د. علي زين العابدين الحسيني - حديثُ الكتابة

روى الرواة أن شاعراً ناشئاً استنصح شاعراً كبيراً فنصحه أن يأتي على كتب الشعر كلها حفظاً وقراءة ثم يأتيه بعدها، فلما تم له حفظ الكثير من أشعار العرب أتاه، فأرشده إلى المضي في شؤون حياته الخاصة، حتى ينسى ما حفظه، ليعود بعد مدة من الزمن وقد نسي ما حفظه تمام النسيان، وقتئذٍ أجازه الشاعر أن يكتب الشعر، هذه القصة لا زالت ملهمة، فالكاتب الناشئ يقطع وقتاً طويلاً في قراءة كتب ونصوص الأدباء، لكن ينبغي أن تكون له كتابته الخاصة التي يتميز بها، وأسلوبه الذي ينفرد به، فلا يحاول أن يعيش على التقليد دون الإبداع الحقيقي، ولا ريب في أن الاستغراق الكثير من البعض في قراءة نصوص أديب دون غيره تجعل الشخص أسيراً لكلماته وألفاظه، بل وأفكاره، والإبداع لا يمكن أن يكون عن طريق التقليد وحده، وإنما تأتي مسألة التعلق بالأشخاص في مرحلة عمرية مؤقتة، ينبغي تجاوزها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وإلا وقع المبتدئ في الأسر طيلة عمره، فلا يستطيع الخروج منه، ويكون نسخة مكررة لغيره، لكنها نسخة مشوهة لا يلتفت إليها أحدٌ.

الكتابة -كغيرها من المهن والصناعات- تحتاج لأدوات معرفية كثيرة، بيد أنها لا تكتمل في لحظات، وإنما يحصلها الكاتب يوماً بعد يوم، وقبل تحصيل هذه الأدوات لا بدّ من وجود رغبة جامحة، وهذا ما يفسر قول البعض: إن الكتابة في الأصل إبداع شخصي وموهبة، نعم بدايتها موهبة، ورغبة، وحماس، واندفاع، لكن الإبداع وحده لا يكفي للاستمرار فيها، إذ للكتابة قانون يجب تحصيله، ولا يتأتى إلا بممارستها الطويلة، وعادة ما يستمر الأشخاص المبدعون في كتاباتهم إن هم استمروا في اكتساب مهارات الكتابة وقواعدها، وتعدّ ممارسة الكتابة اليومية من أقوى وسائل الثبات عليها، زيادة على كثرة القراءة، والمثابرة، والتروي، والاتصال المباشر بالكُتّاب، والاستفادة من خبرات النابهين وتجاربهم.
في ظني أنّ الكُتّاب الذين لا يكتبون إلا بتأثير حافز سواء أكان مالياً أو تشجيعياً هم أغلب الناس الذين ينقطعون عن الكتابة؛ لأنّ الحافز الحقيقي وراءها يجب أن يكون ذاتياً يعتمد فيه الكاتب على نفسه، فهو إما أن يكون صاحب رسالة، فلا يضره حينئذٍ عدم التفات الناس لكتاباته، أو على الأقل ينظر للكتابة على أنها مشاعر وأحاسيس يجب بثها على صفحات دفتره، أو يكون كحال كثيرين يرون فيها خروجاً من الحياة العادية، فالوقت المستقطع في الكتابة لديهم لا يعرفون كيف سيقضونه إذا قطعوا الصلة التي بينهم وبينها؟!
والمؤلف النبيه مَن يهتدي مع الوقت إلى الشريحة الجماهيرية التي تتلقف أعماله، فَيُكون له جمهوراً يقبلون على كتاباته، حتى لو كانت الفئة قليلة العدد، لكن أن يكون له أصدقاء يقبلون على قراءة ما يكتبه خير له من أن يكتب شيئاً يظل طيلة عمره يبحث معه عن قارئيه، على أن هناك الكثير من الكتابات التي لا يكون لها أثر في الحال، بل تظهر أثرها في المآل، أو بعد مرور بعض الوقت، وقد يمتد عدم الاهتمام بها لوقت طويل، وكم من أناسٍ كتبوا كتابات إبداعية لم تحظ بأي تكريم في حياتهم، لكن استقبلها الجمهور بحفاوة بعد وفاة أصحابها.
لا شكّ أن التعمق الكثير في دراسة بعض المعارف والفنون والثقافات التي تختلف عن تخصصك يكون هدراً للأوقات التي يجب شغلها بما ينفعك في حياتك المعرفية والعملية، وإنما يحاول الشخص الإلمام قدر استطاعته بما يمكن أن أطلق عليه "المعرفة المشتركة" للمثقفين، وهذه المعرفة ملائمة لأي موضوع تريد أن تتحدث أو تكتب فيه، على أن لك حدوداً لا ينبغي تجاوزها في تعلم أي معرفة جديدة لديك، فالوقت الذي أمضيته في دراسة تخصصك لا ينبغي أن تهدره الآن بمعرفة ما استجدّ من معارف، نعم لمعرفة الجديد شهوةٌ في النفس، لكن أن تكون متقناً لشيء ملماً بأشياء كثيرة خير لك من عدم إتقانك لشيء، وأن تكون عالة على الجميع.

د. علي زين العابدين الحسيني | أديب وكاتب أزهري

العدد ٦٩ من ملحق أوروك الأدبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى