خالد جهاد - أصوات بلا صدى

المقال رقم (٢٣) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..

لا زلنا نتتبع الأحداث في الفترة المتزامنة مع الإحتلال الأمريكي الغاشم للعراق عام ٢٠٠٣ ومع أن الحديث عن المتغيرات التي طرأت على المجتمع ومختلف جوانب الحياة في بلادنا بما فيها الفن لا زال مستمراً ولم ننتهي منه بعد، إلا أن تلك الفترة شهدت بداية موجة موجهة ومركزة من الأفلام الأميريكية كما تغيرت صناعة الموسيقى والألبومات الغربية في هوليوود لمواكبتها أيضاً، وبدأ التحضير مع بدء هذا التغيير لنوع جديد على (جبهة) مختلفة وموازية للجبهتين المذكورتين ولكن عبر البوابة الإعلامية الموجهة أيضاً إلى المنطقة بمختلف مكوناتها والتي تقدم برامجها التليفزيونية والإذاعية وفي مرحلة لاحقة مواقعها الإلكترونية باللغة العربية، والذي لن يكون حكراً على بلدٍ بعينه بل ستشارك فيه مختلف الدول لنشر أفكارهم وثقافتهم في بلادنا، وكان وقتها يتم الحديث من وقت لآخر بشكلٍ غير مؤكد عن إطلاق قناة فضائية إسرائيلية باللغة العربية وهو ما حدث بالفعل ولكنه فشل فشلاً مدوياً ولمدة قصيرة جداً لا تتجاوز بضعة أسابيع وكانت كالعادة تسرق الأغنيات والأفلام العربية لتعرضها عبر شاشتها دون إذن مسبق وتكاد هذه التجربة أن لا تذكر لشدة فشلها حيث أن قلةً قليلة كانت تعرف بوجود تلك القناة، ولكن البداية الفعلية لإطلاق إعلام غربي بالعربية كانت مع إطلاق قناة (الحرة) الأميركية في شباط/ فبراير عام ٢٠٠٤ إلى جانب (راديو سوا) وسط إدانات وحالة من الشك والريبة والترقب والتي أتبعتها بإطلاق قناة أخرى هي (الحرة عراق) والتي لم تختلف عن سابقتها سوى بتوجيه بعض البرامج والمحتوى الخاص لأهل البلد الذي يحتلونه، وتوالت بعدها التجارب التي حقق بعضها نجاحاً محدوداً فيما لم ينجح البعض الآخر مطلقاً، فأعيد افتتاح قناة (البي بي سي) البريطانية من جديد وأطلقت قناة (العالم) الإيرانية، (TRT) التركية، روسيا اليوم، (I 24) التابعة للكيان الصهيوني، (CCTV) الصينية، (فرانس ٢٤) والتي أكملت مسيرة (إذاعة مونت كارلو الدولية) التابعتين لمجموعة (فرانس ميديا موند) المملوكة للدولة الفرنسية والتي تمتلك أيضاً حصة في شبكة (TV5MONDE) المعروفة، دون أن ننسى قناة (DW) الألمانية، بالإضافة إلى بعض التجارب التي لم ترقى للوصول إلى مرحلة البث الفضائي وكانت أشبه براديو متلفز يبث محتواه مع شاشات متغيرة ومناظر طبيعية، ويقدم أخباره أيضاً بشكل مكتوب على الشاشة بتمويل محدود مثل إذاعة (هنا أمستردام) التي مولتها الحكومة الهولندية وبعض التجارب المماثلة من بريطانيا وأستراليا وبعض الدول الأوروبية، ووصل بعضها بسبب ضعف الميزانية المخصصة إلى اشتراك عدة بلدان في تمويل افتتاح هذه النوعية من القنوات منخفضة التكلفة والتي تم إغلاقها لاحقاً لعدم وجود إقبال عليها أو متابعة لها، أما النوعية الأخيرة فهي تجارب لشبكات كبرى في مختلف المجالات وعلى رأسها الترفيه، فتبيع اسمها التجاري في المنطقة العربية لتقديم محتواها سواءاً كان ذلك عبر البث الفضائي التقليدي أو المتوفر عبر باقات مشفرة وبإشتراك مدفوع من خلال أجهزة ومعدات خاصة بهذه الشبكات، (مع ملاحظة هامة وهي أن ما تقدمه ليتم عرضه في منطقتنا يختلف عن ما يعرض في بلدها الأصلي وبالتالي فإن هذا المحتوى مخصص لشعوبنا) ومنها على سبيل المثال قناة (MTV) الموسيقية العالمية التي لم تستمر طويلاً في البث المفتوح بالعربية لوجود فجوة بين الجمهور العربي وبين ما تقدمه، عدا عن عدم توفر أي عامل جذب فيما تقدمه، بل على العكس حيث كان الكثير مما عرضته محل استهجان ولا ينتمي إلى الموسيقى بالشكل المتعارف عليه قدر تقديم برامج متشابهة عن يوميات المغامرات والعلاقات الغرامية بين المراهقين بأسلوب فج وكان محل انتقاد حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي تبثها بإشتراك مدفوع عكس تواجدها المجاني في بلادنا، والجدير بالذكر أن العديد من الڤيديو كليبات المثيرة التي كانت تذاع عليها خضعت (ورغم أنها قناة مشفرة) لشروط تأخير عرض هذه الأغنيات لأشهر الأسماء الأميريكية إلى ما بعد منتصف الليل كونه محتوى (مخصص للكبار) بينما كانت تعرض ما تريده في نسختها العربية على مدار اليوم !!!

وبكل تأكيد فإن منطقتنا ذات أهمية خاصة على مستوى دولي ولا زالت محل اهتمام الكثير من البلدان بالطبع إلى جانب دول أخرى مهمة حول العالم، وتوجد من معظم القنوات المذكورة على الأقل ثلاث إلى أربع قنوات تتبع لكل شبكة تبث بلغتها الأم إلى جانب الإنكليزية والفرنسية والإسبانية فضلاً عن اللغة العربية وهو محور المقال وما يزيد عن ذلك يعود إلى أجندة ومصالح كل مؤسسة، وللحديث بشكلٍ منطقي نعرف جميعنا أن المشاريع الإعلامية مكلفة ولن تتحمل أي مؤسسة أعباءاً مادية ضخمة إلا إذا كان هناك ما تحققه من خلال هذا (المشروع)، وبشكلٍ أو بآخر لم تخرج هذه القنوات صفر اليدين رغم فشل معظمها أو محدودية متابعتها، حيث قد يتابع البعض النشرات الإخبارية عبر هذه القنوات وقد تتابع فئاتٌ أخرى بعض الوثائقيات والحوارات التليفزيونية أو البرامج الثقافية والتي لا ننكر تنفيذ العديد منها بحرفية لجذب المشاهدين رغم وجود أجندة ومصالح وأفكار ووجهات نظر غربية يتم تمريرها (بنعومة) حسب الخط أو السياسة التحريرية التي تنتهجها القناة، والتي سنلاحظ أنها تنقل لنا صوت الغرب بلغتنا ولا تنقل واقعنا وهنا لا نقول أن كل شيء رائع لكن لماذا هذه الإصرار في التوجه نحو منطقتنا وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية والقومية وتوتير العلاقات بين العرب والأكراد والأمازيغ ؟ لماذا إذا كانت هذه القنوات (فعلياً) مؤيدة لحقوق الإنسان لا تدين الكيان الصهيوني ولا تقدم حتى تغطية شفافة لما يحدث في فلسطين المحتلة، ولماذا لا تتحدث عن جرائم الإستعمار لبلادنا ونهب ثروات القارة الإفريقية حتى الآن، ولماذا نرى تغطيات منحازة كتغطيات قناة (DW) الألمانية التي تتبنى وجهة النظر الصهيونية بشكل مستمر حتى في فترات الحروب والعدوان على قطاع غزة المحاصر ؟، ولماذا استقال رئيس القسم العربي في هذه القناة الألمانية وتم فصل صحفيين عرب وفلسطينيين وإحالة بعضهم للتحقيق لمجرد تضامنهم مع فلسطين في وجه العدوان والإستيطان ؟ ولماذا تقوم بتوزيع برامجها ومحاولة تسويقها عبر شاشات التليفزيونات العربية ولا هم لها سوى (الإستماتة) في نشر حرية الإلحاد والجنس والتسويق بشكل مكثف وغير مسبوق على مدار التاريخ الإنساني للمثلية الجنسية ولكل ما هو غير طبيعي، ومحاولة العبث في ثوابت الدينين الإسلامي والمسيحي فيما لا تستطيع مناقشة مبدأ واحد من المبادىء في العقيدة اليهودية أو حتى ذكره، ولا تستطيع مناقشة وضع المرأة فيها ورأي الشريعة اليهودية من المثلية والزواج من غير اليهود، ولماذا لا تقرأ الصلوات من قبل السيدات اليهوديات ولا يعتبر ذلك (تهميشاً لهن) كما يتحفوننا بتلك التوصيفات التي تنتقد الشريعتين الإسلامية والمسيحية كون قيادة الشعائر الدينية فيهما تقتصر على الرجال؟ ولماذا لا تناقش المنظمات الحقوقية والنسوية وضع المرأة اليهودية كما تبحث في بقية الشرائع ويتبعهما (المتنورون)؟، ولماذا لا تناقش فرائضهم علناً في الإعلام ألسنا جميعنا (بشراً) ؟، ولماذا يريدون منا أن نتخلى عن ثقافتنا ورموزنا الدينية على اختلاف معتقداتنا عند الذهاب إلى بلادهم بذريعة احترام ثقافتهم بينما يريدون فرض قيمهم علينا وعلى أرضنا دون احترام ثقافة البلدان التي يزورونها ؟ وهل عقلية الغرب المستعمر والذي ينكل بالمهاجرين من العرب والأفارقة ويرحب بالمهاجرين البيض من أوكرانيا هو من سيعطينا دروساً في الأخلاق وحقوق الإنسان؟ وهل من أنشأ الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية ونهب افريقيا ودعم الفصل العنصري ولا زال أصحاب البشرة السمراء مهمشين في بلادهم رغم تسويق العكس عبر إعلامهم يحق له أن يتحفنا بإحصائياته (المستقلة) عن نسبة حرية التعبير في بلادنا..

بالطبع الأهداف واضحة والمصداقية لا وجود لها وسأختم بتقريرين صدرا في العام الماضي عن تغطية قناة (DW) للعدوان الصهيوني على فلسطين ونصهما متوفر عبر المواقع الإلكترونية والويكيبيديا، حيث انتقدت تقاريرها ووصفت ب(المُنحازة) لعدوان الحكومة الصهيونية على الفلسطينيين (داخل مايسمونه بالأراضي الفلسطينية)، حيث قيّدت الإذاعة نشر تقارير تنتقد (إسرائيل) معللةً ذلك بمسؤولية برلين الخاصة تجاه الدولة اليهودية بسبب الهولوكوست، ومنعت هيئة تحرير الإذاعة مُراسليها ومُحرريها من تغطية جرائم الحكومة الإسرائيلية المُتمثلة في الفصل العُنصري واضطهاد الفلسطينيين، نتيجة للتصعيد الأخير في المنطقة...

وأكدت الوثيقة الداخلية المكونة من صفحتين، التي تم تسريبها ونشرها على وسائل التواصل الإجتماعي، أن إرث المحرقة ومسؤولية ألمانيا الخاصة تجاه (إسرائيل) لا يزالان حجر الزاوية في دستور البلاد وسياستها الخارجية، بالرغم أن مٌنظمات حقوق الإنسان الدولية اتهمت الحكومة الإسرائيلية بالفصل العنصري والقمع الممنهج والأعمال اللاإنسانية ضد الفلسطينيين..

كما نشر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في ٩ شباط/ فبراير ٢٠٢٢، تقريرًا كشف فيه عدم حيادية وانحياز لجنة التحقيق التي شكلتها (DW) للبحث في مزاعم تورط بعض الموظفين العرب بأفعال مرتبطة ب(معاداة السامية)، كما أن التقرير أشار إلى تبني أعضاء في اللجنة وجهة النظر الإسرائيلية في التعامل مع القضية، كما فنّد اعتماد اللجنة على معايير غير دقيقة وجدلية بشأن تعريف (معاداة السامية) أظهر خلاصة التقرير أنّ فصل (DW) خمسة من موظفيها والمتعاونين الخارجيين معها هو إجراء تعسفي وغير عادل..

للسلسلة بقية..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى