ديوان الغائبين محمد أبو الغيط - مصر - 1988/ 2022

محمد أبو الغيط
تاريخ الولادة 23 أكتوبر 1988 أسيوط، مصر
تاريخ الوفاة 2022-12-5 لندن، المملكة المتحدة |
طبيب وصحافي مصري


*****



محمد أبوالغيط
......................
وردتي البيضاء الخارقة (١-٢) - الجزء الأول
"الحب - أعزك الله - أوله هَزل وآخره جِد، دقَّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة"
"وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع... والله عز وجل يقول: “وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا”؛ فجعل علَّة السكون أنها منه"
طوق الحمامة - الإمام ابن حزم الأندلسيّ (٩٩٤م – ١٠٦٤م)
****
٣٠ أكتوبر ٢٠٢٢
يتكور جسدي على السرير بينما أكتم صرخات الألم.
أقر وأعترف أني أتعذب لارتكابي جريمة خطيرة: الأكل.
كنت قد خرجت من المستشفى من جولة "شلل الأمعاء" الماضية في ٢٢ أكتوبر، حيث طلبت من الأطباء قبلها محاولة إطلاق سراحي في هذا اليوم، لأحتفل بعيد ميلادي مع أسرتي في ٢٣ أكتوبر، وقد تعاونوا لإنجاز ذلك.
بالإضافة إلى أبي وأمي واثنين من اخوتي، فقد حضر قريبان آخران، أحدهما يعمل بدولة خليجية، والآخر مهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية. تجمع عائلي مبهج لم أشهده منذ سنوات طويلة.
كانت طبيبة التغذية قد منحتني جدولاً مشدداً بأصناف الطعام المسموحة، عدت خطوات للخلف. كل شيء محظور إلا السوائل والمهروسات منخفضة الألياف. البرنامج يتحدث عن تصعيد تدريجي لكن دون جدول زمني واضح.
شعرت بالأيام الأولى أني عدت لطبيعتي تماما، فرحة كبيرة عززتها سعادتي بدفء الأسرة المفقود، وهكذا في اليوم قبل الأخير تجرأت على دعوتهم لمطعم أسباني أحبه، رغم أني اكتفيت ببطاطس مهروسة وعينات ضئيلة. مرت الليلة بآلام مبرحة لكنها زالت محتملة، هكذا ظننت أن تجربة أخيرة قد تمر، خاصة أن اختيار ابن خالتي كان لمطعم راقٍ يقدم "اللحوم المعتقة" المعروفة بطراوة أليافها.
لكن النتيجة كانت كارثة. انتفاخ وصعوبة تنفس وآلام رهيبة. أشعر كأن سيفاً من نار يدخل بطني يمين فُم المعدة، موضع المرارة، ويخترقني حتى يخرج أسفل لوح الكتف الأيمن.
تسألني إسراء لو سنذهب للمستشفى، فأرفض بعناد: "لا، أنا ما صدقت خرجت". لكنها تتجاهلني، وتبدأ في اعدادات المستشفى. تتصل بصديقة ليبيت لديها يحيي، تملأ حقيبة الملابس.
أنظر لها مستغربا ما تفعل، فتقول باقتضاب: احتياطي.
لكن أدائها ليس به احتياط بل قد اتخذت قرارا.
كالمجنون تعاطيت كل أدوية الألم والالتهاب بالمنزل. نابروكسين؟ ترامادول؟ كوكودامول؟ أي شيء.
بعد أقل من ساعة انهرت، ارتميت على السرير أتوسل لإسراء أن نذهب للمستشفى فورا. لم تلمني بحرف بل ساعدتني بلطف، لكن بحزم أيضاً.
في الطريق أنظر لوجهها وهي تقود السيارة، فأرى فيه القوة والإصرار قبل الحزن. لا وقت للحزن.
بالمستشفى أصل لنقطة الانهيار، في لحظة تنفجر الآلام بكل مكان. كل عظامي وعضلاتي وأعصابي تصرخ. لا يمكنني التنفس. أعرف أعراض تأخر جرعة المسكن الرئيسي كل ١٢ ساعة عن موعدها، وهي تحدث مضاعفة الآن رغم أني تناولته. واضح أن انسداد الأمعاء أغلق تماما الامتصاص عبر الفم.
فريق التمريض يريد انهاء إجراءات دخولي وتسجيل بياناتي بالنمط المعتاد، بينما أشدد على طلب جرعة المسكن الطارئة قبل أي شيء.
فجأة أفقد السيطرة تماما. أبكي وأعوي وأتلوى. أستغيث وأتوسل بالعربية والإنجليزية. داخلي جزء مشفق على إسراء من مشهدي هذا لكني خارج أي تحكم. تصرفت إسراء بسرعة، "اطمن يا حبيبي"، خرجت مسرعة وعلى وجهها تعبير صارم، أسمعها تتحدث بحدة عن أولوية إيقاف آلامي قبل أي شيء، وسرعان ما جاءت حقنة مورفين تنقذ الموقف.
في اليوم التالي أجريت فحوصات، وتلقينا معاً المزيد من الضربات القاصمة:
أولاً: فيما يخص الانسداد وشلل الأمعاء الصورة واضحة تماما هذه المرة. السبب هو الورم وليس العملية أو أعراض أدوية. تظهر كتل الخلايا السرطانية وقد اخترقت الأمعاء التي تبدو بطانتها ببعض المناطق وقد امتلأت ب"بؤر مندمجة"، فضلا عن الخلايا الهائمة في السائل البريتوني، وهذا سبب تعدد مناطق الانتفاخ والانسداد.
قال الطبيب إن هذه الصورة بجانب عودتي السريعة تُرجح أني قد دخلت مسار الانسداد وشلل الأمعاء المتكرر، وأني لن أستعيد القدرة على الطعام والشراب بما يكفي لتلبية حاجة جسدي للأبد، لذلك تم الانتقال للتغذية عبر الوريد (تي بي إن) لمدة ١٢ ساعة في اليوم، وسيتم ترتيب تجهيز المنزل لذلك أيضاً.
ثانيا: فيما يخص السرطان فقد حقق قفزة خلال ٣ أسابيع فقط منذ الفحص الأخير. الكتل زادت حجما وعددا. ثم نرى تشكيلة من الآثار السرطانية على مختلف الأعضاء: تضخم بالكلية اليمني، تزايد سوائل غلاف الرئتين، الفص السفلي من الرئة اليمني يفقد مرونته. تنفس أًصعب، اختناق مادي فوق اختناقي المعنوي..
قال الطبيب إنه بناء على التطورات الأخيرة فأنا أصبحت غير مؤهل لتلقي عقار "لانزورف"، الكيماوي عبر الفم الذي كنت أتحفظ عليه، لأنه من غير المرجح أن أستعيد قدرتي على الأكل والامتصاص. حقاً "رضينا بالهم..".
والبديل؟
قال حيث أني أثبتت عدم الاستجابة لمختلف الأدوية المناعية المرخصة والتجريبية، بينما الشيء الوحيد الذي أحرز قدرا من تعطيل تقدم المرض هو الكيماوي عبر الدم، فلنجرب الآن مزيج "فولفوكس". FOLFOX
قلت له أنت تعرف أن هذا قريب جدا من مزيج "فولفيري" الذي يحتوي على عقار "أوكزالبلاتين"، والذي كان أول برنامج تناولته، وقد فشل بالفعل، وهو أصلا كان أقوى من "فولفوكس".
قال إننا جربناه منذ نحو عام، فلا مانع من العودة لتجربته الآن مع التعديل الأخير، ولنر ما قد يحدث.
قلت له لا بأس لنواصل المسار التقليدي، وفي نفس الوقت كما تعرف أنا بدأت بالفعل مراسلة مراكز بحثية في بريطانيا والولايات المتحدة باحثاً عن تجربة مناسبة.
أعادني للواقع قائلا: "هذا من كون آخر الآن"!
This is from another universe now!
لم أكن مستوعباً بعد لحقيقة وضعي، فنظرت له مستغربا من تلك العبارة.
فهم صدمتي، فكرر بصوت منخفض ونبرات هادئة للغاية لكن واضحة جداً: عزيزي محمد، أنت الآن غير مؤهل لأي شيء! أنت لست مؤهلاً لتلقي أي علاج في العالم، ولن تقبلك أي تجربة علاجية بالعالم!
فلنركز الآن على الهدف التالي وهو تحسين صحتك العامة فقط،
السيطرة على آلامك، وتحسين أرقام وظائف الكبد والكلى وغازات الدم، وحصولك على الغذاء. بعدها إذا تجاوزت ذلك كله وأصبحت مؤهلا يمكن أن تفكر في أي شيء آخر..
شعرت بضيق تنفس، وبداية تصاعد خفقات قلبي، وأنا أستوعب معنى كلامه. كأنهم يزفون لي خبر رحيلي للمرة الثانية خلال أسبوعين.
نسيت النقاط التي كنت اتفقت مع إسراء أن نسأله عنها، وارتبكت فعجزت عن الوصول للملف الذي سجلتها به على هاتفي، فقط نظرت إلى إسراء دامعاً متسائلا، فوجدتها متماسكة، وواصلت الحديث معه عن تفاصيل الأيام القادمة.
لكم تغيرت إسراء! هل هذه ذاتها تلك الفتاة الهشة المترددة التي عرفتها؟ كنت أناديها "يا وردتي البيضاء". هكذا كنت أراها، بتلات وردة رقيقة أخاف أن أتنفس قربها كي لا تتناثر، أو بلورات زجاج شفيفة لا تكاد تُرى.
عبر سنوات علاقتنا انبعثت إسراء أخرى، إسراء ذات جوهر أصلب وأقوى. بتلات وردة بيضاء رقيقة حقا لكنها ليست هشة، بل تزداد تماسكا كلما تعمقت بطبقاتها. بلورات بالغة الشفافية حقا، لكنها لا تنكسر أبداً، بل تنافس أغلظ ألواح الزجاج المضاد للرصاص!
لم يكن الأمر مفاجئأ تماما، فقد كان من أسباب إعجابي بها منذ البداية تلك القوة الكامنة داخلها. لمستها ضمن حكاياتها الطريفة عن "صراعات البقاء" الطفولية ضد أشقائها الذكور الثلاثة، وحتى مواقف حاسمة اتخذتها أثناء دراستها أدت لاطمئناني أني لا أبدأ علاقة مع "بنت عويلة". لم أحب أبداً نموذج الفتيات المعزولات تماما عن العالم في فقاعة معقمة، ولطالما تعجبت ممن يريد الزواج من "قطة مغمضة" ستتحول عبئاً عليه.
رغم ذلك مازلت أتسائل هل كانت هذه القوى المدهشة كامنة داخلها، أم هو خلق جديد تولد تدريجياً؟
اليوم بينما يساورني الخوف من أن قصتنا تدنو من نهايتها، وأن الفراق الأبدي ينقض علينا، فإني أجدني أتشبث بذكريات البداية وتأمل الرحلة، لعلي فيها ما يسري عني، ويخفف قلقي على مستقبل من قد أتركهم خلفي.
لو كنت حقاً سأفارق يحيي، فإن مما يعزيني أن يكون ميراثه مني خير أهل وأجمل أصدقاء، وما تيسر من طيب الذكريات، والأهم هو أجمل وأقوى أم: إسراء.
****
لم تكن بدايتنا عادية، لقد اختارتني إسراء قبل أن أخترها.
التقينا للمرة الأولى، في تجمع أصدقاء بمجموعة "فيس بوك" خاصة بالقراءة والكتابة الأدبية. قالت إنها بمجرد أن رأتني وقع في قلبها فوراَ شعور أنها ستتزوجني!
كانت تعاني وقتها من تجارب سيئة مع متقدمين للزواج بالطريقة التقليدية (صالونات)".
يومها اتصلت بصديقتها تحمل لها البشرى: "باركيلي يا فلانة النهاردة قابلت اللي هتجوزه!"، لكن صديقتها سخرت منها حين عرفت أن كل الأمر لا يجاوز تحية سطحية بيننا.
قررت هي أن تبادر، فراسلتني تسأل عن تفاصيل تخص كتاباتي في مدونتي القديمة. كان يمكن أن تكون رسالة كغيرها، لكن روحها لمستني منذ الأسطر الأولى، شعور لا يفهمه إلا من جربه، كأنه التقاط بث إذاعي مفاجيء على المحطة المطلوبة بالضبط.
مع استرسال حديثنا لم تمض أسابيع إلا وقد أطلق نصفي العاطفي نداء اكتماله، لكني لم ألبِ النداء فوراً.
لماذا كنت أقاوم؟
في كتابه"طوق الحمامة"، أجمل ما كُتب بعيون التراث العربي حول الحب، يخصص الإمام ابن حزم فصلا بعنوان "باب من لا يحب إلا مع المطاولة"، يقول فيه إن نوع الحب الذي يفضله، ليس حب النظرة الأولى، بل الحب الذي يأتي بعد "طول المخافتة، وكثير المشاهدة". يتحدث عن نفسه: "وما لصق بأحشائي حُبٌّ قطُّ إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جدٍّ وهزل".
ويؤكد إن ذلك لا ينفي قوله في بداية الكتاب "إن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العُلوي"، فالنفوس في عالمنا قد "حجبت حقيقتها الطبائع الأرضية"، لذلك تحتاج وقتاً لتكشف عن حقيقتها وتجد مفاتيح اتصالها.
كانت مقاومتي في البداية بسبب السؤال الأولي: هل أنا أحبها حقاً؟
سرعان ما وجدت إجاباتي:
نعم، أحبها، لأني أصبحت أجد عيني تتأمل بانبهار كل تفصيله في ملامحها، كل شعرة رمش، وكل مسام في الجلد. أحب شكل أسنانها حين تبتسم، وحركة عينيها حين تمزح. لا عجب أن كانت أول علامات الحب عند ابن حزم هي "إدمان النظر".
أحبها، لأني استقراري النفسي أصبح بالكامل مرتبطاً بها، ولا يمكنني الاطمئنان والهدوء إذا كانت هي تشعر بأدنى ضيق حتى لو لسبب خارج عني.
أحبها، لأني أصبحت أشعر بالفخر حين أحدثها أو ألتقيها. بمجرد أن أمشي جوارها أشعر فوراً دون أي تفسير عقلاني أني ممتلئ فخرا، وأني مميز فوق البشر.
أحبها، لأن هواي صار يوافق هواها. حين تخبرني أنها تحب أو تكره شيئا أو شخصاً، لا أوافقها مجاملة، بل حقاً يتحول شعوري العاطفي نحو هذا الشيء أو الشخص لحظياً.
أحبها، لأني أصبحت "أحبُ من الأسماء ما وافق اسمها، أو شابهه، أو كان منه مُدانيا" كما قال قيس بن الملوح قبل ألف عام. أصبحت أذني بالغة الحساسية لالتقاط اسمها أو أي كلمة حروفها قريبة منه.
أحبها، لأننا وجدنا بيننا "العلامات". أمور صغيرة جدا مشتركة يصعب أن أجدها مع أي شخص آخر، كإعجابها الشديد بفرقة "الطمي". كانت إسراء تعشق مسرحيتهم "ثورة قلق" والتي لم تكن متاحة وقتها على الانترنت. كلانا انبهر فعلا بتلك العلامة اللطيفة. كم شخصا يعرف الفرقة فضلا عن المسرحية تحديدا؟.
“وأنا مليش حيلة..غير أسئلتي الضئيلة"
إذن أجبت على السؤال الأساسي، فلماذا مازلت أعاند؟
قاومت لأني أرى أن ذلك المكون المعنوي الغامض في الحب، على جماله وإيماني به، ليس كافياً وحده، بل ثمة عوامل عقلانية ومادية أخرى يجب أن تتكامل قدر الإمكان.
كنت أحاول تحييد مشاعري، لأحكم على العوامل الموضوعية قدر الإمكان.
أقول "قدر الإمكان" لأن الحب يعمي ويصم، حقاً "عين الرضا عن كل عيب كليلة".
أحاول المسائلة بنقدية للصفات التي أحبها فيها بل إني أعدد العناصر المجردة لاتفاقنا بقضايا الشأن العام السياسية، وبآرائنا الاجتماعية والدينية، حتى لو اختلفنا في بعض التفاصيل.
أستعرض العوامل الخارجة عنا مثل مناسبة الأسرتين لبعضهما، والوضع المتوقع لمستقبلي المهني، وكذلك محاولتي فهم أبعاد شخصيتها بشكل متجرد قدر الإمكان.
أخيرا انهار السد وأخبرتها في يومٍ لا يُنسى. أذكر خفقات قلبي وصعوبة تنفسي وارتباك حواسي، كأني أشم رائحة الضوء وأرى نور العطر.
وما أجمل من "أول الحب"؟
أذكر المرات الأولى من كل شيء. أول نزهة، وأول لمسة، وأول عناق. ارتباك شفتينا في أول قبلة ثم تعلمنا معاً كيف تعلو الموجة. أول مرة ذهبنا إلى البحر في مرسى مطروح، وأول مرة سافرنا خارج مصر بعد زواجنا.
أول مرة قرأت لها شعراً، حين أسمعتها في الشارع غيبا قصيدة "لمدح زهر اللوز"، ففوجئت بوجنتيها تحمران خجلاً، اكتشفت أن هذا يحدث حقيقة لا في خيال الشعراء.
هل مازال ينتظرنا مرات أولى أخرى؟
سرعان ما أظهرت إسراء قدراتها أمام تحدٍ غير متوقع. كان والدها رغم كرمه البالغ قد فاجئنا برفضه مقترحنا أن "نكتب الكتاب" في موعد مبكر عن الزفاف بضعة أشهر لا أكثر، فكانت النتيجة أن قررت إسراء معي بكل حسم أننا سنتزوج فوراً، بأي شكل، ومهما كانت النواقص.
لم نجد قاعة مناسبة للزفاف، فضلا عن عدم توافر قدرتي المالية الفورية، فقبلنا بأي خيار متاح. كانت قاعة متواضعة، محدودة المساحة والخدمات، لكن لم يهمنا إلا أنها بأقرب تاريخ، 31 من مايو 2013، وأنها كافية لتقديم الطعام للأسرتين القادمتين من خارج القاهرة.
لاحقاً عرفنا كم كنا محظوظين بذلك القرار، لأننا لو كنا استجبنا لمقترح التأجيل إلى بعد عيد الفطر، فقد كان هذا هو بالضبط توقيت أحداث فض رابعة وما تبعها من حظر للتجوال، وآثار مست عائلتينا. كان زواجنا سيتأجل طويلاً أو يُلغى بالكامل.
لم أكن أفهم شيئاً عن ترتيبات الزفاف، وكل شيء تم ترتيبه بارتجال وسرعة. قامت فرقة متواضعة المستوى إلى حد هزلي بزفافنا بشكل سريع، وحدثت أخطاء في كل شيء، عدد الكراسي، و مكونات الوجبات، والإضاءة والتصوير بالغ الردائة، وغيرها من تفاصيل معكرة.
توترت خوفا من توترها، لكن أدهشني هدوءها التام وتقبلها كل شيء ببساطة. قالت لي لاحقاً أنها قالت لنفسها أن كل هذا سيُنسى وسيبقى أننا فعلنا ما أردنا.
ثم انتهت "ليلة العمر" بمشهد أسطوري:
كانت شقتنا في الطابق الثامن من بناية لم تكتمل بعد، حتى أنها بلا مصعد، وكان يفترض أن يتم تركيبه خلال فترة الخطوبة، لكن الشركة تأخرت كالعادة، وكانت هذه من أسباب رغبة الأسرتين بالانتظار: "معقول عروسة هتطلع ٨ أدوار بفستان الفرح؟"، "مستحيل أجيلك الصباحية لو اتجوزتواعلى الحال ده”.
لكن إسراء لم تتردد لحظة، لم يستغرق الأمر منها وقتاً للتفكير أصلا. رأتها مجرد تفصيلة تافهة. وهكذا في يوم زفافنا كنست بفستان فرحها الأبيض سلما قذرا مليئاً بالتراب والأسمنت وبقايا البناء لثمانية طوابق.
لقد انحفر مشهد دخولها المنزل في ذاكرتي إلى الأبد. كأني أراها الآن، ترفع طرف فستانها الذي تحول أسفله للأسود الفاحم، محاولة ألا تلوث الأتربة سجادة الصالة الجديدة. تلهث من المجهود، لكنها تبتسم.
إسراء التي عرفت هوسها التام بالنظافة، والتي تكفي ذرات غبار لا ترى بالعين المجردة لتعكير مزاجها، أدهشتني بقدرتها على تجاوز كل شيء لأجل "إرادة السعادة".
رأيت يومها أمامي بطلة خارقة، أعظم من ملصق يظهر مجد "سوبر مان" طائراً فوق ناطحات سحاب نيويورك.
أعرف اليوم أن هذه كانت خير بداية رمزية لحياتنا.
ستكرر إسراء خوارقها، حتى تصل ذروة ما لديها من منح مادي ومعنوي بعد حلول اللعنة السرطانية على أسرتنا، كأن كل ما سبق كان دون أن ندري إعداداً وإنضاجاً لهذه اللحظة المشؤومة.
****
في حياتي مريت بخيباتٍ كثيرة، بسبب أمور تعلقت بها وانتميت إليها بلا حدود .. إلى حد التضحية بالوقت والمال والجهد، والاستعداد للتضحية بالروح.
في بداية ارتباطنا، سألتني لها لماذا أسألها صادقاً كل يوم مساءا: "أنتي راضية عني"؟، فأخبرتها أني لا أرى الحب إلا هكذا، ذوبانا في المحبوب وتعلقا به، بينما قالت إنها تستغرب تلك الصيغة الكبيرة. قالت لي "انتا عندك أوفر إخلاص". قالت إني بشكل عام أعيش حياتي بملحمية و"وواخدها جد أوي" بينما بعضها أحداث عادية لا تستحق كل هذا التورط العاطفي..
ربما أخذ من أمي تلك المبالغة في العاطفية وتحميل القضايا أكبر من قدرها.
لكني جربت كل أنواع الخيبات يا إسراء..
خيبة "مكانتش مستاهلة":
في أمور مثل التضحية بمجموعي في الصف الثاني الثانوي، لأني انشغلت جداً بالكنابة لمشروع داخل منتدى روايات عن شخصيات د.أحمد خالد توفيق. فزت بأكبر نقاط بتاريخ المنتدى، وأصبحت اغنى عضو، لكن هل هذا اللقب الكارتوني يساوي عاماً كاملاً مغترباً في طب المنيا؟!
خيبة الفشل:
مثل فشلي بأهداف خاصة وعامة بعد استنفاذ الدموع والعرق والمشاعر. فشلت في نهاية الكلية على الحصول على نيابة بالجامعة (وإن كانت الخدمة بوزارة الصحة أضافت لي خبرة مختلفة) ، فشلت في مشاركاتي بحملات البرلمان والرئاسة في ٢٠١١ و ٢٠١٢، كل من دعمته بصوتي أو بمشاركتي في حملته الانتخابية خسر. أذكر شلالات الدموع ليلة إعلان نتيجة الجولة الأولى. مع بعض أجمل وأنبل الشباب والفتيات جاءوا بلا موعد. فقط نبكي تائهين. أواجه حقيقة الصورة العملاقة التي أنا ذرة منها: لفد فشلت الثورة المصرية والربيع العربي، صارت كل الأحلام والآلام ودماء الشهداء تاريخاً ليرويه أمثالي بعد أن نتحول لمسنين خائبين آخرين... حقا لقد "مسنا الحلم مرة".
خيبة سوء الحظ أو النصيب:
كقصة حب قديم صادقة لم تكتمل بسببي، أو كعدم نشر أول ورقة بحثية شاركت بها بتقرير للأمم المتحدة وعلقت عليها آمالا كثيرة، أو كخسارتي مبلغا ماليا في مغامرة استثمار طائشة.
خيبة الخديعة:
كما حدث بعد اكتشافي ارتكاب أشخاص كنت أظنهم مثاليين، أتفاخر بكونهم قدوتي و"مثلي الأعلى"، لأخطاء فادحة. أفهم نواقص البشر، لكن الكوارث الأخلاقية ليست منها. لقد تورط أستاذي فلان حقاً في اختلاس أموال، وقام عزيزي فلان حقاً بالتحرش. قد أحاول في البداية التبرير أو التشكيك هامساً بيني وبين نفسي، ثم سريعاً تأتي لحظة الحقيقة الأليمة.
خيبة "كم كنت غبياً":
وهي أكثر الخيبات مرارة على الإطلاق، حين تكتشف خطأ أفكار أو آراء لا أشخاص. كم اعتنقت أفكارا وأجوبة بيقين تام، تكونت داخلي عبر سنوات من البحث والتجارب، واتخذت بناء عليها قرارات عملية تؤثر في حياتي كلها، ثم أكتشف بعد لحظة تنوير درامية، أو بعد تراكم عكسي تدريجي، أني كنت أحمقاً أحمقاً. كنت أخادع نفسي، وكان عقلي متأثرا بانحيازات عاطفية و"خرائط ذهنية" مسبقة.
كلما اتسع عالمي كلما أدركت مدى ضيقه السابق.
كلما اتسع علمي أدركت جهلي.
...
بعد خيبات كثيرة أصبحت أقل ملحمية، أقل يقيناً، في كل شيء.
ثم أحببت إسراء.
أقول لنفسي: انتظر حتى تتأكد. يكفيك خيبات. تريثت وقاومت ثم "اندلقت"!
أصبح كل مخزون الانتماء والإخلاص واليقين المطلق لها وحدها، ولم تخيبني أبداً بحمدالله.
مع إسراء لا فشل، ولا سوء حظ، ولا خديعة، ولا غباء.
راحة نفسية تامة، حيث أكون أنا كما انا حقاً، بلا ذرة إخفاء أي شيء أو خجل من شيء. أقول لها: لو سأصفك بكلمة واحدة فهي أنكِ مريحة.
أكثر راحة من أنسب وسادة لظهري المتألم، أو موسيقى عذبة لقلبي الكسير.
راحة لا يعكرها إلا حبة بازلاء عابرة تحت الوسادة، أو انكسار عابر في اللحن، تنقلب حياتي حتى يزول سريعا بحمدلله.
وكل شيء وأي شيء آخر في الحياة أصبحت أقصر وجوده على حدوده.
في أحد روايات الكاتب الليبي إبراهيم الكوني يقول: "كل خسارة لم نخسر بها أنفسنا خسارة عابرة"، وأنا أصبحت أقول "كل خسارة لم أخسر بها إسراء خسارة عابرة"، إسراء هي نفسي، وسواها كل شيء يمكن أن يمر
.
لديّ الآن هذا الاطمئنان النادر نحو المستقبل. بالطبع لا أمان من غدر الزمان
وتقلباته، لكن معي أماناً أني لن أكون وحيداً وخائب الأمل..
شكراً للحياة التي منحتني إسراء وسط قدر لا نهائي من الاحتمالات ألا يحدث ذلك.
وأدعو لكل من أحب أن يمنحه الله "إسراءه" الخاصة، سواء كانت حباً أو غير ذلك من كل ما يقي من الخيبات، كل الخيبات.
إعادة نشر بتصرف لنص نشرته في ٢٨ يناير ٢٠١٦
*****
٧ نوفمبر ٢٠٢٢
أستيقظ مفزوعا على مزيج البلل والعار لليوم الثالث على التوالي.
بقرف أتلمس بنطالي آملاً أن يكون هذا عرقا، لكني أعرف أنه بول.
ثم أتشمم نفسي بأقل لمسات ممكنة، لأعرف هو البول فقط أم سربت برازاً أيضاً كالأمس. تباً، إنها تلك الرائحة الكريهة، وذلك الشعور اللزج المقزز.
أتحرك بحذر كي لا أحدث أدنى صوت، لكني إسراء تستيقظ بالفعل، تسرع نحوي.
قبل أي شيء تغمر وجهي ورأسي بالقبلات وتهمس "ولا يهمك يا حبيبي". ذكية كعادتها. تعرف أن تنظيف مشاعري من الذل والقهر، يأتي قبل تنظيف جسدي من الأوساخ.
أصرخ داخلي بلا صوت: إيه اللي بيحصللي ده!
لا أكاد أصدق أني أعيش أكثر كوابيسي رعباً على الإطلاق، كابوس الارتداد إلى "أرذل العمر".
شهدت ذلك مع بعض كبار السن بالأسرة، ومع حالة تعرضت لضرر في المخ. كل تفاصيل "بامبرز الكبار" والمشمع والقسطرة البولية والحقن الشرجية وغيرها.
أن يتحلل جسد الإنسان أمام ناظريه، ويفقد أبسط مقوماته كمستقل بالغ ليرتد طفلاً قاصرا.
تزامن ذلك مع استمرار انتفاخ قدماي، أعرف جيدا "قدم الفيل" المرتبطة بأعراض الفشل الكبدي لدى بعض كبار الأسرة أيضاً. كانت جدتي رحمها الله تطلب مني أن أرفع لها قدميها إلى السرير ليمكنها النوم. ها أنا ذا لا يمكنني رفع قدمي للسرير، ويجب أن تحملها إسراء حملاً.
ما زلت مصدوماً من سرعة التدهور الذي حدث.
قبل أيام أخبرنا الأطباء أول جدول زمني مبدئي لوضعي الحالي، كنت أتصور أن ينتهي الأمر خلال أيام خاصة أن الانسداد جزئي هذه المرة، لكنه أخبرنا أن أتوقع البقاء بالمستشفى لستة أسابيع، قبل الآن
لم أبق بالمستشفى لهذه الفترة بشكل متواصل في حياتي حتى بعد العملية الكبرى!
من جديد أتلقى الغدر وتدمير الخطط من ذلك "الخبيث".
قبل نحو ثلاثة أشهر، مع بدء البرنامج العلاجي الرابع، كنت قد جلست مع إسراء كصديقين، نشرب القهوة باللبن التي أعددتها لنا بجهازها اللطيف، ونتناقش حول مشاعرنا.
قلت لها إني لم أعد أستطيع تخيل نفسي حياً بعد سنوات بأي حال. .
تذكرنا أيام بداية المرض، وحيلنا النفسية المتفائلة للغاية. محاولاتي تطبيق "التأمل" بعدة أساليب بعضها طريفة مثل تخيل نفسي تحولت مقاتلاً مجهرياً أقضي على خلايا سرطاني بنفسي في رحلة داخل خلاياي، وكذلك محاولاتي تطبيق "قانون الجذب" بتخيل رؤية نفسي كامل الشفاء والمعافاة. توافقنا أن قسوة الوقائع جعلت كلانا عاجزا الآن عن ذلك.
كلانا نأمل في يقين أمي وإن كنا لا نجده. كما شرحت سالفاً فالمعجزة تظل أمراً بالغ الندرة، وحتى الأديان لم تعد المؤمنين بالضرورة بالنصر والشفاء في الدنيا، بل يخاطب القرآن الصحابة بوعدٍ مختلف تماما: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع". كون أن أمي يمكنها جمع ذلك مع تأكدها من حدوث المعجزة لي تحديداً بآلية "الدعاء اليقيني"، فهي قدرات أحب أن أتخيلها، أحاولها، لكني أبعد ما أكون عنها.
لكن يمكنني تطبيق "حيلة نفسية دفاعية" أخرى، وهي الخيال متوسط المدى، خاصة أنه ليس مستحيلاً أن ينجح البرنامج الجديد جزئياً لمدة أشهر أخرى. فلأضع أهدافاً سقفها عام على الأكثر، وهكذا مازلنا في سياق تقدير الأطباء الذين قالوا أن أمامي عامين على الأكثر.
وعدتني إسراء أن تساعدني، وهكذا وضعنا مخططاً لأشهر قادمة، تضمن أن نسافر في رحلة قصيرة في سبتمبر، وأن أستقبل أسرتي في أكتوبر، وتنتهي بأن أزور مصر في فبراير لتحقيق حلم طفولي بعقد حفل توقيع في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث أجمع ما كتبت حول المرض سواء ما نشرت على صفحاتي أو نصوص أخرى لم أنشرها.
أغمض عيني وأتخيل تلك المشاهد المبهجة. بل إني أجهز قائمة بالمأكولات الثقيلة المدججة بأسلحة الدمار الشامل. طيلة عمري لم أكن شخصاً "أكيلاً"، لكن فقط بعدما صار الطعام عسير المنال وجدتني أنغمس في صفحات وقنوات "الفود بلوجرز"، بما فيهم من كنت أراهم الأكثر ثقل دم وسماجة!
أحاول تجنب التفكير في الجانب الرثائي من كل تلك الأحلام، كوني أود وداع من وما أحب، فأجدني أبتسم. أفتح عيني فأرى إسراء تبتسم لي مشجعة.
مضى الأمر في البداية حسب الخطة بشكل ما، سافرنا إلى باريس لأول مرة في حياتي ليومين ونصف فقط، كنت فكرت أنه ليس معقولاً أن أعيش في أوروبا كل هذه السنوات وقد أموت ولم أرى "عاصمة النور" وكذلك تحمس يحيي بشدة للمقترح. تذوقت الطعام الفرنسي الجدير بشهرته، وكان من ألطف اللحظات حين رأينا "الموناليزا" في متحف اللوفر، فبدأت إسراء الغناء من مطلع فيلم "الكويسين" الكوميدي: منى يا منى يا موناليزا .. أهلا يا مراحب يا خطوة عزيزة.
سجلت إسراء لحظات الفرح المختلس الجميل تلك على هاتفها، لكني لم أستطع منع نفسي من لحظة تخيل أني سأموت قريبا، وسيصبح هذا الفيديو ذكرى طريفة يشاهده من بعدي فيضحك ويتذكرني ويترحم علي.
وكما يخاف المصريون من الضحك العالي الذي قد تتلوه مصيبة فيتمتمون "اللهم اجعله خير"، تحققت النبوءة معي، فبعد تلك الأيام الباريسية السعيدة فوراً، عانيت في قطار العودة فور تناولي وجبتي من آلام مبرحة هي ما تطورت لتؤدي بي للانسداد الأول ثم انفرط عقد كل شيء..
الآن أصبحت أرى موعد شهر فبراير بعيداً جداً.
تتصارع داخلي صورتان غائمتان، هل أراني جالسا لأوقع الكتاب وبقربي أبي وأمي وإسراء؟ أم أنا غائب، وأرى إسراء هي من تطلق الكتاب، بينما صورتي معلقة في الخلفية وعليها شريط الرثاء الأسود؟
****
في كتابه "في الحب والحب العذري" خصص الكاتب السوري صادق جلال العظم فصلاً بعنوان "مفارقة الحب"، يناقش فيه أن الحب تتجاذبه دائماً "نزعة الاشتداد"، وذروتها المغامرة الغرامية، مقابل "نزعة الامتداد"، وذروتها مؤسسة الزواج.
الفارق بينهما كمفهومي "اللذة"، تلك الومضة الساحرة العنيفة، و"السرور"، ذلك الهاديء المعتدل.
اليوم بعد كل هذه السنوات أفهم تماماً الفارق بين نوعيّ الحب، كما أفهم أنه لا غنى عن تكوين المزيج الخاص منهما لنجاح كل علاقة.
لو كان الحب بشكل مستمر هو لحظة اللذة في همسة غزل، اندماج جسدين، وأمثالها، إذا لكانت الجنة على الدنيا، لصافحتنا الملائكة في منازلنا حقاَ!
لكننا في الواقع نهبط إلى تحديات وتعقيدات بلا حصر، بعضها لظروف خارج طرفيّ العلاقة، وهو ما يتطلب صفات وقدرات، وكذلك تخطيطا وتوفيقاً، فالمكون السماوي وحده لا يكفي بدون اجتهادنا الأرضي العمدي.
واليوم بعد كل هذه السنوات أعرف أننا كنا موفقين بأن أوقفنا علاقتنا على أساسين صلبين:
الأساس الأول هو الشفافية والحديث معا مهما كانت النتائج، مهما اختلفنا، المهم ألا نترك علاقتنا في دائرة رد الفعل لأهوائنا أو لظروف خارجية.
وجدنا أن الأمر يستحق تنظيماً عمديا. بعد خلاف كبير وجدنا أننا فيه راكمنا مشكلة لم نتحدث عنها لأشهر، فاتفقنا أن نتحدث ١٥ دقيقة في اليوم عن علاقتنا ببنود محددة: هل ضايقتك اليوم؟ ما أفضل ما حدث مني اليوم؟
غالباً لم يحدث ذلك يوميا، لكننا على الأقل احتفظنا بهامش المحاولة والتذكير دائما.
الأساس الثاني هو الفكرة الحاكمة لموقع كلانا من العلاقة، اتفقنا أن الأنسب لنا هو موقع "شريكيّ السكن".
لسنوات عشت في "شقق عُزاب". أمضيت عامي الأول الجامعي طالباً مغترباً بكلية طب المنيا حيث عشت مع ٣ زملاء من كليات مختلفة، وبعد التخرج كررت التجربة في القاهرة مع صديق واحد أو عدة أصدقاء.
هذه الحياة المشتركة دائما ما كانت تتطلب جانبا من توزيع المسؤوليات (ماذا سنأكل؟ من سيغسل ملابسنا أو سيذهب بها للغسيل؟ من سينظف المنزل؟)، أو إدارة الخلافات (لماذا حصل فلان على الوسادة الأفضل؟ لماذا لم يدفع فلان نصيبه من مقابل تنظيف سلم العمارة؟)
شهدت أنماطاً كثيرة لحلول توزيع المهام أو لحل الخلافات، ما يجمعها هو أن الأصل بيننا حسن النية، أننا أصدقاء أو على الأقل زملاء ورفاق سكن، أي بيننا "خواطر وعشم"، لدينا رصيد يسمح بالتفاهم بندية ومساواة وفي ذات الوقت بودٍ ولطف. إذا فقدنا تلك العناصر تنهار الرابطة، وسيغادر أحد الشباب الشقة باحثاً عن بديل.
اتفقت مع إسراء أننا لا يناسبنا نمط تشبيه الحياة الزوجية بأنها "سفينة لو ليها ريسين تغرق"، أو أنها "شركة ليها مدير"، وبالطبع مساحة من “ملزم” و”غير ملزم” تأتي من عوالم القضايا والخلافات لا المودة. بل نحن نبدأ حياة مشتركة لشخصين متماثلين تماماً في الاستقلال والكرامة والحقوق والواجبات، كالأصدقاء المتساكنين في منزل.
لو أننا في شقة طلبة وقرر أحدنا أن يحسم خلافنا حول مسؤولية النظافة بأنه هو رئيس المنزل بالطبيعة، لأنه "الأذكى"، أو "الأكبر سنا" أو أي معطى آخر، وعلى الباقين "الطاعة"، لما كان رد الباقين إلا طرد هذا المعتوه.
أما لو كانت له مزايا قوة فعلية، كونه مثلا أصبح يتحمل دفع الإيجار كاملاً في وقت عجز به الآخرون، فسيفرض سلطته فعلا. "سيطيعه" الباقون، لكنهم لن يكونوا سعداء، ولن تجمعهم لاحقاً نزهات ومغامرات الأصدقاء التلقائية.
اتفقت مع إسراء على أن تكون روح الأصدقاء المتشاركين هي الحاكم العميق لحياتنا، من أبسط التفاصيل إلى أكبرها.
على سبيل المثال اتفقنا أنها حين تخبرني أنها ذاهبة لزيارة منزل أهلها، فإني لا أشعر أني زوج رائع أنتظر العرفان لتنازلي عن حق "الإذن في خروجها"، كما أنها لا تشعر أنها حصلت مني على تنازل رهيب كون الأصل أنها أسيرة في منزلها!
الأمر بسيط جدا، الأصدقاء يُعلمون بعضهم بأماكن تواجدهم ولا "يستأذنون" بعضهم. مجرد بديهية.
رغم ذلك كم اكتشفنا لاحقاً صعوبة إزالة الرواسب الذكورية على كلانا.
خلال إحدى سهرات المرض بالمستشفى فاجئتني إسراء باعترافها أنها لم تتوقع أني سأحملها مسؤوليات متساوية فعلا، ظنت أنها محظوظة بمزايا كذا وكذا، ثم فوجئت أني أتعامل بشكل طبيعي وتلقائي مع هذه الأمور في مقابل تحميلها بنفس الطبيعية والتلقائية مسؤوليات تصنف عادة كمهام رجالية.
لكنها فاجأتني وفاجأت نفسها.
كنا على المستوى النظري ناقشنا التحديات التي نتوقعها: الإدارة المالية، إدارة الأنشطة اليومية (طعام، نظافة)، حياتنا المهنية، الإنجاب، بل حتى إبقاء جذوة الحب مشتعلة بشكل واع هو تحد يتطلب عملا منظما كترتيب سفر أو نزهة دورية. لكن اليوم أعرف كم كانت مفاجآت الحياة عسيرة على التوقع، كما كانت قدرات إسراء دائما تبهرني بالجديد.
من أوائل صدمات المثال والواقع كان تحدي الإدارة المالية، أثناء الخطوبة أخبرتني أنها لا تحب شعور "اليد السُفلى"، أو أنها تنتظر من ينفق عليها. كانت تعمل بالفعل في موقع إخباري لكن بأجر زهيد، وبعد زواجنا حصلت على شهادة "مونتسوري" الخاصة بالتدريس لمرحلة رياض الأطفال، فالتحقت بمدرسة أيرلندية في المعادي.
من حيث الشكل اتفقنا على أن نضع أموالنا بشكل مشترك داخل درج مخصص في غرفتنا، ويسحب منها من يحتاج ما يشاء، وهو ما تطور لاحقاً عبر السنوات، فأصبحنا نتشارك أرقام الكروت البنكية، وكذلك وضعنا اسمينا بكافة العقود المتعلقة بمسكننا وبالفواتير.
لكن الأهم هو المضمون والشعور لا الشكل.
اتفقنا أن المهم هو أنه بكل ذرة في داخلنا نشعر أن هذا "مال الأسرة"، سواء كان مصدره أنا أو هي، فقد جاء هذا المال لأن الطرف الآخر يقدم مساهمة بقيمة "عمل غير مأجور". في حالتنا النموذج واضح: تركت إسراء عملها للتفرغ ليحيي لمدة ٤ سنوات كاملة، ما أثر في تراجعها المهني والمالي، بينما أنا أنمو وأتقدم. هذا حقها، لا مجاملة ولا مثالية، بل توصيف بحت.
أضعنا ساعات طويلة أيام الخطوبة في نقاشات كهذه، لكن تحدي الواقع كان مختلفاً تماما إلى حد مضحك: لا أموال لنقتسمها. أفلست منذ أيامي الأولى!
أنفقت بلا حساب في "أسبوع العسل" في الجونة، فكرت ببقايا الثقافة الذكورية أنه لا يصح أن أظهر أمامها عاجزا عن دفع ثمن مطعم غالٍ أو رحلة سافاري. نفد كل جنيه نملكه قبل خمسة أيام من نهاية الشهر، فلجأت للاقتراض من أحد أقاربي. صارحت إسراء كاتفاقنا على الشفافية المالية، ففوجئت بغضبها الشديد، وقالت إنها تفضل الجوع عن أن نبدأ حياتنا بالاستدانة.
كانت تلك المرة الأولى التي أرى وجهها الحازم. أحضرت ورقة وقلما وقالت: اكتب هنا كل مليم بيدخل لنا في الشهر. واجهتنا مشكلة أن بعض مصادر دخلي غير منتظمة. بعد بعض الحسابات وصلنا إلى أن الحد الأدنى الثابت من الدخل لدينا هوا كذا جنيه، إذن يجب ألا تزيد نفقاتنا عنه مطلقا، ثم قسمت بنود النفقات من مواصلات وطعام وفواتير بحيث يتفق الرقمان بالضبط.
لن نشتري الخضر من مكان عملي بالمعادي، بل قرب منزل الأسرة في حلوان أو من أمام مترو الملك الصالح.
لن آخذ أبداً سيارة أجرة إلى عملي بالدقي، بل سأستخدم خط مواصلات المترو والميكروباص.
كنت أنظر لتلك الفتاة القوية تولد، أسعد بها، لكني لا يمكنني منع نفسي من التساؤل: من أنتِ؟
وردتي البيضاء الخارقة (٢-٢) - الجزء الثاني
٩ نوفمبر ٢٠٢٢
أرفع رأسي من النوم فجراً محاولاً أن أصل لصحن القيء الورقي دون أن أحدث صوتاً يوقظ إسراء. من حقها أن تنام قليلا. كان الأطباء قد أعطوني جرعة "جاسترو جرافين" وهو مادة مُسهلة قوية تحرك الأمعاء، وكذلك تستخدم كصبغة ليظهر مدى الانسداد.
لكن إسراء تصحو فورا، تناولني بصمت وسرعة صحن القيء فأتقيأ ثم تمتد يدها بمنديل في اللحظة المناسبة بالضبط لتمسح لي فمي، ثم برشفات مياة، ثم تهمس: عايز حاجة تاني يا حبيبي؟ أطلب منها الانتظار لينتظم تنفسي بينما أنا واقف. ترفع إسراء ساقاي الثقيلتين واحدا تلو الآخر لإعادتي للسرير. أطلب تعديل وضع وسادتي، بعد عدة محاولات لضبط ارتفاع المرتبة. تغطيني. أخيرا ستعود لنومها بعد فاصل استغرق نحو ساعة، وسيتكرر بعد ساعة ساعتين على الأكثر.
ذات يوم أخبرني ابني أن من قدرات الرجل العنكبوت "سبايدر مان" الخارقة هي شعوره بالخطر الآتي من خلفه دون أن يراه. قلت له هل تعرف أن أمك لديها نفس القدرة؟. فبدأ في الهتاف لها: ماما سوبر هيرو. ماما سوبر هيرو.
لم يكن تعبيري مجازيا.
منذ عام، بعد عملية استئصال الورم، فقدت تماما قدرتي على النوم المتصل ٨ ساعات كما كنت طيلة حياتي. كل يوم أصحو خلال الليل عدة مرات لأسباب متنوعة: آلام، ضيق تنفس، آلام صدر، كوابيس، جفاف الحلق وأحيانا الجفون حتى اني أحتاج فتح التصاقهما بأصابعي.
في المقابل لا أعرف بالضبط متى اكتسبت إسراء تلك الحاسة السادسة: بمجرد أن أصحو تشعر بي، دون أن أصدر أي صوت، تتحدث بينما عيناها مغمضتان: انتا كويس؟ محتاج حاجة؟
كل يوم، كل ليلة.
غالبا أكتفي بطمأنتها فتواصل النوم، وأحيانا أطلب مساعدة ما.
في اليوم التالي أسألها لو تذكر ما حدث، أحيانا تذكره وأحيانا لا تعرف أي شيء.
منذ المرض فاجئتني إسراء بما يكفي من القدرات الخارقة حتى صار الطيران احتمالا غير بعيد.
قالت ورقة علمية من جامعة سالزبورج الأسترالية إن أدمغتنا لا تنام بشكل كلي، بل تحتفظ بقدر من الوعي يوازن بين الحاجة للنوم والحماية. يقوم المخ بتنبيه الجسد إذا استمع لصوت غير مألوف، عبر إطلاق موجات اسمها "كيه"، بينما يواصل النوم إذا كانت الأصوات المحيطة مألوفة.
لعل هذا من أقسى ما يفعله ذلك المسخ السرطاني: تغييره لكل ما نعرفه عن أنفسنا والآخرين. تلك القدرة بعقل إسراء قد تطورت بشكل عكسي، فأصبح صوتي المألوف هو علامة الخطر المحتمل لا العكس!
وبالمثل من أشد لحظات المرض ألما نفسيا هي حين وجدتني أبتعد عن إسراء لا إراديا، لأن الغثيان الحاد جعلني لا أطيق أي رائحة بما فيها رائحتها..
منذ زواجنا وأنا أقول أني أعشق تلك الرائحة. دائماً أطلب منها ألا تضع عطوراً أو أي شيء يغير رائحتها. أحب ملء رئتاي بعبير رائحة شعرها وجسدها.
مرة أخرى يتدخل العلم بلهجته الجافة محاولا ترجمة العواطف إلى كيمياء: ربما سر الحب هو "الفيرمونات"، وهي مواد كيميائية هرمونية يفرزها الجسد مثل العرق بمناطق الإبطين والأعضاء التناسلية، من المؤكد أثرها في انجذاب بعض الحيوانات لبعضها، بينما مازال دورها في البشر محل جدل.
بوجه عام أؤمن أن العواطف البشرية أعقد بكثير من تلك التفسيرات الخطية، رغم حقيقة اعترافي بدورها الهام في ذات الوقت، كواحد من العناصر المركبة للعملية.
أؤمن بالجانب العلمي للحب، كما أؤمن بجوانبه العملية، كما لا يمكنني إلا الاعتراف إلا بمكون آخر غيبي ما تتلاقى فيه الأرواح أو "هالات الطاقة" أو غيرها من مسميات سر الحياة العميق الغامض داخلنا.
إن ادعاء أن الحب هو مجرد تفاعلات كيميائية فقط، يشبه ادعاء أن الرسم ينبع من المكونات الكيميائية للألوان، أو أن الموسيقى هي محصلة الأخشاب والبلاستيك التي تكون الآلات الموسيقية.
١٣ نوفمبر ٢٠٢٢
من جديد أنتفض وسط الليل صارخاً من الألم، فتقفز إسراء من سريرها لتناولني رشفات مياة أرطب بها حلقي الجاف المتلصق، وبنفس اللحظة تضغط على التنبيه الخاص باستدعاء التمريض عاجلا.
أتلوى وأتأوه فقط، بينما تطلب إسراء بسرعة إسعافي بحقنة المسكن الإضافية.
منذ نحو ٢٥ ساعة أنا بين الألم والغيبوبة والهلاوس.
أغمض عيني لحظة فأرى نارا ودخانا، فأستيقظ مفزوعاً. أرى إسراء تبكي. أغمض عيني باللحظة التالية فأرى أنيابا، فأفزع من جديد، حتى يغلب النوم كل شيء.
كانت الأمور قد بدأت تتحسن، توقف عدم تحكمي بالبول والبراز فجأة كما بدأ. كان الأطباء قد شكوا في أن السبب ضغط من العظام على عصب ما، فقاموا بعمل أشعة رنين مغناطيسي أظهرت عدم تضرر الأعصاب. قالوا ربما السبب عرض جانبي لدواء معين مضاد للغثيان، فخفضت جرعة الدواء، وجنباً إلى جنب لجأت لسلاح "طب مكمل" نادراً ما خذلني، وهي تمارين العلاج الطبيعي. استعنت بمقاطع فيديو على "يوتيوب" لأطباء ومعالجين مختصين، وبدأب أصبحت أكرر بمساعدة إسراء تلك التمارين مرتين يومياً.
نجحت!
استعدت التحكم بأعضائي الحساسة، وما أدق ذلك التوصيف المستخدم لها في اللغة العربية، وكذلك بدأت استعيد قدرتي على الأكل حيث سمحوا بالانتقال من مستوى "سوائل شفافة" إلى "سوائل حرة" إلى "طعام مهروس فئة ٤".
فجأة حدث الانهيار بعد فحص الأعصاب مباشرة.
يومها مساءا اندلع ألم شديد في كتفي، ظننته في البداية من أعراض بقائي لأكثر من ساعة في وضع غير مريح، بينما انا دائما حساس لتلك الأمور بسبب مشاكل التواء عمودي الفقري، لكن الأمر تفاقم.
باليوم الثاني والثالث انفجر ألم رهيب لا يوصف، مجرد بقاء كتفي مكانه أصبح مؤلماً.
سمعتني إسراء أهلوس: أنا باكره جسمي. فهمست بين دموعها: لكن أنا بحبه.
سمعتني أصرخ: أنا عايز أقطع دراعي. فهمست: بعد الشر.
العلاج الفوري كان قفزة كبيرة بمعدل المسكن مشتق "المورفين" الذي أتعاطاه، نجح ذلك فعلا في تخفيف الألم، لكنه على الجانب الآخر أفسد تماماً كل تحسن أحرزته بانسداد الأمعاء، عاد الشلل كما كان بالظبط، قيء مستمر، لا شيء ينزل للأسفل، ولد هذا بدوره المزيد من المغص والتقلصات.
ما كل هذا الجنون؟
بالأمس أتلمس رقبتي فوجدت كتلة صلبة بيضاوية في حجم اللوزة يسار خط المنتصف مباشرة. بمجرد أن ضغطت قليلاً زأرت آلام كتفي، وتحديداً توزيع العصب المميز الذي يعطي الشعور للإصبعين الخنصر والبنصر. لقد وجدت اللعين! .. أم هو من وجدني؟!
شك الأطباء في كونه تضخماً للغدة للدرقية، ثم أثبتت الأشعة إنها عقدة لمفاوية متضخمة.
اليوم أصبحت "اللوزة" في حجم ثمرة مشمش صغيرة. تضخم مرعب في يوم واحد!
اتفق الأطباء أنه لا بديل عن إزالتها موضعيا، وسيتم ذلك بالعلاج الإشعاعي الدقيق. أجريت اليوم فحصاً لتحديد هل يمكن استبدال البرنامج الاعتيادي الذي قد يستغرق جلسات إشعاع يومياً ببرنامج آخر يضرب مرة واحدة مكثفة.
ثم استجدت ظاهرة أخرى: انحباس الغازات!
مع كل رشفة من أي سائل أشعر بفقاعة غازية محشورة. مع الوقت فهمت أنها بالضبط آلية مشاكل الأطفال في سن الرضاعة مع التجشؤ أو "التكريع" كما نسميه بمصر.
اكتشفت الحل، وهو بالضبط نفس الحل مع الأطفال: ضربات خفيفة متكررة منتظمة بعد كل بضع رشفات.
أشعر بإحباط شديد بسبب كل هذا الارتداد.
كل يوم أخسر عضوا أو وظيفة من عضو. كأني أتساقط بالتدريج. هل أموت بالتقسيط؟.
أصارح إسراء بأفكاري الرثائية فتطلب مني التوقف عن هذا التفكير، وأنظر لجوانب إيجابية.
أتأملها نائمة على سرير مستواه منخفض للغاية تحتي، فأقول لها: يا إسراء كإنك بتعملي الي بيقولوه في الأفلام "فضلت قاعدة عند رجل جوزاها تخدمه" فتقول إنها تفخر بهذا التشبيه مادام هي من اختارت أن تفعل ذلك لحبيبها، بل تؤكد أنه “ده العادي” لأني كنت سأفعل المثل لو تبادلنا الظروف، “مش كدة ولا إيه؟” فأقول لها أني أقسم أني لو كنت مكانها ما فعلت إلا ذلك، ويشرقني أن أكون عند قدميها لأخدمها، لكني أحمد الله أنني أنا المصاب لا هي. نتشارك البكاء..
بالتوازي تستمر إسراء الخارقة في فعل مالم أتوقعه:
تواصل عملها في مجالها ب"بحوث السوق" بواحدة من الشركات الكبرى عالميا، بل أبلغوها رسميا قبل أيام بحصولها على علاوة نهاية العام، أي حققت مستهدفاتها فلا مجاملات في الأرقام.
كانوا قد منحوها بسبب ظروفي استثناء العمل الدائم من المنزل. لكنه حقا "عمل". تسهر معي بهذا الجحيم الليلي ثم أفتح عيني في الثامنة فأجدها تفتح شاشتها المليئة بالجداول والأرقام. كلانا يفضل الاعتماد على الذات طالما كان ذلك ممكنا لآخر لحظة متاحة.
بالتوازي كل خطط و"روتين" يحيي تمضي حسب المعتاد إلى حد كبير، تذهب به مواعيد تمارين السباحة والفنون واجتماعات المدرسة. حتى أنا في لحظات وعي بالمستشفى قمت كالمعتاد بمهمة اختيار وجباته للأسابيع القادمة.
ولا ينفي ذلك طبعا حصولنا على مساعدات كبيرة من أصدقاء
رائعين تم دمجهم بالخطة بتنسيق بطرق كثيرة تشمل مجالسة يحيي وتوصيلات لمدرسته أو للمستشفيات وشراء متطلبات وغيرها..
لا أعدد هنا أسماء الأصدقاء ورفاق الرحلة من المصريين والعرب زملائي وأحبائي، كي لا أنسى أحدا فأغفل سهوا فضل كثيرين، بل إني لا أنسى أطباء وأفراد تمريض كانوا حقا لا مجازا ملائكة رحمة. من أصبحت أعده صديقي العزيز الدكتور ديفيد فوير مختص إدارة الألم، ولطالما أنقذني بحلوله المبتكرة لتخفيف آلامي، والطبيب ذو الأصول الإفريقية د.إلكيم الذي يسمعني بكل صبر ويستطيع نقل أشد المعلومات ضراة بحفاوة. الممرضة الآسيوية شير التي صادقت أمي بكل لطف، وكذلك بالطبع طبيب الأورام بروفيسور أركناو الذي يحاول معي لآخر لحظة لمساعدتي للوصول لتجارب جديدة، وكذلك بروفيسور جورج حنا الذي منحني من وقته وعلمه بصراحة ولطف. الجميع منقوشون في قلبي وأقول لهم جمائلكم لا أنساها ما حييت..
****
لكن بالعودة إلى مسار حياتنا الماضية أجد أيضا أنها لم تسر دائما بذات سلاسة تحدي الإدارة المالية، وعلى رأسها تحديات الإنجاب وما يتطلبه من ترتيبات الحياتين المهنية والشخصية.
كنا قد اتفقنا أثناء الخطوبة على تأجيل الإنجاب، قلنا بصراحة إنها فرصتنا الوحيدة لنكون منفردين بعلاقة لشخصين لا لثلاثة، واتفقنا بصراحة أنها أيضاً فرصة لنا لننفصل إذا ظهر أننا غير مناسبين لبعض.
لكن بعد ستة أشهر فقط، همست لها باسما: إسراء، أنا عايز أخلف منك.
كانت إسراء تعي تماما متطلبات القرار وتأثيراته، وحاولت أن تشرح لي أن كل شيء في حياتنا سيختلف بعدها، لكني كنت مندفعا بعاطفية وقد أحببت مظهري وأنا والد في أسرة صغيرة.
كانت إسراء وقتها تدرس للحصول على شهادة التدريس الدولية " مونتسوري" لحبها في الأطفال، وبالفعل سرعان ما وجدت عملاً في حضانة أيرلندية بحي المعادي.
بالتوازي كنت أنغمس في أعمالي العديدة المتوازية، حتى أن أغلب فترة الحمل أمضيناها في منزل أسرة إسراء كي تساعدها أمها.
كنت قد وعدتها أننا سنقسم عبء الطفل علينا بالتساوي بالضبط. وعد أحمق. كيف سنفعل بينما اتفقنا على اختيار الرضاعة الطبيعية للطفل مادام بإمكانها ذلك صحيا، وكذلك اخترنا أنها لن تتركه أبداً مع مربية إلا حين يمكنه التعبير عن نفسه.
لم أكن أفهم ما تتطلبه تلك الخيارات من وقت ومجهود، وقصرت في تقديم المطلوب مني، والنتيجة أن إسراء كانت لعامين لا تنام تقريبا، تصحو لترضع يحيي، بينما أنا أغط في نوم عميق. قالت لي إنها أحيانا احتاجتني ونادتني فلم أرد من فرط عمق نومي متأثرا بيوم عملي الطويل فبكت قهرا.
لكن زادت الأزمة تفاقما بعدما سافرنا إلى لندن قبل نهاية العام الثاني من زواجنا، في قفزة كانت خارج المخطط.
فجأة لم يعد حولنا أي دوائر دعم أسري، نبدأ من جديد ببطء صنع دوائر أصدقاء صار بعضهم اليوم من أحب البشر وأكثرهم تقديما للمساعدة، بينما ابتعد آخرون، فضلا عن ارتفاع أسعار كل الخدمات المعاونة لتنظيف المنزل وخلافه.
صار خلافنا الدائم يدور حول نقطة محددة: إسراء ترى أنها تعمل طيلة اليوم مع يحيي، وبالتالي فمجرد عودتي للمنزل صار هو مسؤوليتي أنا الأولى، وهذا لا يجعلنا متساويين فأنا هكذا أرعاه فقط ساعتين أو ثلاثة يومياً بالإضافة إلى الإجازات
.
لكن زاوية رؤيتي مختلفة تماما: أنا في الخارج أعمل أيضا ولا ألعب!
أنا لا أتفه أبدا من مدى مشقة العمل المنزلي، لكني لا أقبل أيضا التتفيه من مشقة العمل غير المنزلي!
لذلك فالحساب العادل هو أن وقت عملي بالخارج يكافيء تماما عملها بالداخل، وما بقى هو ما نقتسمه 50٪ - 50٪.
وأنا أصلا أريد هذه الـ 50٪ ليس لملذاتي وأهوائي، بل لأعمل أيضا، أعمالا تحتاجها هذه الأسرة التي تعيش في أحد أغلى مدن العالم المصممة ليعيل الأسرة بها دخلين لا دخل واحد.
لكنها ترد علي محقة بأني أقول ذلك فقط، لكني أفعل كذا وكذا تطوعا بلا مقابل، وكذا بمقابل زهيد، فأرد عليها أنه حتى هذه العمل التطوعي اليوم قد يتحول مصدرا ماديا مستقبلا، فضلا عن أن هذا الجانب التطوعي وحتى “المزاجي” من حياتي وكتابتي موجود منذ عرفتيني، منذ متى وأنا لا أفعل؟ فترد: يفترض منذ أنجبت.
منذ تزوجنا إلى اليوم لم نذكر أبدا كلمة "انفصال" إلا في مرات على أصابع يد واحدة مرتبطة تحديدا بهذا الملف فقط، أو في مرة أخرى خارقة الاستثنائية حين ابتدع ضابط ما بجهة أمنية أن يمنع سفر إسراء ويحيي ويسحب جوازات سفرهما كوسيلة لابتزازي دون أي طلب محدد، لم أفهم لليوم دوافع سيادته، لكن اسراء تعاملت مع القصة بصلابة مدهشة، ومنها قرار بتقدمي لتوكيل طلاق للسفارة المصرية في لندن! وكما حدثت الأزمة فجأة انحلت فجأة، بعد استجوابات ونحوها عادت الحوازات دون أن نفهم هل تم حل المشكلة ذاتيا أو عبر وساطات خير أشكر أصحابها.
لكن ما يعنيني حقا هو تلك المرة التي أنا مسؤول عنها، وقلت لإسراء لاحقا، ومنذ ما قبل السرطان، إنها أسوأ ما أخطأت به في حياتي معها، وهي قراري الأناني بالسفر إلى زمالة دراسية في البوسنة عام 2018. فجأة وجدتني إسراء أخبرها أني سأتغيب شهراً لأدرس زمالة إعلامية ما.
وضعتها أمام الأمر الواقع كأنه من الاعتيادي أن تعيش وحدها تماما مع ابنها ببلد غريب.
وكالعادة لا تأتي المصائب فرادى، شهد ذلك الشهر تحديدا سيولا جارفة أدت لانهيار سقف منزلنا المتهالك حرفيا (أمضينا خمس سنوات في منازل كانت تابعة سابقا للبلدية، كلها قديمة البنية وضيقة، قبل أن “يوسعها ربنا علينا” كما أصبحت أقول بعدها، حين أمكننا الانتقال لمنزلنا الأخير المستقل ذو الحديقة بذلك الحي الأبعد والأرخص والأجمل). شاهدت منظر سقف غرفة النوم الصادم حيث انهار جزء من خشبها وتحته ألياف العزل المبطنة وجبل من الطين دمر السرير الفارغ وقتها لحسن الحظ. ترعبني إلى اليوم فكرة أنه كان يمكن أن يسقط فوق إسراء ويحيي، كما يرعبني تخيل شعورها يوم سمعت صوت الانهيار فجرت مفزوعة لحجرة النوم وشاهدت ما حدث.
تابعت إسراء مع العمال وصاحب المنزل إصلاح السقف، ثم تركيب أرضيات جديدة، وموكيت جديد، ووحدات تدفئة جديدة، وفي أثناء ذلك ساهمت في نقل أثاث المنزل كلها لغرفة واحدة وإعادته، ومبيتها مع ابنها منفردة بغرفة بديلة..الخ الخ من المهام الشاقة.
منذ "واقعة البوسنة" تلك انكسر بيننا شيء عاطفيّ ما لم يعد بعدها أبدا للأسف..
قبلها كانت إسراء أحيانا تناديني بينما أنا ساهر لأكتب لتطلب أن آتي الآن فورا لأنه لا يمكنها النوم وحدها، لكن منذ ذلك اليوم انتهى ذلك تماماً. قالت لي أني أنا من جعلتها تعتاد النوم وحيدة بلا أي مشاكل، وما أقسى ذلك الشعور. اعتذرت طويلا، لكن لا تغير الاعتذارات من الواقع.
وإن كان ثمة عزاء فإنه بوقت مقارب أتم يحيي سنواته الأربع، فحان دور إسراء للعودة إلى سوق العمل، وصممت إسراء أن يكون ذلك مستقلا عني وبعيدا عن مجالي الإعلامي أو الطبي، وكذلك بعيدا عن "المونتسوري" والأطفال حيث يكفيها طفل واحد بالمنزل. سهرت إسراء يوميا تغرق مواقع التوظيف الإنجليزية برسائلها التي غيرت فيها بالسيرة الذاتية ترتيب المؤهلات والخبرات حسب مجالها الأقرب لدراستها بالكلية: إدارة الأعمال والتسويق، حتى حصلت بلا أي واسطة على عملها الحالي.
قالت إسراء بعدها إنها تدريجيا أصبحت أيضا تتفهم بعض الأمور بشكل مختلف، مثل أنماط معينة من ضغوط العمل والانغماس فيه.
في آخر عيد زواج سعيد لنا في مايو 2021، حجزنا يومين في فندق، استغللناهما للاستجمام والتقارب ونقاش ما مضى. كلانا اتفق على ما نشعر به من رضا بحمدالله بعد ثمان سنوات من الزواج أو عقد من العلاقة.
عبر السنوات نضجت علاقتنا أكثر، صارت العواطف أهدأ، لكنها أكثر استقرارا.
كلانا تغير في أفكاره وآراءه وبعض طباعه، تطورنا معاً بهدوء، واحترمنا مواضع الاختلاف، وحاولنا المقاربة بمواضع التقارب.
أنا كسبت صديقا ذكيا لا أثق إلا فيه قبل أي شخص آخر.
تكفيني نظرة رضا في عينيها لملابس جديدة لأقتنع بها فورا، أو نظرة استهجان لأكرهها بشدة. أقول لها: "أنا بألبس لزبون واحد".
دائما كانت إسراء أول من يقرأ لي مقالاتي وأعمالي قبل النشر وكم أفادتني بشدة، وكم أجريت تعديلات بناء على ملاحظاتها البناءة.
لم أصل إلى معاييرها بالنظافة المنزلية لكني ارتقيت، كما أن بعض العواصف مازالت تنجم من مبالغتي في العمل لكنها صارت أكثر تفهما.
سبق لي أن شبهت الكتابة بالطبخ، المقادير في كل الوصفات واحدة، لكن لا توجد طبختان متطابقتان تماما، يتداخل عدد لا نهائي من العوامل، بعضها يمكن حسابه مثل مصدر الخامات، أو نوع الفرن، وبعضها خارج الحسابات ما نصفه شعبياً بـ "النَفَس" أو يُترجم احترافياً إلى عامل الخبرة.
العلاقات الإنسانية أيضاً وعلى رأسها الحب كذلك.
مثلا لا يوجد "ترموميتر" لقياس الدرجة التي تتحول عندها صفة الاهتمام المرغوبة إلى صفة الحصار المرفوضة. وثمة شعرة بين التمسك بالرأي وبين العناد، بين الكرامة والغرور، بين احترام الخصوصية واللامبالاة.
ما يحدد الدرجات المضبوطة لكل متطلب من الشريك هو توازن دقيق يتطلب من الطرفين سعياُ، وصبراً، ومصارحة.
تم إنضاج علاقتنا على نار هادئة جدا.
لم أعد أنظر بانبهار إلى إسراء بشكل مثير لضحك من حولنا، لأنها أصبحت جزءا مني.
إسراء أصبحت "أنا".
هل أفكر لو كانت يدي أو قدمي يمكن أن تغادرني؟
أذكر أننا تسائلنا هل يمكن أن تمضي بنا الحياة سعيدة هكذا رغم كل شيء؟
قلت لإسراء ربما تستمر ولو لبعض الوقت، ولسنا هانئين بكل شيء بالنظر لما حدث منذ وفاة والدتها تحديدا.. قلت هذا قبل أيام فقط من التشخيص.
كأن اللعنة كانت شبحا يحلق فوقي ويستعد لإسدال ستاره الأسود على حياتنا بينما نحن نتحدث ونضحك ولا ندري شيئا بعد عن النبأ الرهيب..
****
أربع إیدین، أربع شفایف على الفطار، وشاى بلبن
أربع إیدین، وأربع شفایف على الفطار
یبوسوا بعض ویحضنوا نور النهار
بین صدرها وصدره وبین البسمتین
بیحضنوا الحب اللى جامعهم سوا على الفطار
ویحضنوا الشمس اللى بتهز الستار
وتخش من بین الخیوط وبعضها مع الهوا
في الأوضة ترسم نفسها على أرضها
على البساط اللى اشتروه مع الجهاز
على الغرام اللى اشتروه
من غیر تمن، وع الإزاز
ویشربوا الشاى باللبن فى فنجانين
بیصحو ا قلبى كل لیلة فى المنام
وبیكتبوا بلون منور فزدقى
على الهوا الأسود وع الجفن اللى نام
بیكتبوا بلون منور فزدقى كلمة: سلام
من أغنية شاي بلبن - كلمات الشاعر صلاح جاهين - غناء يسرا الهواري (والتي كانت سابقا عضوة بفرقة الطمي)
اعتبرناها إسراء وأنا الأغنية المعبرة عن حياتنا ولطالما تشاركنا غنائها.
***
14 نوفمبر 2022
رائحة فضلات البشرية تملأ غرفتي.
في البداية لا أفهم هل هناك مشكلة صرف في مستشفى مرموق بقلب لندن.
ثم أستوعب أن المشكلة من عندي. هل عدت لفقد التحكم في فضلاتي؟! أتحسس ملابسي الداخلية فأجدها سليمة.
تدريجياً أفهم، إنه ذلك السائل البني الذي تقيأت منه كثيراً في لأطباق المفتوحة المنثورة حولي، وكذلك في كيس نزح السوائل.
إنني أخرج من فمي الآن فضلاتي البشرية .. خرائي!
كانت القصة قد بدأت بليلة مجنونة بالأمس، حيث استيقظت منتصف الليل فجرا وأنا في حالة من الهلع والهذيان لم أعهدها أبدا. حقا أنا لا أعلم من أنا وأين أنا؟ أحاول تذكر من صاحب هذا الجسد؟ من هذه الفتاة الحزينة أمامي؟ أحاول التواصل إلى جسدي ولا أصل إليه، كأن روحي انفصلت تماما عنه. أراني من الخارج وأتحدث إليّ لكن صوتي لا يخرج. قرأت لاحقاً أن هذا يشبه ما مر به بعض من تناولو العقارات المهلوسة "سايكيديليك" ويسمونها رحلات "تريبس". لكني لم أتناول أي شيء.
بهلع فكر جزء مني: هل أنا جننت وهذاما يفعله المجانين؟ يبقون للأبد بذلك الوضع المعلق؟ ام أنا أموت وتخرج روحي الآن؟ أخذت أهتف بالشهادتين بصوت مرتفع وهستريا أمام حوض الحمام، ما أفزع إسراء بشدة، لكنها رغم ذلك احتفظت بقدرتها على استدعاء التمريض ليعطوني جرعات أدوية عاجلة أعادتني للحياة بشكل ما.
اليوم صباحا قالوا إن ما يحدث من اعراض استمرار الانسداد التام، واحتجاز مادة الجاستروجرافين، خاصة أنه الممرضة فشلت بالأمس في إدخال الأنبوب الذي انحشر مرتين. لذلك قرروا اليوم تركيب الأنبوب تحت أشعة "إكس" مع طبيب متخصص ومخدر موضعي.
وهكذا وجدتني قد تحولت إلى مشهد السيارة تحت يد الميكانيكي، جسدي أقرب لمجرد آلة يتم تسليكها. كان الطبيب يغير مقاسات القسطرة ويدفع بشدة فانفجر القئ مني واختنقت، فتوقف الطبيب وخيرني إن كان يكتفي بهذا القدر أم يكمل ويدفع بشدة محاولا فتح ذلك الانسداد الرئيسي. أراني المشهد في الشاشة فشعرت فتملكتني قوة هائلة، هذه
روح المقاتل التي يتحدثون عنها، فقلت لنكمل فورا مهما حدث؛ وهنا دفع الرجل القسطرة بشدة مرة وأخرى، ثم انفجر السيل أخيرا.
سيل من "خرائي" الكريه المحشور منذ نحو أسبوعين، وهاهو يملأ حولي صحون القيء الورقية فضلا عن كيس الأنبوب الذييحاول التمريض ملاحقته.
شعرت بالرثاء الشديد لإسراء وهي التي كانت تأنف من أدنى خدش للنظافة أو الرائحة فهي تتحمل الآن كل هذا بطيب نفس.
تذكرت أبيات المعتمد بن عباد الرثاءية لبناته اللاتي شهدهن يلعبن متسخات، بعد أن كن متعطرات بأغلى العطور حتى أن المعتمد بواقعة شهيرة استبدل الطين بمزيج المسك والعنبر لزوجته:
.
يطأن في الطين والأقـدام حافيـةً .. تشكو فراق حذاءٍ كـان موفـورا
قد لوّثت بيد الأقـذاء اتسخـت .. كأنها لـم تطـأ مسكـاً وكافـورا
لكن المعتمد يعترف بذنبه، فالزمان قد دار عليه بعدما كم حكم "على الأقوامِ في صلفٍ"، بينما أنا لم أحكم في صلفٍ أو غيره على أحد، فما ذنبي؟
انتهزت فرصة مغادرة إسراء لأحد شؤون يحيي فقررت أن أغير ما بيدي، تراجعت كمية القيء فقررت التوقف عن استخدام كل الأطباق الورقية المفتوحة وتخصيص واحد فقط مغلق بالحمام، وكذلك تناولت جرعات إضافية من مضادات القئ، وعطرت الغرفة بمعطر للجو. ناديت الممرضة لتساعدني في تغيير ملابسي التي اتسخت هي الأخرى بالسائل البني الكريه، ورششت على نفسي عطرا أعرف أن إسراء تحبه.
هكذا ستقتصر رائحة فضلاتي (خرائي) في داخل هذا الكيس ذا السوائل القريبة من أنفي، ولأجد انا حلولي الخاصة.
كانت إسراء تنوي ان تساعدني على تغيير ملابسي حين تأتي، لكنها فوجئت بما حدث وسعدت به.
إن كان بيدي شئ أقدمه لها فليكن هذا؛ أن أخفف من رائحة خرائي، فيالها من هدية سرطانية رومانسية!
****
في مقطع من كتابها "باولا" تروي إيزابيللا الليندي أنها حاولت إقناع زوج ابنتها المحتضرة بالتسرية عن نفسه، تقنع نفسها عبر إقناعه بتقبل فكرة فقدها، لكن إرنستو يرفض بإصرار:
"لا معنى لأيِّ شيء من دون باولا. ليس هناك ما يستحقّ الذكر. فمنذ أن أغمضت عينيها انزاح الضوء عن الدنيا. لا يمكن للربّ أن ينتزعها منِّي، وإلاَّ فلماذا جمعني وإيَّاها؟ ما زالت أمامنا حياة طويلة لنتقاسمها معًا! إنَّه امتحان فظيع، ولكنَّنا سنتمكَّن من تجاوزه.."
لكن لاحقاً لا يجد أرنستو مفراً من التساؤل الحائر:
"أنكون أنا وباولا قد أحببنا كثيرًا، واستنفدنا بشراهة السعادةَ المخصَّصة لنا؟ أنكون قد التهمنا الحياة؟"
*****
١٧ نوفمبر ٢٠٢٢
هواء!
أبحث عن ذرة هواء واحدة فلا أجد!
أشعر بضيق تنفس فأرسل رسالة لأمي أطلب منها ان تدعو لي أن يفرج عني.
الساعة الحادية عشر، كنت تناولت أدوية ما قبل النوم ذات المواد المُغيبة وتم توصيلي بالتغذية الوريدية المعتادة التي أبقى عليها ١٢ ساعة يوميا، لكن هذه المرة ما اختلف هو توصيلي بكمية إضافية من المحلول الملحي لتنظيف مجرى الكلى الذي تزايدت فيه أرقام "اليوريا".
فجأة أعجز عن سحب نفس واحد.
خرج مني زفير ولا شهيق بعده.
أرى الموت حرفيا.
أقفز واقفا بشكل يفزع إسراء، بينما أهمس بصوت متحشرج بالشهادتين.
بالأرقام بدأ معدل الأوكسجين يهبط في الدم رغم أني أضع قناعاً يمدني به.
بآخر ما بقى من رمق الحياة نزل عليّ الإلهام، كاسم أمي: السبب هو هذا المحلول الإضافي. رأيته وقد تراكم في آخر مساحة باقية في صدري وجذعي، حيث كنت لاحظت قبل أسبوع أن يوما كهذا ترك أثرا لم يزل في كمية الانتفاخ بقدم الفيل عندي.
صحت بجنون بينما أرى الموت في الممرضة التي استدعتها إسراء أنه يجب الآن فورا فصل كل شيء عني. مفزوعة أوقفت التدفق لكنها ذهبت لتسأل الطبيبة الأكبر عن الفصل، لأنه يعني عدم إمكان استعادته طيلة الليلة. سرعان ما أتى الرد بالإيجاب وإن هذه المضاعفات قد تحدث!
أمضيت ليلة جحيمية. بالكاد تمكنت من استعادة بعض التنفس بعد ساعة. ثم صرت أغفو وأصحو وأهلوس بين أدوية المسكنات والمنومات المتلاحقة، وأنظر إلى عقرب الساعة بينما هو لا يكاد يتحرك.
يمر عمر كامل في الأحلام، أرى فيه أصدقاء قدامى وذكريات طفولتي المبكرة. أول طبيب أطفال لي، وأول شجار مدرسي أحمق. ثم أجد أنها خمس دقائق فقط مرت، وأن إسراء قربي تمسك يدي وتبكي. أسمع إسراء تهمس: لا حول ولا قوة إلا بالله.
لكني في نهاية الليلة نزل عليّ هدوء وسكينة بشكل مفاجيء ونمت ساعتين، ثم ساعتين.
في اليوم التالي تحول هذا إلى هاجسي الجديد: التنفس.
لحسن الحظ كان لدى الأطباء ما يفعلون. جعلوا الأمر أولوية جسدية ونفسية لهذا اليوم. هكذا تم عمل اجراءات تتضمن عملية جراحية لنزح سوائل الرئة اليمنى، وهكذا تمت إضافة صديق آخر "صديق الوزن" لي، هو علبة بلاستيكية كبيرة ممتدة من أنبوبة غليظ يحمل سوائل الرئة.
وكذلك كان أفضل قرار هو خفض كمية السوائل التي أتلقاها عبر التغذية الوريدية.
أسفر هذا عن تحسن فعلي لحظي كبير. لا أصدق عيني وأنا أرى أكياس سوائل ودماء كبيرة تخرج من بطني ورئتي.
وهكذا اليوم فقط التقط انفاسي اللاهثة وبسرعة أدون الأحداث الماضية وأعيد تركيبها مع نصوص قديمة عبر أشهر لانتاج هذا الفصل الخاص بإسراء، والذي طالت كتابته لأشهر وانتهت بي الآن أملي السطور عليها شفويا محاولا عدم بعثرة الفقرات، وبنفس الوقت ألا أتحدث باسم إسراء، لتكون كما هي دائما، ذات صوت مستقل لا يتداخل مع صوتي.
بالعودة لمسار ذاك اليوم: عانيت مساءا تعقيدات جحيمية من نوع آخر، فلم يعد بإمكاني النوم على جانبي الأيمن الذي اعتدته بعد تركيب الأنبوب، وهكذا صار على إسراء أن تقوم كل ساعة أو اثنين بتباديل وتوافيق عديدة على ترتيب وسادتي لأنام فقط على ظهري، بالإضافة لإمدادات دوائية لا تنقطع.
باليوم التالي بحمدلله تمت إزالة "مسمار جحا" هذا من رئتي فكأنما أعتقوني.
أحاول الابتعاد عن الحكم المكررة، لكني لا يمكنني مقاومة التفكير في أنه ما أهون دنيا لا تساوي دخول أو خروج نفس هواء أو شربة ماء أو لقمة طعام.
هي أمور طالما سمعتها، لكن معايشتها مختلفة تماما، وحقا وصدقا "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى
***
ابني الحبيب يحيي،
لأول مرة أوجه لك الحديث في هذا الكتاب، والذي لم أضع اسمك في اهداءه، لا لشيء إلا لرغبتي في عدم تحميلك أي عبء نفسي ولو بإلزامك بقراءته.
هذه ليست رسالة لتقرأها كوصية بعد وفاتي، بل أرانا نقرأها معاً كمحاولة لإمضاء "كواليتي تايم" كما يسمونه هنا، أو ربما تحب أن تتعلم أفضل عن اللغة العربية، وقتها سيكون أبوك وكتابه بالخدمة إن لم تجدنا مملين. أفهم تماما الفارق بين من لغته الأولى العربية والإنجليزية وأنا عازم على احترام اختياراتك واختلافاتك.
كم أبهرتني يا بني منذ سنواتك الأولى.
في لحظة ما من عامك الثاني انفجرت داخلي مشاعر الأبوة نحوك بلا حدود.


1670399335800.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى