د. علي زين العابدين الحسيني - الصداقة بين أديبين

إذا كنّا نبحث عن عاطفة الصداقة وخصائصها وأطوارها بين الأدباء فهذا يجعلنا بالضرورة نتعمق في حيواتهم الخاصة؛ لأنّ الهدف من ذلك هو دراسة أحوال رجال كانوا سبباً في ارتباط كثير منا بكتابتهم، ولأننا نعتقد أنّ الحالة النفسية للأشخاص والجوانب الشخصية للأدباء لها دور فعال في تقييم ونقد أعمالهم الأدبية، وبما أننا نعيش في زمن يبحث عن الذات فكان التعمق في النفس وأحوالها أكثر مما كان عليه من قبل، نبحث عن الذات فيما نملك ويتملكنا، فيما يحيط بنا من شخصيات ويتحكم فينا، وهو أمر ورثناه أيضاً في مجتمعاتنا، فالتعمق في الحالة النفسية لا زال جزءاً من ثقافتنا، وهكذا تتوارث الأجيال التعمق في كلّ ما حولها من شخوص وأفعال، وقد بدت من مكونات الأدب قضية الصداقة بين أدباء العصر، وهذا المقال لا يعدو أن يكون من هذا القبيل، وهو إثبات حالة لاحظتها لم أجد لها في ظاهر الأمر أسباباً واضحة، ومن زاوية أخرى فإنّ التشابك المعرفيّ بين الأصدقاء ليس شرطاً أن يكون دافعه الغيرة المهنية أو الأدبية في كثيرٍ من المعارك، قد تكون الدوافع شخصية أو نفسية منذ الطفولة، ولم يلتفت لها في دراستنا، وهنا تكمن أهمية ارتباط الدراسات الأدبية بالجوانب النفسية، حتى تتضح الصورة متكاملة للشخصيات ذات التأثير الثقافيّ المهم، ومع إيماني أنّ الشخص تتطور أفكاره مع مرور الوقت، وهذا التطور الفكريّ -في نظري- ظاهرة صحية لا ينبغي الهروب منها، فالمرء النبيه في مراجعة كاملة لأفكاره، ومع التطور ربما تتولد لديه قناعات في اختيار أصدقاء جدد، أو عدم الحماس لبعضهم، إذ الصداقة لها ارتباطٌ وثيقٌ بالحالة الفكرية، وهذا بالطبع لا يمنع أن يكون المرء أصيلًا لا يقطع صلته بأصدقائه القدامى، أو في أقلّ الأحوال إذا أتيحت له فرصة الكلام عنهم فإنّما يذكرهم بالحالة التي كانوا عليها معه، خيراً كانت أو شراً، فليس من المعقول أن تكون على صلةٍ وثيقةٍ بأشخاص في مرحلة من المراحل العمرية، ثم يأتي ذكرهم بعد اختلاف الآراء وتجدد بعض الأقوال والأفكار لديك فتتجاهل صداقتك القديمة، على أن وجه الشبه في الأهداف والاتفاق في البدايات لا يلزم منه اتفاق النتائج، وأقرب مثال على صحة ذلك رجلان شغلا الساحة الثقافية بأعمالهما في مصر، وكانت قصة حياتهما بالأزهر وخروجهما عن القانون الأزهريّ في التعليم واحدة، ثم جاء الشبه الثاني في حياتهما ليسافرا إلى "فرنسا" للتعلم، لكن كانت النتائج مختلفة فيما بعد اختلافاً واسعاً، وهو أمر بديهيّ يكاد يكون معلوماً للجميع، فالاتفاق في بداية الحياة لا يعني حصوله في النهايات، وإنّي لعلى وعي تام بقضية وجود الخلاف ووقوعه، خصوصاً عند اختلاف الأهداف أو تجدد الاهتمامات، فلكلّ رجل قبلة وهدف وغاية تختلف عن غيره، إلا أنّه تبقى علاقة طه حسين بزميله أحمد حسن الزيات بالنسبة لي غامضة ومحيرة، أكاد لا أجد لها تفسيراً واضحاً، فحين يستشهد طه حسين بالزيات أثناء سرده لبعض الأحداث يذكره وكأنّه رجل عاديّ، لو لم يكن للقارئ معرفة مسبقة بالزيات واطلاع على تلك الحقبة الزمنية للثقافة في مصر لما عرف قيمة الزيات وجهوده المعرفية، بخلاف فعلة الزيات في مقالاته، فإنْ ذكر طه حسين في مقالاته احتفى به، وأضاف إليه المزيد من الألقاب والتقدير، فتشعر من خلال الكلام اعتزاز الزيات برفيقه طه حسين، لا زلتُ أذكر مقاله بعد وفاة صاحبهما محمود حسن زناتي، فكتب مقالًا في مجلة الرسالة بعنوان "أنا ومحمود وطه" ذكر في آخره أنّه ابتدأ مع طه حسين في الرُواق العباسي ومعهما الأمل والشباب ومحمود، وفي آخر العمر انتهيا إلى مجمع اللغة ومعهما الشيخوخة والذكرى ولا شيء!

أحصيتُ من قبل أكثر من عشرين موضعاً في كتابه "وحي الرسالة" يشيد فيها برفيقيه طه حسين ومحمود، ويبث فيها ذكرياته معهما، وأما العميد فحينما يذكر الزيات فلا تشعر معه بهذا الاحتفاء، بل إن اضطرّ إلى ذِكرِه ذَكرَه مجرداً من أيّ اعتزاز به. ومهما يكن فليست علاقة الزيات وطه حسين مما يجب الإغضاء عنها، وأراني مضطراً لذكر كلام وجهه أحمد الزيات لطه حسين بعد خلافٍ مشهور -كان أحد أطرافه توفيق الحكيم- على صفحات مجلة" الرسالة"، إذ كتب له:
"أخي طه! إن بيني وبينك ماضياً جليلًا لا تمحوه طوارئ الحاضر الحقير، وصداقة خالصة لا تكدرها شوائب الظن السوء، وذمة وثيقة لا تخفرها بوادر الكلام السريع، وإخوة كراماً جزعوا لهذا الخلاف ويسرهم أن ينقضي ... فادع الله لي ولك أن يخرجنا منها، وأن يغنينا عنها، وأن يحفظ البقية من عمرنا الكادح في كنف رعايته وفضله".
وإنّي لأذكر كلام الزيات في غبطة ولذة لما يحمله من مشاعر -أراها صادقة- تجاه رفيق عمره وزميل دراسته، وأتذكر أيضاً قولته الشهيرة: "كنا ثلاثة ألفت بيننا وحدة الطبع والهوى والسن"، ومع أني لم أقف على نصوص يحتفي بها طه حسين بزميله الزيات كنصوصه، إلا أنّي على يقين أنّ نظرة طه حسين الحقيقية للزيات هي نظرة تقدير وإعجاب واعتزاز، فلربما لأسباب خفية لم يعبر عنها كتابة، لكن تظلّ بعض المواقف بينهما خالدة، والمشاعر والأحاسيس إن تعاظمت قد لا نستطيع التعبير عنها أو البوح بها!





د. علي زين العابدين الحسيني | أديب وكاتب أزهري

جريدة الديوان الجديد، عدد ٣٦، الشكر والتقدير للأستاذ الناقد الطلعة Amr Elzayat

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى