د. علي زين العابدين الحسيني - رعاية المواهب عند محمد فريد وجدي

لا شك أن مجتمعنا الثقافي غير شحيح بالمواهب الشابة الجادة، لكنّه شحيح في تنمية المواهب واحتضان الموهوبين، وفي ظني أن الدور المجتمعي المتمثل في فتح آفاق واسعة للمبدعين منوط بالأدباء والكّتاب المعاصرين في الدرجة الأولى، فهم يتحملون تبعة الأمر أكثر من غيرهم، ويكمن جهدهم في حسن تقديمهم للمواهب إلى المنتديات الثقافية، والكلام عن الأطروحات الشبابية الجادة، ثم يأتي دور رؤساء تحرير المجلات الثقافية ومشرفي الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات من خلال إتاحة فرص النشر للجميع، دون الالتفات إلى كتابات الكبار دون غيرهم، وفيما مضى كانت مصانع الأدباء الكبار قادرة على تقديم المواهب الحقيقية إلى جمهور القراء، ويأتي في صدارة هؤلاء الحريصين على تقديم النماذج الشابة الأستاذ والمفكر الكبير "محمد فريد وجدي" أحد رموز النهضة الثقافية في العصر الحديث.
هو من أولئك الأفذاذ الموهوبين الذين امتلكوا ناصية الإبداع، وساهموا بخلق الإبداع في غيرهم من الناشئة، فقدّم للجمهور نماذج متعددة من جيل التلاميذ المبدعين الذين حملوا راية الكتابة والريادة الثقافية فيما بعد.
لم يكن أزهرياً رغم أنّه ظل رئيساً لتحرير "مجلة الأزهر" أعواماً طويلة!
كان الأستاذ "فريد وجدي" في جيله ملء السمع والبصر، وقد أشار عباس محمود العقاد عن عظمة هذا الرجل في قوله: "هو فريد عصره غير مدافع"، وختم محمد رجب البيومي الحديث عنه في بعض مقالاته قائلًا: "إنّ لصاحب دائرة المعارف فضله الكبير على الثقافة المعاصرة، ومقامه الجهير في الذود عن الإسلام".
كان الرجل معارضاً في بداية أمره للنظريات الدينية، شاكاً في وجود الخالق للكون، فدرس الإسلام دراسة واعية عميقة، فكانت نقطة تحوله الكبرى، وتحول من النقيض إلى النقيض، وهو من مدرسة الرافعي والمنفلوطي والزيات وعبد الوهاب عزام الفكرية الشغوفة بأمجاد العرب ولغتهم الأصيلة، إلا أنّ أسلوبه أقرب إلى أساليب العلماء منه إلى الأدباء.
بقي قلمه وأسلوبه في بعض كتابات أستاذ الكل محمد رجب البيومي، المعترف له بأستاذيته وفضله عليه، ومن عاداته الحسنة أنه كان يرعى المواهب الشابة رعاية خاصة، ويرحب ترحيباً شديداً بإنتاجات الشباب العلمية، ويقدمها في التعريف بها على إنتاجات الكبار؛ إيماناً منه أنّ الشباب محتاجون إلى مَن يشد أزرهم؛ ليواصلوا مشوارهم العلمي، ونضالهم الكتابي.
ومن الخير أن يذكر أن اكتشاف موهبة أستاذنا "محمد رجب البيومي" الأدبية، وسلوكه طريق الكتابة يرجع الفضل الأول فيه إلى الأستاذ "محمد فريد وجدي"، حيث كتب أستاذنا البيومي وهو طالب بمعهد "الزقازيق" الثانوي مقالاً عن كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل، سرد فيه ما روته كتب التاريخ عن أثر هذا الكتاب في النفوس، وأرسل مقاله إلى "مجلة الأزهر" برئاسة تحرير الأستاذ "محمد فريد وجدي" آنذاك، والكبير دائماً تتعلق نفسه بعمل الكبار، فقد أرسل مقاله لكبرى المجلات الرائدة في عصره، وقد فوجئ بعد أسبوعين برسالة من الكاتب الكبير الأستاذ "فريد وجدي" يشكره على مقاله، ويبارك له هذا الاتجاه في الكتابة، ولم يمنعه بعد إظهار سروره وفرحه بمقاله أن يبدي له بعض الملاحظات حول مقاله، حيث اتجه أستاذنا إلى طريقة السرد، واكتفى بعرض ما روته كتب التاريخ والسير، الأمر الذي قد يجعل مقاله ما هو إلا تكرار لما كتب من قبل، فأرشده الكاتب الكبير إلى ضرورة إضافة بصمات الباحث وكاتب المقال نفسه، وهو ما يعرف حديثاً في الدراسات الأكاديمية بــــ"شخصية الباحث"، فلا بدّ من إظهار قدرة الباحث في التحليل، والمناقشة، والتعليق على بعض المواضع التي تحتاج إلى ذلك، ولا بأس من كتابة رأيه الخاص، والدفاع عنه، والرد على الآراء المخالفة، ونحو ذلك مما تحتاجه منهجية البحث، ورجاه الأستاذ فريد وجدي أن يستفيد مما كتبه من ملاحظات، وحثه على مداومة القراءة والاطلاع، حتى تتكون لديه أدوات الكتابة.
لقد سرّ طالب المرحلة الثانوية بخطاب المفكر الكبير كثيراً، ومن شدة سعادته به أنه قرأه عدة مرات، وكان أول مقال يصل أستاذنا البيومي من كاتب كبير يحتل صدارة الكُتّاب في عصره، ويمكن أن أقول: إن خطاب فريد وجدي للبيومي يمثل الحالة الراهنة لأدباء القرن الماضي في تبني المواهب الشابة، وإتاحة الفرص لهم، ودعمهم دعماً معنوياً وثقافياً، وهو الأمر الذي ظل يذكره البيومي طيلة عمره.
بقي اسم "محمد فريد وجدي" محفوراً في ذاكرة البيومي، وسرعان ما يبادر جالسيه بحديثه مع الأستاذ فريد وجدي، وذكرياته معه في أي مناسبة، علاوة على كتاباته المتعددة عنه، وهو القائل في بعضها: "ولا أزال أهش فرحاً بالكتابة عنه، لأنّه في دنيا الخلق الرفيع مثال يحتذى"، فالدعم المعنوي لا سيما في بداية الطريق يظلّ الشخص الأصيل أسيراً لصاحبه، فلا يمكن بأي حال أن ينسى أفضاله عليه.
ومن الحسنات العاجلة والآجلة للأشخاص الكبار أن يقدموا الدعم الحقيقي لكل موهبة حقيقية، والتاريخ لا ينسى العظماء، وإذا كنا قد كتبنا عن "فريد وجدي" بعد هذه السنين الطويلة من هذه الناحية فحتماً سيأتي من يتكلم عنك بعد ذهابك إذا ما قدمت لأحدهم دعماً، والعكس بالعكس.
كم أتمنى أن يكون للأستاذ "محمد فريد وجدي" نظراء يتأدبون بأدبه، ويتشبهون بفعله في دعم المواهب الحقيقية دون تمييز!



د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري


* المقال الأسبوعي بجريدة الأمة العربية



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى