وهي أيضاً للزيات، ليصبح اسمها "الرسالة والرواية"، وهي الرسالة خلال الحرب العالمية الثانية، وظلت تصدر أسبوعية إلى أن توقفت.
قامت محاولات دقهلية جادة فيما بعد بسنوات من أهل "المنصورة" -بلد الزيات ومخزن الحضارة ومنبع الحياة الثقافية- لإعادة إصدار مجلة "الرسالة" مرة أخرى؛ إكمالاً لمسيرته الثقافية، وتخليداً لذكراه، وحفاظاً على مجلته الحضارية، وإبقاءً لمشروعه الأدبيّ الفريد، فصدر أول عدد منها في فبراير سنة 1982م برئاسة تحرير أحمد أبو العلا. جاء في مقال رئيس التحرير الافتتاحي: "اليوم تعود "الرسالة" للصدور للمرة الثالثة. فقد صدر عددها الأول في 15 يناير عام 1933 واحتجبت في فبراير 1953 وفي 25 يوليو 1963 عاودت الرسالة الصدور ولم يكتب لها الاستمرار في البقاء. لكننا اليوم نعاود إصدار "الرسالة" لتؤكد أن الدقهلية التي أنجبت "أحمد حسن الزيات" الذي وقف يقدم الأنواء والعواصف في استمرار المجلة لقادرة على إنجاب العشرات من الزيات وهيكل ولطفي السيد والهمشري وغيرهم ممن أنبتتهم هذه الأرض الطيبة المعطاءة. والرسالة العائدة ستصل ما انقطع في جهادها في هذا الطريق الذي أوفى بها على هذه الغاية".
لم تلبث "الرسالة" في إصدارها الرابع إلى أن انقطعت، بل سقطت نسياناً، وربما لعدم معرفة بها من مؤرخي الثقافة الذين كتبوا عن رسالة الزيات، فيبدو أن صدورها الإقليمي كان أحد عوامل عدم إلمام الناس بها، أو الحماس لها، مع أنه كتب فيها بعض الكبار من كُتّاب الرسالة القدامى؛ كأستاذي العلامة محمد رجب البيومي، ففي عددها الأول كتب مقالاً نفيساً بعنوان: "الزيات .. صاحب الرسالة" ابتدأه بقوله: "أحمد حسن الزيات علمٌ من أعلام الأدب المعاصر، والتعريف به على قدر مكانته في العلم والأدب والصحافة والتأليف يقتضي كتاباً خاصاً يشرح مواهبه ويعد مزاياه، فقد كان الرجل في جيله ملء السمع والبصر".
وأما عن قيمة مجلة "الرسالة" عند الأدباء فلا أجد وصفاً لها أفضل من وصف الأستاذ محمود عباس العقاد؛ إذ كتب على صفحات الرسالة في عددها (707): "كلمة الرسالة من الكلمات التي يستشهد بها على تطور الكلمات في معانيها ودلالاتها على حسب أحوال الزمن ومناسباته، فالرسالة مكتوب يرسل من إنسان إلى إنسان، والرسالة دعوة دينية يؤيدها رسول من الله، والرسالة مهمة من مهام الإصلاح والإرشاد، والرسالة في المصطلح الحديث كتاب صغير في بحث وجيز، والرسالة اسم هذه المجلة التي تجمع بين هذه الدلالات ما عدا الرسالة السماوية التي يختص بها الرسل من الأنبياء".
ولقد أخبرني أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي عن أستاذه زكي مبارك أنه كان يكتب المقال فاتراً مضطرباً ببعض الصحف والمجلات، حتى إذا ما كتب بمجلة "الرسالة" كان مقاله أنس الفؤاد وبهجة العين وذهاب الهمّ، وبقي السؤال المحير كيف يتفق هذا الصنيع مع اتحاد الكاتب والموضوع؟
نعم اتحد الكاتب والموضوع، لكن لا يلزم من اتحادهما أن تتحد المجلتان، فالفرق بين الرسالة وغيرها كالفرق بين الثرى والثريا، وحماس الكُتّاب لما يكتبونه في "الرسالة" ليس كحماسهم في أيّ جريدة أخرى، فإنّما ولدت الرسالة عظيمة قوية، حتى إذا ما جاء يوم حجبها حجبت وهي عظيمة عزيزة، فالرسالة تراثٌ ثقافيّ لا يبلى على مر الأيام واختلاف السنين.

للحديث بقية



د. علي زين العابدين الحسيني | أديب وكاتب أزهري






الزيات.jpg الرسالة.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى