د. زياد العوف - من أسرار المِهنة..آليّة شحذِ الأفكار

لا بُدَّ من الاعتراف، ابتداءً، بأنّ تأبّي الحَرف واستعصاء الأفكار هو الذي دفعني إلى كتابة هذه السطور في كيفيّة تخلّق، ومن ثَمَّ، ولادة النّصّ الأدبي.
نَعَمْ، إنّ عملي البحثيّ والأكاديميّ الطويل قد منحني القدرة والكفاءة اللازمة- فيما أحسب- للتعامل مع الصفحة البيضاء وإعداد المحاضرات والدراسات والأبحاث التي يتطلّبها عمل الأستاذ الجامعيّ ، وذلك استناداً إلى العناصر العلمية والمعرفية التي وفّرَتْها مراحلُ بحثي السابقة المتمثّلة في القراءة المنهجيّة المنظّمة والملاحظة والمقارنة والاستقراء والاستنتاج، وغير ذلك من آليات ووسائل البحث العلميّ المنهجيّ.
لكنّ هذه الخاطِرة تتناول آليّة تولّد وتشكّل الإبداع الأدبي بمختلف فنونه وألوانه.
أبادر إلى القول إنّني أنظرُ إلى ممارسة الأدب بوصفه مِهنةً، وأيّ مِهنة!؟ إنّها مِهنة شاقّة، على أنّها تستنفِد الأعصاب لا العضلات.
ولا يدحضُ ذلك قول بعض الأدباء على سبيل التّظرّف أو التلاعب بالألفاظ إنّهم يتعاملون مع الإبداع الأدبيّ تعاملَ الهواة مع هواياتهم المختلفة.
على أنّها مِهنة أو حِرفة، والحقُّ يُقال، قليلة المورِد ضئيلة المردود ، وقلّةٌ هم الأدباء الذين يعتمدون في تأمين مستلزمات حياتهم الماديّة على إنتاجهم الأدبي وحده؛ ذلك أنّ معظم الأدباء يمارسون مِهناً أخرى غير الكتابة تكفل لهم الوفاء بمتطلّبات الحياة وأعبائها الماديّة.
وهذه حقيقة قديمة متجدّدة، إلى حدّ كبير، في كلّ آداب الشعوب.
ولعلّ المقولة التي شاعت في أدبنا العربي القديم والتي تقول : " أدركتْ فلاناً حِرفةُ الأدب" في إشارة إلى ضيق ذات اليد على عِظم الجهد المبذول فيها، لمّما يؤكّد ما ذهبنا إليه.
أعود إلى أسرار مِهنة الإبداع وما تقتضيه من شحذٍ دائم ومستمرٍ للأفكار، بل بتعبير أدقّ من شحذٍ للذهن المولّد للأفكار ، فأقول إنّ القراءة المستمرّة، فضلاً عن التجارب الحيوية والخبرات المكتسبَة، هي بمثابة المِشحَذ أو المِسنّ الذي يلجأ إليه الكاتب لتوليد الأفكار؛ فإذا كان "الشّحّاذ" يلحّ في السؤال طلباً لدراهم معدودات يستخرجها من جيب المُحسِن، فإنّ المبدِع المنقَّب عن المعاني المبتكَرَة والأساليب المستحدثَة بأمسّ الحاجة إلى شحذ ذهنه بالقراءة الجادّة المستمرّة لقدح شرارة الإبداع الأدبيّ .
وقديماً قال الشاعر الأموي الكبير الفرزدق: " يأتي عليّ يومٌ وقلعُ ضِرس عندي أهونُ عليّ من قول بيت واحد من الشِّعر".
أمّا ما بِتنا نسمعهُ من بعض أدعياء الأدب في هذه الأيّام من أنّهم قد كفّوا عن القراءة لأنّهم منشغلون بالإبداع ، فهو أشبه بالهُراء، بل هو الهُراء عينُه.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى