أمل الكردفاني - رواية الرجل الخفي لهربرت ويلز.. خيال علمي أم فلسفة تنبؤية..

في أواخر القرن التاسع عشر كتب هربرت جورج ويلز روايته الرجل الخفي، والتي أثارت ضجة واسعة عندما تحولت لفيلم عام ١٩٣٣. وأثارت في العالم العربي ضجتها بعد عقود لأن عام ١٩٣٣ كانت أغلب الدول العربية دولاً بائسة. رواية الرجل الخفي هي رواية خيال علمي، لكنها في الواقع قابلة للتأويل الفلسفي. أي بالنظر إلى الإنسان الذي سيتمكن في المستقبل من إخفاء نفسه. اليوم هذا ما يحدث بالفعل. كم عدد الذين تعرفهم عبر وسائط التواصل الإجتماعي دون أن تقابلهم وجهاً لوجه؟ في المقابل؛ أنت نفسك رجل خفي بالنسبة لهم. لكن دعونا نتقدم اكثر وأكثر، دعونا نسأل ما حدث إبان كورونا، والإنغلاق الذي تم. لقد اختفى البشر داخل بيوتهم، مع ذلك، لو رجعنا بالزمان إلى الخلف، ألم نكن كائنات في عصرها البدائي عارية. كنا مكشوفين بالكامل. كان كل شيء عنا مطروحاً للعامة؟ ثم رويداً رويداً بدأنا نضيق نطاق العام إلى الخاص. ارتدينا ملابس، دخلنا الكهوف، بنينا المنازل، الشقق. كنا نتغوط في العراء، واليوم نغلق وراءنا الأبواب، كان الجنس مشاعاً، أصبح التلامس العابر مشكلة. أصبح الجسد يتغطى كلما مضت بنا الحضارة إلى الأمام. كنت قد أشرت في مقال قديم لي باللغة الانجليزية إلى أن التوجه المحافظ هو توجه منبثق من الحضارة وليس ضدها، لذلك فالحجاب والنقاب من المفترض أنه تعبير عن أقصى ما وصلت إليه الحضارة. أما العكس فهو تقهقر للخلف، ولذلك يجب أن نبحث عن تعريف آخر للحضارة، تعريف أقل استعلائية مما هو عليه الآن. الحضارة التي تعني الانغلاق والكبت والاختفاء والتحجب والتقوقع والتمترس خلف الشاشات المضيئة وخصوصية العام؟ أم الحضارة هي العودة إلى الماضي حيث التكشف والانفتاح والتواصل المباشر وعمومية الخاص.
يمثل الرجل الخفي مستقبل الإنسان، ولكن ليس على المستوى الجسدي فقط، بل حتى على المستوى الذهني، أو المعنوي، أي تحول الإنسان إلى فرد بحيث يعد رقماً إحصائياً فارغاً من أي اعتبار معنوية، إحصائيات الجريمة، إحصائيات الوفيات، إحصائيات المواليد، إحصائيات السكان، إحصائيات المرضى، إحصائيات الملاك، إحصائيات المستأجرين، إحصائيات الفقراء، إحصائيات الأغنياء، إحصائيات الجنود إحصائيات الأطباء، إحصائيات المجانين، إحصائيات المؤمنين وغير المؤمنين..الخ.
تؤخذ كل تلك الإحصائيات لتؤسس للقرار الحكومي، وهكذا يختفي الإنسان كجوهر وكينونة.
ولنتقدم أكثر وأكثر، وننظر للخفاء، الذي عبرت عنه رواية زوسكند "العطر"، الإنسان الذي بلا عطر، ولذلك لا يلاحظه الآخرون. وهي غالبية البشر اليوم، في عالم يتجه نحو الفردانية أكثر وأكثر، ويغوص الفرد بدوره في فرديته، وتزداد الأسر النووية، وتتقلص الأسر المتدة، وينعزل الإنسان بلا جماعة تحميه، إنه يتحول لكائن لا يمكن رؤيته، لذلك فهو يحيا في مخاوفه الممتدة، ولا يضمن إحساس العالم بآلامه ومخاوفه. إن الإنسان يتجه نحو القسوة وليس العكس، القسوة اللازمة لتحميه من رهافة حسه في محيط لا يهتم. يجب أن يتخلى عن براءته، وعفويته، وأن يحسب كل فعل وسكون، كلام وصمت، وأن يقمع رغبته في التعبير التلقائي حتى لا يضحى ذلك ارتجالاً في مسرح لا يقبل الإرتجال.
ربما يكون الرجل الخفي هو إنسان اليوم ولكنه بالتأكيد إنسان الغد.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى